الصراع الطائفي في العراق .. جذوره التاريخية وأبعاده القديمة والمعاصرة
قبل أيام طُلب
مني أن أكتب مقالاً في أحد الصحف الحديثة العهد حول الوضع العراقي الراهن
ولا يختلف أي مراقب له في أن الطائفية كانت ولا زالت من أكبر المخاطر التي
برزت منذ غزو البلد وتغيير النظام فيه قبل نحو عقد من الزمن.
ولقد احترت في
شكل إخراج الموضوع وترددت كثيرًا، لا لأني غير قادر على التوصيف والتأصيل
لهذه الظاهرة الخطيرة وجذورها وأبعادها وتداعياتها؛ بل لأني قد أكون
محكومًا بإطار فني محدد متعلق بطبيعة الكتابة الصحفية من جهة، وبإطار واقعي
متعلق بالظرف الزماني والمكاني الذي نعيشه في العراق اليوم، وكلا الإطارين
يعيقان عمليه التوصيف والتأصيل لهذه الظاهرة، ويجبران أي كاتب عن النأي
بالنفس والاكتفاء بالعرض الشكلي للقضية. وهذا ما لا أريده ولا أحسنه.
الطائفية في
العراق اليوم ليست مجرد مصطلح متداول إعلامياً، ولا هو كلام عن إشكالات
طارئة برزت بعد الغزو وسرعان ما تختفي مع مرور الزمن.
الطائفية اليوم ظاهرة وثقافة أيضاً:
هي ظاهرة لأنها لم تعد مجرد ردود أفعال عفوية، وليست كذلك من قبيل ما يتهامس به الناس هنا أو هناك بالسر والعلن في إطار محدود.
وهي ظاهرة لأنها
أصبحت سلوك مرئي ذو بعد جمعي استقطابي يهدف إلى إعادة رسم الخارطة الذهنية
للإنسان العراقي بشكل يجعله محبوساً في إطار كبير اسمه الطائفة، وهو في
الحقيقة صغير وصغير جداً إذا نظرنا إليه نظرة عقلانية منطقية.
والطائفية ثقافة
لأنها تستمد قوتها وامتدادها - ظاهريًّا - من الموروث الثقافي المرتبط
بالبعد التاريخي بكل مراحله وإشكالاته القديمة والحديثة والديني متجاوزة
بعده المقدس ووظيفته.
وهي ثقافة لأنها اليوم تدرس في السر والعلن تصريحاً أو تلميحاً، وحتى بلغة الإشارة.
وهي ثقافة لأنها
في الظاهر أيضًا أخذت من مفهوم الثقافة ذات الأبعاد والتشعبات التي يمكن أن
يمثلها، فقد دخلت في السياسة وما يرتبط بها، وإلى مفردات الحياة
الاجتماعية، وتسربت أيضاً إلى التعليم والفن بكل أشكاله، والإعلام بشتى
صوره ووسائله، حتى ممارساتها العملية تداخل فيها البعد الرسمي والنخبوي مع
العامي والمحلي، وغدا من المستحيل التفرقة بينهما.
وهذا بالمجمل
يؤكد ترسخ الطائفية في العراق باعتبارها ظاهرة وثقافة أيضاً. هذا الوصف
البريء والنرجسي يمكن أن يكون مقبولاً كمقال صحفي يراعي الجانب الفني
والزماني والمكاني أيضاً، ولكنه من الناحية الواقعية بعيد كثيراً عن
الحقيقة في شكلها الآخر، والتي يجب أن تنشر وتعلن ويفهمها الناس كما هي
وبدون استعارات ومصطلحات تحمل أكثر من معنى وتوجه.
ففي العراق تبدوا
الصورة أكثر وضوحاً خاصة في هذه الأيام. فهذا البلد الذي ابتلاه الله ونكب
أهله بأنواع من البلايا التي تهون أمامها الزلازل والكوارث المدمرة التي
نسمع عنها هنا وهناك، ولعل الطائفية من أكبرها وأشدها، ومنذ سنين ونحن
كغيرنا نبحث عن تفسير منطقي لما يجري على أرضنا، ونبحث عن إجابات أو تصورات
لحلول، نحاول أن نركز بعقولنا، ونتجاوز عواطفنا، ونقفز فوق انتماءاتنا،
ولكننا نعود من حيث لا ندري إلى نقطه الصفر، وإلى حيث ما نعتبر الحديث عنه
من المحرمات، أو يمكن أن يضر بنا وبمصالحنا، أو يثير قضايا بالغة الحساسية
الناس في غنىً عنها اليوم.
نفتش في الكتب
التاريخية القديمة التي كتبت عن تاريخ هذه الأمة لا سيما تلك المشهود
لأصحابها بسلامة المعتقد والنية، والذين تطرقوا لتلك الأحداث التي جرت هذه
الأرض، والتي ترتبط بقصة الصراع الطائفي، وإن كانت تلك الكتب لا تحيلنا إلى
هذا المعنى تحديداً بقدر اهتمامها بعرض الأحداث وفق تسلسلها الزماني،
والحكم عليها وعلى شخوصها من خلال الإطار المرجعي الإسلامي، المستند إلى
ثوابت العقيدة الإسلامية الصحيحة، وما يرتبط بها، أو يتفرع عنها، وبما يتفق
مع إجماع الأمة منذ عهودها الأولى.
وهذا لا يعني
الاستغناء عن كل تلك الجهود التي بذلها مؤرخون وباحثون كثر دونوا تاريخ تلك
الحقب، خاصة تلك التي تلت سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية، غير أن أي
قارئ أو باحث أو مهتم يجد نفسه مضطراً للتعامل بحذر مع هذا الكم الكبير من
الأخبار والمعلومات المدونة؛ لأنه يتعامل مع جهود بشرية أولاً، وليس فقط
كتابات مجردة. وثانيًا هي تعبر عن توجهات ومشارب وميول وقناعات قد تبنى على
دليل قاطع أو قرينة ما، أو قد تبنى على ظن أو وهم، وقلما ينجو من ذلك أحد
حتى من المسلمين أنفسهم قدامى أو معاصرين.
