0

جاء في إحدى الحكايات الشعبية أن أحد الرعاة دخل أجمة (شجر كثيف ملتف) وبعد لحظة خرج منها يعدو فزعا مرعوبا، وأخذ يصيح ويولول، ويطلب الغارة، وانتشر صوته في أرجاء الوادي، فهرع أصحابه ومن سمعه من الناس نحوه، وهم يظنون أن أمرا عظيما قد حدث، ولما وصلوا إليه سألوه عن الأمر وعن سر هذه الزوبعة التي يفعلها.
رد عليهم في تهويل وتضخيم: رأيت أفعى طولها مائة ذراع.
فقالوا له: أنت تكذب فلا يوجد أفعى طولها مائة ذراع.

فقال لهم: قصدت طولها خمسين ذراعا.
فقالوا: ولا حتى خمسين ذراعا.

فقال لهم: إذن هي خمسة وعشرون ذراعا.
فلم يصدقوه أيضا لأنه قد كذب في المرة الأولى والثانية فغير مستبعد أن يكذب في الثالثة، فما زالوا يٍسألونه وهو ينقص حتى قال لهم أخيرا:
الصراحة الصراحة، سمعت كشكشة.

وأنا أخشى أن يكون الذين أشادوا بفتوى على خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، والتي قيل أنه يحرم فيها النيل من أم المؤمنين- بما فيهم شيخ الأزهر- أخشى أن يكونوا قد سمعوا كشكشة بدورهم، ولم يروا نسخة للفتوى بأعينهم، ولم يتحققوا من صدورها فعلا من مصدر موثوق، بل ينطبق هذا أيضا حتى على أولئك الذين بادروا بتفنيد الفتوى وانتقادها والرد عليها.

وكان يتوجب عليهم قبل ذلك التحقق من صدور تلك الفتوى وعدم الاكتفاء بما نشر حولها في وسائل الإعلام، نقلا عن وكالة مهر الإيرانية. ومنذ متى كانت وكالة مهر أو غيرها من وكالات الأنباء الإيرانية مصدرا للأخبار؟! ومنذ متى كان أهل السنة يثقون في روايات الروافض الذين يقوم دينهم على الكذب والدجل والتقية وانتهاز الفرص لتفجير المفرقعات الإعلامية حبا في الظهور ولفتا للأنظار إليهم؟!

فهذه الفتوى- في حقيقة الأمر- غير موجودة، ولا يوجد لها أصل، ولم تنشر في أي موقع، ولا يوجد لها تسجيل بصوت علي خامنئي. وكل ما نشر هو خبر- مجرد خبر- نشرته وكالة مهر الإيرانية، عن صدور هذه الفتوى، دون أن تنشر صورة للفتوى. وبعد ذلك تكفل نشطاء التعبئة الإعلامية التابعين لمكاتب تصدير الثورة، التي يشرف عليها الحرس الثوري الإيراني، ووزارة الإرشاد، وحزب الله اللبناني، تكفلوا، بالباقي، أي بعملية الترويج للفتوى، ونشرها في المواقع والمنتديات، وأطلقوا لأقلامهم العنان في الإشادة بآية الله علي خامنئي، وبفتواه المزعومة التي اعتبروها نموذجا للحرص على وحدة المسلمين، وبأنها تدل على أن النظام الإيراني الحالي، الذي أسسه آية الله الخميني، سباق دوما للتقريب بين المذاهب، ولتسوية الخلافات بين السنة والشيعة. بل وخرجت علينا أصوات تمن علينا بهذه الفتوى، في حين انبرت أصوات أخرى-  بما فيهم أصوت من أهل السنة المغرر بهم - مطالبة علماء السنة بإثبات حسن النية تجاه الشيعة، ودفع الثمن المقابل لتلك الفتوى، وذلك بإصدار فتاوى مماثلة لها أي تقرب السنة من عقيدة الشيعة الاثنى عشرية، وذلك كله قبل أن يجف حبر تلك الفتوى - هذا إن كانت قد صدرت بالفعل - وهي لم تصدر على الأرجح لأنه لا أصل لها حتى الآن.

ومن الغريب والعجيب والمدهش أن قناة الجزيرة القطرية، قناة الرأي والرأي الآخر، التي تزايد على القنوات الأخرى بمهنيتها وتحريها للمصداقية، وصدعت رءوس مشاهديها، وهي تتغنى بأمانة الكلمة، وبميثاق الشرف الصحفي.

أقول أن هذه القناة الفضائية الواسعة الانتشار، والأولى في العالم الإسلامي، تولت كبرها، فدشنت القيام بحملة إعلامية ضخمة لتلك الفتوى، وقامت بالترويج لها، وتسويقها لدى المسلمين، وأعطتها أكبر بكثير مما تستحق، فقد أوردتها في خبرها الأول، في نشراتها الرئيسية، وفي برنامج ما وراء الخبر، وفي حوار مفتوح، بل إنها