ولقد وجدنا أن
هناك تاريخاً طويلاً ومؤلماً من الصراع ذو البعد الطائفي، أو لنكون أكثر
تحديداً وصدقاً بين عامة المسلمين من أهل السنة وبين الشيعة ومن يمثلها،
وهذا الصراع امتد زمانيًّا منذ مراحل مبكرة من تاريخ أمتنا، وهو مستمر إلى
الآن، ومكانياً حيث شغل أغلب أقاليم الأمة ومدنها لا سيما بلاد العرب التي
نالها منه الكثير وخصوصاً أرض العراق. هو صراع لأنه يتجاوز حدود الاختلاف
العقدي أو الفكري المبرر أحياناً في ظل تنوع مواهب الناس واستعداداتهم
واختلاف مشاربهم وقناعاتهم، وهو صراع لأنه اتخذ طابعاً عنيفاً ودموياً في
أغلب فتراته، وهو صراع لأن آثاره وتداعياته كانت ولا زالت تغذي عوامل الشرخ
والانقسام في الأمة، وظلت سبباً في تأخرها واستهانة الأعداء بها.
ولعل اللافت أن هذا الصراع
تشابه في بعض ملابساتها مع ما نمر به اليوم من أحداث في العراق وفي غيره،
ونقطة التشابه الرئيسة: أن هذه الصراع كان يظهر للعلن وتزداد وتيرته كلما
ارتبط بدولة أو بقوة تدعم أو تتبنى التشيع، وهذه الدولة أو القوة تحرض
العوام والخواص على مخالفيهم - من عامة أهل السنة - وتدعمهم مادياً
ومعنوياً، وحتى عسكرياً، وتوفر بيئة مناسبة لهذه الأفكار والتوجهات،
وملاذات آمنة لها ولأصحابها، وقد يصل الحال بها إلى حد التآمر عليهم
والاتفاق مع أعداء الأمة.
وإذا تجاوزنا
القرنين الهجريين الأول والثاني كونهما كانا الفترة التي ظهرت وتبلورت
فيهما فكرة التشيع بشكل شبه كامل، والتي كانت أرض خراسان والبصرة والكوفة
بيئة مناسبة لها ولدعاتها، كما أن الظروف والأحداث التي تلت استشهاد سبط
رسول الله الحسين بن علي رضي الله عنهما عام 61هـ، والصراع مع الدولة
الأموية والعباسية في أول عهدها.. كلها كانت عوامل مهمة في تبلور هذه
الفكرة، كما أن هذا الظهور كان مرتبطاً في بعض جوانبه بظهور الكثير من
الفرق الضالة والهدامة كالمعتزلة والقدرية والمتصوفة وغيرهم.
ومع دخول القرن
الثالث وابتداء مرحلة الضعف في الدولة العباسية، وسيطرة البويهين على بغداد
عاصمة الخلافة العباسية في عهد المستكفي العباسي عام 333هـ، دخل الصراع
السني الشيعي مرحله جديدة كان في أغلب فتراته دموياً، وقد سجل المؤرخون
ظهور الكثير من مظاهر التشيع المغالية بشكل علني وسافر آنذاك، كسب الصحابة،
وإحياء ذكرى عاشوراء، ومقتل الحسين رضي الله عنه، وبرعاية من رجال بني
بويه الذين كانت لهم الكلمة الفصل في ذلك الوقت، ويمكن للقارئ أن يطلع على
ما دونه ابن كثير في البداية والنهاية، والذهبي في تاريخ الإسلام، والسيوطي
في تاريخ الخلفاء عن أحداث سنه 340هـ وما بعدها، والتي حملت بين طياتها
الكثير من ملامح ذلك الصراع الذي أشر بداية الظهور العلني للتشيع في بلاد
الإسلام، خاصة بعد اضطراب أمر الخلافة العباسية، والامتداد الواسع لدولتها،
وكثرة الطامعين فيها والخارجين عليها، وظهور الكثير من الأفكار والبدع
التي تسربت إلى جسد الأمة من خلال الاحتكاك بالأمم التي بقيت خارج الإسلام،
أو التي دخلت فيه بعد الفتوح الإسلامية.
وبقي الحال على
هذا المنوال الخطير إلى أن تمكن السلاجقة الأتراك الذي ناصروا الدولة
العباسية ومذهبها السني، وتمكنوا من القضاء على دوله بني بويه في عام
477هـ، وأزالوا فتنهم، وقتلوا شيخهم في بغداد أبي عبد الله الجلاب.
غير أن بذور
التشيع قد أنبتت فروعاً في أقاليم أخرى من دولة الإسلام كالموصل والشام
ومصر والمغرب والحجاز على يد الحمدانيين والقرامطة والعبيديين أو الفاطميين
الذين حكموا تلك البلدان فترات طويلة من الزمن، وكانوا سبباً في انتشار
التشيع وبروز مظاهره، وفيما بعد كان هذا الانتشار واحداً من أسباب سقوط
بغداد، وزوال الخلافة عام 656هـ \1258م بمساعدة أشخاص ذوي مناصب عالية في
الدولة العباسية، ومعروفين بانتمائهم لمذهب التشيع، من أمثال وزير المستعصم
- آخر الخلفاء العباسيين - المعروف بمؤيد الدين بن العلقمي؛ ليدخل العراق
دوامة من الغزوات المدمرة، والتي جعلته محكوماً من أربع دويلات، بدأت
بالمغول منذ سقوط بغداد حتى عام 1337م، حيث وقع تحت الاحتلال الجلائري إلى
عام 1383م؛ إذ وقع مجدداً تحت الاحتلال التيمورلنكي الذي دمر بغداد ومدناً
عدة، وحكى عنه بعض المؤرخين أنه فعل بالعراقيين أفاعيل يصعب تصورها، حتى
إنه صنع من جماجمهم أبراجاً لجنده، وقد انتهى عهدهم عام 1411م بوقوع العراق
تحت حكم دوله القرة قوينلوا، والتي تصارعت مع الصفويين وانتهى الأمر
بانتصار الصفويين واحتلال العراق ودخول الشاه إسماعيل بغداد عام 1508م؛
ليعود معه التشيع الصفوي ليجد له من جديد موطئ قدم على أرض العرب، ولتبدأ
معه مرحله جديدة تمثلت في صراع الدولة العثمانية التي كانت تمثل الإسلام
السني، والصفويين الذين حكموا إيران بين عام 907هـ \ 1501م إلى 1135هـ \
1722م، والذي مثل قمة الصراع الدامي بين الطرفين، واستمر زهاء القرنين.
ولقد كان ظهور
الصفويين بحق محطة الانطلاق الحقيقية لانتشار التشيع بثوبه الصفوي العنيف
والباطني والمتطرف على يد إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية، الذي قام
بفرض التشيع على الإيرانيين بقوة السيف والإكراه والحيلة أيضاً، وبدعم من
مراجع شيعية فارسية وعربية، بعد أن كانت إيران تدين كلها بمذاهب أهل السنة
الشافعية والحنفية، وكان الشيعة مجرد أقلية محدودة في مدن قم وكاشان
وسبزوار.
وقد فتح هذا
التحول الخطير أيضاً الطريق للصفويين للاستمرار بهذا النهج، ومحاولة نشر
التشيع في المنطق العربية ابتداءً بالعراق، ومن هنا كانت محاولاتهم
لاحتلاله، وهذا ما حصل فعلاً، فقد غزا إسماعيل الصفوي العراق عام 1508م،
وفعل فيه هذا المجرم ما فعله بالإيرانيين وأكثر، وأوغل في دماء الناس بقدر
ما أوغل في رفضه وتطرفه، وقد تم تحرير العراق على يد السلطان العثماني سليم
الأول عام 1514م، وقد أعاد الصفويون الكرة على يد الشاه عباس حفيد الشاه
إسماعيل، واحتلوا بغداد بعد حصار دام ثلاثة أشهر، وبدأت معه قصة فرض التشيع
بالقوة، وقد دام احتلالهم لها 15 عاماً، إلى أن تم تحريرها على يد السلطان
العثماني مراد الرابع في عام 1638م، وبعد اندحار الدولة الصفوية وسيطرة
نادر شاه على إيران، حاول غزو العراق عبر عدة حملات عام 1743م؛ فاحتل
وكركوك والبصرة، وحاصر الموصل أربعين يوماً، فأجبر على الصلح.
ونادر شاه هذا
خليط عجيب من المتناقضات، كان قائداً لآخر ملوك الصفويين، وكان جباراً
ومتطرفاً، وحاول إعادة توحيد بلاد فارس بعد أن عاشت سنين طويلة من الفوضى
العارمة، ونجح في ذلك، وعندما فشلت غزواته في العراق تحول فجأة إلى تبني
مشروع التقريب بين السنة والشيعة، وكان هو صاحب فكرة مؤتمر النجف الشهير
الذي عقد برعايته بالتعاون مع العثمانيين في عام 1743م، وقد نجح هذا
المؤتمر بسبب التنازلات التي قام بها نادر شاه، ورضوخ علماء العجم الذين
أحضرهم معه للمناظرة - والذين كان عددهم يناهز السبعين - لمنطق الحق، غير
أن هذا المشروع لم يكتب له النجاح بسبب الأوضاع الداخلية في إيران،
والإجراءات التي اتخذها نادر شاه ضد الكثير من المراجع الذين تمسكوا
بتشيعهم المتطرف، وقد كان نادر شاه نفسه ضحية هذا التطرف المذهبي والعرقي،
فقد تم اغتياله في 20\6\1747، ووئد مشروعه إلى الأبد، فعمت إيران
الاضطرابات والفوضى إلى أن تمكن القاجاريون من حكم إيران والسيطرة عليها
عام 1796م.
ولقد استمرت
دولتهم في حكم إيران إلى منتصف العقد الثاني من القرن الماضي، وفي الحقيقة
أن الدولة القاجارية كانت لا تقل عن الدولة الصفوية تطرفاً وظلماً، وقد سجل
لها المؤرخون دوراً بارزاً في نشر التشيع بين القبائل العربية في جنوب
العراق - بالاتفاق مع البريطانيين - والذي كان يعتبر منطقة غير مستقرة
يسكنها عدد كبير من القبائل العربية الرحل، والتي نزحت من الجزيرة العربية،
وفعلاً بدأت هذه الخطة المحكمة لنشر التشيع، فقوافل الوافدين الشيعة من
إيران في تزايد مستمر طلباً للزيارة أو للدفن، وهذا الاحتكاك كان له أثر
كبير في إزالة الحواجز النفسية والاجتماعية.
وكما ظهر عند
المماليك - حكام العراق تحت راية العثمانيين - توجه نحو توطين هذه العشائر
في جنوب العراق نظراً لأنها لم تكن تتمتع بأي شكل من أشكال المدنية؛ إذ لم
يكن فيها إلا أربع مدن تقريباً منها البصرة النجف وكربلاء والحلة، وربما
كان للعثمانيين - الذين مهدوا لهذا الأمر وغضوا الطرف عنه - حسابات أخرى
ترتبط بموقفهم من الدعوة السلفية الوهابية ودولتها السعودية الناشئة في
الحجاز، والتي اعتبرها العثمانيون تهديداً لهم، ومن هنا حاربوها وحرضوا
عليها، ولعل إيعازهم لمحمد علي باشا والي مصر خير دليل على ذلك، والذي أسهم
في النهاية من تحجيم دورها والقضاء على معظم نفوذها ودولتها بعد عدة حملات
شرسة، وحصار طويل، وذلك عام 1818م.
كما أن بروز
التصوف الذي ساد وطغى برعاية عثمانية، خصوصاً في القرنيين الميلاديين
السابع والثامن عشر في عموم أقاليم الأمة الإسلامية، والذي يلتقي مع التشيع
في الكثير مظاهره، ومنها تقديس الأضرحة والمقامات، والتي لقيت من بعض
سلاطين العثمانيين عناية خاصة، إضافة إلى ضعف قبضة العثمانيين على تلك
المناطق بخاصة بعد موجات النزوح الجماعي لعلماء الفرس الشيعة الذين هربوا
إلى العراق بعد سقوط الدولة الصفوية على يد الأفغان السنة، واستمرت هذه
الموجات تترا بين عام 1722م إلى 1763م، وأيضاً صعود دور المماليك في العراق
الذين حكموه 82 سنة ابتداءً من عام 1749 ونشروا الفوضى فيه، والتي استغلها
الفرس أحسن استغلال، وتوجوها باحتلال البصرة عام 1766م، وإبراز مظاهر
التشيع فيها، ورفعوا أذانهم فيها، حتى إنهم صكوا العملات التي تدل عليه.
ولقد قام مراجع الشيعة الفرس والعرب
بدور محوري في عمليه نشر التشيع في وسط وجنوب العراق عن طريق استغلال جهل
الناس وبساطتهم وثقتهم العمياء بشيوخ قبائلهم الذين نجحوا باستمالتهم
وإغرائهم بشتى الطرق، إضافة إلى اللعب على مشاعر الناس، واستغلال عواطفهم
عن طريق استغلال المآتم الحسينية التي كانت تقام في شهر محرم، واستغلال
المال والأعمال الخيرية من أجل هذه المهمة التي دامت زهاء القرن، وكان من
ثمارها أن تحول وسط العراق وجنوبه إلى التشيع بشكل شبه كامل، ولازالت إلى
حد الآن هذه العشائر العربية يتنازعها التسنن والتشيع حسب توزيعها الجغرافي
في العراق، ومن هذه القبائل: بني لام. وبني مالك. وبني تميم. والخزرج.
وشمر. وبني ربيعة. وغيرهم كثير.
ومنذ تلك الفترة
ووجود الشيعة في تلك المناطق - لاسيما العراق - ظاهر ومحسوس ومؤثر أيضاً،
ولقد أسهمت الكثير من العوامل الداخلية والمرتبطة بالتغيرات السياسية في
العراق وفي غيره من إبراز أدوار إيجابية لكل مكونات المجتمع، لاسيما الشيعة
فموقف أغلبيتهم كان ضد الغزو البريطاني، ومع حكم العراقيين لأنفسهم، وقد
كان هذا موقفاً وطنياً أكثر من كونه ذو خلفية طائفية، وهو شبيه لموقفهم من
ثورة عام 1920م ضد البريطانيين، والتي أسهم فيها الشيعة في الجنوب والوسط
مع السنة، والتي كان من نتائجها قبول البريطانيين بإنشاء حكم عراقي ملكي
عام 1921م، وأيد أكبر مراجع الشيعة آنذاك وهما محمد الخالصي ومحمد الشيرازي
قيام الملكية في العراق، وبايعوا فيصل الأول ملكاً على العراق، لكن بشرط
الاستقلال عن البريطانيين. أما الشيرازي فمات بعدها بمدة، وأما الخالصي
فانتهى به الحال منفياً خارج العراق بعد أن توضحت له نوايا البريطانيين،
فأفتى بعدم جواز العمل بالوظائف الحكومية، وعدم جواز انتخاب الجمعية
التأسيسية، وحرمة التصديق على المعاهدة مع البريطانيين، والدعوة لاستقلال
العراق، وقد كان لهذه الفتاوى أثر كبير على موقف الكثير من الشيعة من الحكم
الملكي في بادئ الأمر، كما كان لها أثر واضح على موقفهم مما جرى بعد
احتلال العراق عام 2003م كما سنرى.
ومما يسجل لمراجع
الشيعة والشيعة عموماً في العراق أيضاً: الموقف من القضية الفلسطينية منذ
الثلاثينات وما بعدها، والموقف من الاستعمار وأذنابه، والاعتداءات التي
حصلت على بعض الدول العربية، كالذي حصل مع مصر في العدوان الثلاثي عام
1956م، فكانت حماستهم واضحة، ورفضهم لما يجري على أرض مصر العروبة من عدوان
سافر وظالم، ومطالبتهم للحكومة بالتدخل آنذاك دليل على حرصهم وشعورهم
بالمسؤولية.
كما أن وعي
الساسة العراقيين في العهدين الملكي والجمهوري الأول والثاني، وذكائهم في
التعامل مع القضية المذهبية، وموقفهم الإيجابي من مراجع الشيعة، ساهم في
وأد مظاهرها إلى حد كبير، وتركيز اهتمامات المجتمع نحو مساحات أخرى؛ صحيح
أن هذا التعامل لم يكن مثالياً في بعض جوانبه، لكنه جعل عجلة البلد تسير
بعيداً عن تلك التوجهات التي يمكن أن يكون لها أثر سلبي إذا ما أثيرت، خاصة
في مجتمع متنوع المشارب والمذاهب كمجتمع العراق.
يضاف لذلك شيوع
النزعات القومية والناصرية والبعثية والاشتراكية والماركسية والشيوعية
واللادينية في الخمسينات والستينات، وكذلك التغييرات الاجتماعية المصاحبة
لنمط الحياة الجديدة آنذاك المتأثر بالنموذج الغربي.. كلها عوامل أسهمت في
إخماد الحس الطائفي لحد كبير وإشغال الناس بأمور أخرى أصبحت الشغل الشاغل
لهم بعيداً حتى عن أي توجه ديني أيً كان شكله ومصدره إلا في حدود معينة.
كما سجل التاريخ المعاصر
خلو العراق من أي مماحكات طائفية من أي طرف إلى نهاية عقد السبعينات
تقريباً، بالرغم من وجود نشاطات تثقيفية، وصدور العديد من المؤلفات والكتب
التي كثرت في المكتبات، والتي كانت تعنى بقضية الخلاف بين الشيعة والسنة.
ومع مجيء
البعثيين ابتدأت مرحلة جديدة في العراق مهدت لما بعدها من أحداث وردود فعل
متوقعة، خصوصاً بعد مجيء صدام عام 1979م المعروف عنه صرامته وتهوره
واغتراره بنفسه، ونزعته القومية المتطرفة، وبعثيته المفرطة حتى النخاع،
وحماقته أيضاً. وقد ابتدأ الرجل عصره مع مجيء الخميني إمام ثورة إيران الذي
ظنه بعض الأغرار من أهل السنة أنه سيعلنها ثورة إسلامية تجمع كل المسلمين -
وهيهات له ذلك - فأعلنها صراحة أنها ثورة شيعية، وإمامة تقوم على خلافة
المهدي الغائب من ألف عام، ونافق الناس بفتاوى وتصريحات، ولكن سياساته لا
بد أن تكشف عن مخبوء نفسه. وهذا ما حصل فعلاً؛ فكانت ثورته بداية الانطلاق
نحو إبراز الهوية الشيعية الجديدة، ولم تعد القضية ترتبط فقط في إنشاء دولة
تقوم على مذهب أهل البيت؛ بل لنشر التشيع باسم فكرة تصدير الثورة، ونصرة
المظلومين في الأرض، ومحاربة الاستكبار، وقد ظل الرجل أميناً ومطبقاً لكل
أفكاره وترهاته وضلالاته التي دونها في كتبه، ككشف الأسرار، والحكومة
الإسلامية، والتي كشفت الترجمات العربية عنها، وبينت حقيقة عقيدة هذا
الرجل، والتي جمع فيها تراث أسلافه وشيوخه منذ القرنين الأول والثاني
والثالث، مروراً بالصفويين والقاجاريين وغيرهم.
وفي المقابل كان الغباء السياسي في العراق،
وعقلية الحكم المطلق والذي افتقر لرؤية شمولية واضحة، مع غياب البدائل
النخبوية الفاعلة، والانشغال بالحروب والصراعات، والموقف العنيف والظالم
تجاه حركات التمرد لاسيما بعد كارثة غزو الكويت عام 1990م.. كلها عوامل
فاعلة في بروز الحس الطائفي بشكل واضح، وازدياد حركات المعارضة التي لم تكن
مؤثرة طوال عقد الثمانينات؛ بالرغم من الحرب الطاحنة والعبثية مع إيران.
وهذه الأمور كلها مهدت لما حدث في العراق بعد غزوه على يد أميركا وحلفائها قبل عقد تقريباً.
فالوضع الذي ترتب
بعد الاحتلال كان أخطر بكل أبعاده من كل ما مر على بلدنا وأخطر حتى من
الاحتلال نفسه، وإن كان له دور بارز في إشعال فتيل الاضطرابات عن طريق دعمه
لنظام المحاصصة الطائفية والعرقية، والتي بنيت على حسابات رجال المعارضة
الكرد والشيعة، والتي كان من ثمارها تهميش السنة بدعوى أنهم أقلية محدودة
جداً، وأنهم محسوبون على نظام صدام.
كما أن انكفاء
الكرد على قوميتهم وإقليمهم ومكاسبهم - ولهذا التوجه ما يبرره نوعاً ما-
وفق اتفاق استراتيجي معلن مع السياسيين الشيعة؛ أخل بالتوازن بشكل كبير،
وأطلق يد النخبة الجديدة من الشخصيات التي ظهرت على الساحة، وابتدأت تتحدث
باسم الطائفة المنكوب والمظلومة والمحرومية، وكأن الشيعة وحدهم من ظلموا
دوناً عن بقية مكونات المجتمع العراقي.
كما أن العقل
السني ظل قاصراً عن استيعاب ما يجري على الساحة، ولم يدرك مراجعه وشخصياته
إلا متأخرين أنهم ورطوا أنفسهم ومن خلفهم في مأزق شديد، فالدولة تبنى في
الظاهر، ومتطوعو الجيش الجديد والشرطة الاتحادية وقوات مكافحة الإرهاب -
كما تسمى - تكتظ بهم معسكرات التدريب، وملامح الدستور الجديد المفصل على
المقاس الشيعي والكردي بدأت تتضح، والسنة كأنهم في عالم آخر أو أرض غير أرض
العراق.
إن الشيعة استفادوا من خطأ بعض مراجعهم
إبان تأسيس الدولة العراقية مع البريطانيين عام 1921م الذين، والذين أفتوا
بحرمه المشاركة في العمل السياسي والوظيفي بوجود الاحتلال، فرموا بكل
ثقلهم السكاني مع مراجعهم من أجل اغتنام الفرصة، والأخذ بزمام المبادرة،
والقفز إلى المواقع الأولى للدولة التي تأسست أمام مرأى ومسمع الأمريكان،
ويا ليت الأمور كانت وفق هذا المنطق المقبول نوعاً ما طالما ظلت في حدود رد
الفعل الطبيعي، ويا ليتها كذلك بقيت قضية أغلبية تحكم طالما قبل الناس
بالأمر الواقع، واحتكموا إلى لغة صناديق الانتخابات لغة العصر الجديد - كما
يقال - فالأيام أثبتت أنه مشروع حكم أغلبية طائفية يقودها ساسة قاصرون لا
يفهمون من السياسة إلا اسمها، لا يدركون الواقع المحيط بهم، ثقافتهم ضحلة
ومشوهة، وفهمهم لحركة التاريخ وسنن الله في أرضه محكومة هي الأخرى في إطار
مذهبي ضيق، يعبر عن عقد مستحكمة في العقول والضمائر؛ باختصار يجب أن نحكم
لأننا ظلمنا منذ قرون؛ فهذه عدالة السماء فينا! وهذا ما سمعناه منهم
تصريحاً وتلميحاً.
طرق تعاملهم مع
الناس لا سيما المخالفين فجة واستعلائية، وأساليبهم للتأثير في الموالين
خاضعة لمنطق الأغلبية التي يجب أن تظل مؤدلجة ومسيرة مهما كان الثمن؛ لأنها
سر بقائنا في مناصبنا، وديمومتنا على عروشنا التي لم تمر علينا حتى في
أحلامنا؛ إنهم باختصار يعبر عنهم بعبارة شهيرة متداولة هذه الأيام: "ليسوا
رجال دولة".
كل ذلك كان له
أكبر الأثر على مجمل الأداء السياسي والاقتصادي والأمني، وانعكس فشلاً على
مختلف الصعد، لا سيما على الصعيد الأمني الذي كان من نتائجه استمرار نهر
الدم العراقي في الجريان، ولا أحسبه ينقطع اليوم أو غداً أو بعد غد.
ومن الظلم الكبير أن
يؤخذ الشعب كله بجريرة هؤلاء الساسة الفاشلين، أو أن يكون كل الشيعة راضين
عما يجري، أو مقتنعين بأسبابه ونتائجه، أو واعين لما يراد بهم ولهم.
ومن الظلم أيضاً
القول بأن السنة - خصوصاً العرب - كانوا يحملون صك البراءة والعصمة من
التقصير، وأنهم لمجرد تسننهم اتضحت لهم الصورة، وانعكس أداؤهم الجمعي
والنخبوي بشكل لافت يعكس حقيقتهم وخلفيتهم ومعدنه.
فالأمور كانت وما
زالت ضبابية في الكثير من جوانبها عليهم، وأصبحت الكثير من مدنهم الصغيرة
والكبيرة تعيش ذات الواقع المضطرب، وتتخندق طائفياً بشكل مرعب كردة فعل على
ما يجري من أحداث، كما أن الأفكار المتطرفة والتكفيرية وجدت لها موطئ قدم
ومناصرين في مدنهم وقراهم، وهذه الأفكار كان لها مع الأسف أسوأ الأثر في
زيادة تعقيد المشهد العراقي، من خلال استباحتها لدماء الناس من شتى
المشارب، وبشكل مرعب لا يقل أبداً عن تطرف المليشيات الطائفية المرتبطة
بالدولة، أو بالأحزاب التي تشكل تحالفها الحاكم.
لقد التبس الحق
بالباطل، وارتبكت أوضاع السنة، واختلفت قناعتهم وأفكارهم وتوجهاتهم، وأصبح
من المستحيل جمعهم على مشتركات واحدة إلا في إطار محدود يتصل بالنظرة
الكلية للأحداث، والموقف من السلطة الحاكمة الشيعية تحديدًا.
ولعل الانتخابات
الأخيرة أثبتت ذلك، فكثرة القوائم الانتخابية والشخصيات المرشحة من مختلف
التوجهات الثقافية والسياسة والاجتماعية والعشائرية والمزاجية أيضاً أثبتت
بشكل واضح واقع أهل السنة في العراق، ولم يعد مستغرباً أبداً أن تجد فيهم
من يؤيد قوائم السلطة الحاكمة ورجالاتها، وتلك ضريبة الديمقراطية كما يقال.
إن الساسة الحاكمين في العراق اليوم
حريصون كل الحرص على أن يبقى الاحتقان الطائفي قائماً بين أبناء البلد
الواحد، ولست أعني هنا المعنى المتبادر للذهن للوهلة الأولى، والذي يرتبط
بالبعد السلبي له وهو الاقتتال، وإن كانت الأرض والنفسية مهيأة له بشكل
لافت، إلا أنه يمكن السيطرة عليه وإيقافه كما فعل النظام السابق، ونجح إلى
حد ما. ونجحت السلطة الحاكمة الآن فيه، ولكن في إطار محدود أيضاً.
ونحن لا نريد أن
نجعل من بعضهم أبطالاً ذوي قدرات خارقة في التأثير في الناس واستمالتهم،
ولكن الحق نقول: إن هناك الكثير من العوامل التي كانت تصب في خدمة مشروعهم
الطائفي، فهم أنفسهم أدوات فاعلة ضمن خطة أكبر وأخطر مما يتصور وضعت
بصماتها الأولى بعد الثورة الإيرانية، وعلى يد الخميني وأتباعه.
ولكن الطائفية
التي يراد لها أن تبقى هي تلك التي تثبت أركان المذهب في هذه الأرض، والتي
تجتر التاريخ القديم والحديث للمسلمين، وتعتاش عليه، وتختص بنظرة فرقية
خاصة ومغايرة عن نظرة عموم المسلمين للإسلام والقرآن والسنة والفقه
والمذاهب. هي طائفية ذات بعد كوني خطير يستمد فكرته من طبيعة النظرة لفلسفة
التشيع، وحقيقة الأئمة أصحاب الولاية الكونية والمنزلة التي لا يبلغها نبي
مرسل ولا ملك مقرب. كما يقول الخميني بالحرف في كتابه عن الحكومة
الإسلامية، فالقضية أكبر بكثير من قضيه أئمة يرجعون بنسبهم إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أو هي شأن يتعلق بزيارات لقبور صالحين؛ إنها تركز على
فكرة الأحقية في تمثيل الإسلام، متجاوزة فكرة المذهب الخامس، ومستفزة
الأكثرية السنية في العالم الإسلامي عن طريق استغلال حجم الشيعة في العراق
وإيران أيضاً.
وهذا التوجه يشهد
له كم الكتب والإصدارات والصحف وسائل الإعلام والفضائيات التي تقرأ تراث
أهل السنة من تفسير وفقه وحديث وتاريخ بشكل مغاير تماماً، وبمعزل عنهم،
وهذا يفسر وجود أكثر من أربعين فضائية شيعية متخصصة في ذلك تبث من إيران
ودول عربية تناول أدق الجزئيات العقدية والفقهية، من أجل إقناع المتلقي
الشيعي بعدالة قضيته، وصدق مذهبه، وبطلان ما عداه، وحتمية انتصاره، مع
اختلاف في نسب التركيز. وهذه الفضائيات خدمت بصورة مباشرة وغير مباشرة موقف
الساسة الشيعة، وضمنت لهم أن يحتكروا السلطة عن طريق الحفاظ على ائتلافهم
الحاكم؛ بشرط تقييد موقف الأكراد حتى لا يميلوا باتجاه السنة، أو يفكروا في
ذلك.
وهي طائفيه ذات
بعد استراتيجي بعيد تهدف لجعل العراق عاصمة التشيع في المنطقة العربية، بعد
أن فشلت إيران طوال منذ ثوره الخميني في ذلك، وهذا ما نراه من خلال مد
جسور التواصل مع الشيعة في أكثر من منطقة عربية عن طريق الاهتمام بقضاياهم،
لا سيما بعد ثورات الربيع العربي، وتسهيل زياراتهم للأضرحة والعتبات
المقدسة عند كل الشيعة، ضمن خطة محكمه تقوم على تشجيع السياحة الدينية،
وافتتاح العديد من المطارات في المحافظات الشيعية، ومحاولة ضم أكبر عدد من
هذه الأماكن والتي تتبع إدارياً للوقف السني، كما حصل في سامراء، وتسخير كل
إمكانيات الجيش والشرطة والدولة لإنجاح مواسم الزيارات التي اكتسبت زخماً
عجيباً، واهتماماً إعلامياً ورسمياً يعجز عنه الوصف، ويستحيل لأي عاقل أن
يستوعب ما يجري، والأمر في ازدياد يوماً بعد آخر.
وهي تهدف أيضاً
إلى إحداث عملية غسيل دماغ للعقل الشيعي من أجل تعبئتها والتأثير في
قناعتها؛ باتجاه جعلها متقولبة في إطار فكري ومرجعي يغذي النظرة الكلية
التي تركز على فكرة الأغلبية الشيعية، وصد أي محاولة لاختراقها أو التأثير
فيها من أي جهة، حتى لو كانت من داخل أوساطها.
وهناك جهود
وأموال ورجال ووسائل إعلام تعمل في السر والعلن على هذا الأمر، وهي تستغل
رجال صحافة وتجار ورجال أعمال وأكاديميين وعلماء في مختلف التخصصات،
وفنانين ورياضيين حتى تبقى هذه الأغلبية تحكم البلد بأي ثمن، حتى ولو بساسة
فاسدين ومنحرفين.
حتى أعمال القتل
الطائفي التي تقوم به القاعدة وجهات أخرى، والمدان من كل الأطراف استغلت
أبشع استغلال من أجل ترسيخ مفهوم الأغلبية المظلومة.
وكان من ثمارها
أنها خلقت مزيداً من الانفصام والازدواجية والتناقض في الشخصية العراقية،
والتشتت بين انتمائه الوطني والمذهبي والعشائري، ومزيدًا من الشرخ في
البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع؛ فما الذي يتصوره المواطن السني
العادي وهو يلحظ الدولة واقفة بكل إمكاناتها من أجل موسم زيارة لقبر أو
مقام، والفضائيات الرسمية وغير الرسمية تنقل له مشاهد حية لأمور يراد لها
أن تلبس ثوب الدين، وعليه أن يتقبله كما هو، وأن لا ينتقد أو حتى يسأل عن
الحكمة، وإلا اتهم بالطائفية!
لكي تكون غير
طائفي في العراق الجديد عليك أن تشارك وتدعم ممارسات الشيعة في مواسمهم، أو
على الأقل تسكت كأنك لا ترى ولا تسمع؛ لأن النقد له عقوبة، إن لم يكن على
يد الدولة على يد ميليشياتها وعصائبها التي تتربص بكل من يلمز المذهب أو
ينبزه ولو بشق كلمة.
لقد تسربت الطائفية
إلى الدوائر الحكومية والجامعات والمدارس، وحتى المناهج التعليمية، ولم
تنفع معها بعض تلك الإجراءات الشكلية العقيمة. خذ مثلاً: يذكر الخلفاء
الراشدون الثلاثة بمقام الترضي في كتب القراءة والمطالعة والتاريخ
والإسلامية في المراحل الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، لكن الطالب الشيعي
خارج المدرسة ينقل له في البيت والحسينيات وعلى الفضائيات ووسائل الإعلام
الأخرى غير تلك الصورة البريئة التي يقرأها في مناهج الدراسة، والأكثر منها
أنها تسربت إلى عقول النخبة الأكاديمية العليا المثقفة، فأصبحت ترى وتسمع
منهم ما يثير الدهشة، ويبعث على الأسى والحزن على مصير النخب التي وصل هذا
الداء إليها.
إن هناك محاولة سرية وعلنية
لإعادة كتابة تاريخ العراق المعاصر، لا سيما بعد الاحتلال، فالذين حرروا
العراق وساهموا به، والذين قاوموا الاحتلال هم الشيعة دون غيرهم، وهم
ومراجعهم من فرض شروطه على الأمريكان، وفرض الدستور والانتخابات والانسحاب
من العراق.
وأخطر من ذلك:
هو ربط الإسلام السني بالتطرف والقاعدة، في محاولة لتشويهه بشكل مقصود
ومتعمد وموجه، والقفز وراء الحدود، والتعدي على الكثير من البلدان العربية
بشكل لافت بزعم أنها تدعم تلك التوجهات، أو أنها حاضنة فكرية لها.
ولعل الكل بدء
يحس لاسيما في عالمنا العربي بخطورة التوجهات الطائفية التي أخذت تتنامى،
خصوصاً بعد احتلال العراق، وبالتحديد في البلدان التي يتواجد فيها الشيعة،
والأمر قد يبدو للوهلة الأولى مجرد تحركات مشروعة تتعلق بالمطالبة بالحريات
والحقوق، ولا ينكر طبعاً حق الناس بالمطالبة بحقوقهم، ولا يمكن للأنظمة أن
تظل متجاهلة لها تحت أي ظرف، خصوصاً في عصر العولمة والانفتاح الإعلامي،
والثورات على بعض الأنظمة المستبدة؛ لكنها في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير.
إنها ترتبط بذلك الإحساس المبطن، والعقدة الكبيرة التي تعشش في عقل وكيان
الإنسان الشيعي، والذي غذتها الفتاوى والتوجهات الجديدة للكثير من مراجع
الشيعة ومفكريهم وقادتهم، وعززتها وسائل الإعلام بكل أشكالها المسموعة
والمقروءة والمرئية بشكل كبير والتي صورت لهم الإسلام مجموعة مظاهر
وممارسات مرتبطة بالجانب التاريخي أكثر من كونها حقائق دينية مرتبطة بهدي
الوحيين. وهذا هو لبُّ التوجه الجديد القديم الذي يعتمد على النظرة
السطحية، والقراءات المشوهة والانتقائية لتراث الإسلام ككل، والتي كأن لها
أثراً مدمراً وكارثياً على وعي الإنسان الشيعي، جعلته ينظر بشك وريبة
ودونية للإسلام السني، أو للسنة الذي لا يراهم متجاوبين معه ومع معتقداته.
ومن هنا ينزع نحو الرفض والتمرد، وقبول بعض نخبة التآمر مع أطراف خارجية
تحمل ذات التوجهات، مع واستغلال واضح وتضخيم لا مبرر له لبعض المظاهر
المرفوضة، والتي لا يخلو منها نظام أو بلد .. وكل ذلك من أجل خلخلة الأوضاع
السياسية القائمة المرتبطة بواقع بلدانهم، والتي كانت ولا زالت عوامل
استقرار وتوازن منذ نشأة تلك الدول وتشكلها، وهذا ما نراه اليوم بلداننا
العربية في لبنان والبحرين واليمن، وفي بلدان إسلامية أخرى كباكستان
وغيرها.
إن تفاقم
الصراعات الطائفية يعد من أكبر معوقات التنمية الشاملة في تلك البلدان،
إضافة إلى أنه يؤثر على مكانتها على المستوى الإقليمي والعالمي بشكل عام،
كما أنه يساهم في خلق ردود أفعال مضادة تساهم في نفور أبناء المجتمع من
بعضهم، خاصة في هذه المجتمعات المتنوعة المشارب والطوائف، واتساع الهوة
بينهم، وبالتالي تدمير النسيج الاجتماعي والثقافي، وتأطير الهوية الوطنية
الجامعة في إطار ضيق محكوم بأساليب من النفاق المجتمعي والازدواجية في
التعامل مع الناس على أساس الانتماءات، والذي يمكن أن يتسرب إلى كل
المستويات السياسية والنخبوية والعامية والشعبية أيضاً، وحتى خارج حدود
البلد كما هو حاصل في العراق وغيره اليوم.
وإلا كيف لنا أن
نفهم كيف أخذ العقل الجمعي الشيعي الرسمي والنخبوي والشعبي موقفاً موحداً
من الثورة السورية، ولم تهزه أو تؤثر فيه مناظر الدمار الهائل، والأشلاء
المتناثرة، والدماء التي سالت على كامل التراب السوري، والتي كانت بفعل
طاغية العصر الذي أصبح اليوم محسوباً على الشيعة، لم ينتفض هذا العقل
وأبواقه إلا حينما نبش قبر، أو كاد يهدم ضريح، أو كان هنا انفجار على مصلحة
حكومية تابعة لذلك النظام المتهالك. هذا الموقف اللاشرعي اللاأخلاقي
واللاعقلاني والذي لم يساوي حتى موقف بعض الدول الغربية التي تدفعها
المصالح أكثر من أي شيء آخر!
ولا يمكن تصور
تداعيات هذا الموقف الجمعي خاصة بعد أن يسقط نظام الحكم في سوريا - وهو
قريب إن شاء لله - على العلاقة بين السنة والشيعة، وعلى مختلف الصعد
والمستويات، خصوصاً وأن منطقتنا العربية الإقليمية أرض مهيأة لمزيد من
الصراعات التي طفت على السطح، ولم يعد منها ما هو في السر، ولا أدري هل
يدرك ساسة الشيعة ومراجعهم ومفكريهم أن للزمان دول وأيام، ودوام الحال من
المحال، ولنا ولهم في التاريخ عبرة!
وختاماً:
أتمنى أن أكون قد وفقت في إعطاء تصور واضح وكافٍ عن تاريخ الصراعات الطائفية وأبعادها التي يصعب حصرها.
إن واقع العراق
واقع مرير يبعث على الأسى والألم من جهة، ويحرك الحس الفردي والجمعي نحو
تدبره والتأمل العميق فيه بحثاً عن أسبابه وتداعياته الماثلة أمامنا واقعاً
مشاهداً، وعن الحلول الناجعة التي يجب أن يتبناها العقلاء، ويدعمها الساسة
وأصحاب القرار، ويؤيدها كل من له مصلحه في استقرار هذا البلد الجريح وغيره
من بلدان العرب والمسلمين.
وبعيداً عن العواطف الجياشة والحماسة الزائدة يبقى هذا التساؤل المشروع مطروحاً الآن:
أليس من حق هذا الشعب وغيره من التي قدر لها أن تحمل هذا التنوع المذهبي
والعرقي أن تحيى تحت خيمة بلدانها، وتتمتع بخيراتها، وأن يعيش كل طرف فيه
كما يريد، وأن يمارس حرياته ويباشر حقوقه كاملة؟ وهذ أقل ما يطلبه
العراقيون اليوم.
وأنا أعتقد أن
هذا الأمر صعب في ظل هذه الظروف العصيبة والأوضاع المتفاقمة، ومع وجود هذا
النوع من الساسة الذين نجحوا مع مراجعهم ومفكريهم ومنظريهم في ترسيخ
مشروعهم الطائفي، وفي ظل ما حصل من تخندق مماثل من أهل السنة كموقف تاريخي
وعقدي من التشيع ومظاهره الطاغية في العراق بشكل عام، وكردة فعل على ما
ترتكبه الأغلبية الحاكمة باسم الواقع الجديد بشكل خاص، وفي ظل هذه الظروف
الدولية المعقدة، وفي ظل تغير المزاج الشعبي العام الذي أصبح أسير هذه
التوجهات، ونزوع الناس الفطري نحو التمسك بالهوية العقائدية والثقافية -
بغض النظر عن ماهيتها - فلا الانتخابات القادمة ولا غيرها ستفرز شيئاً
جديداً يغير الواقع، ويقلب المعادلة القائمة، ويبقى الأمل بالله جل وعلا
كبير.
ثم على أهل الحق
من الأجيال اللاحقة الذين يستبدلهم الله بنا فيأخذون بالسنن، ويعوا دورهم
ورسالتهم ومكانتهم كحملة للإسلام المحمدي الأصيل، ويعينهم على ذلك أهلهم
وإخوانهم من أجل تغيير الحال وإعادة الناس إلى رشدهم ودينهم الحق، وهذه سنة
الله الثابتة في الأرض، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38].
المصدر: الألوكة
|
عدد مرات القراءة:
812
|
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).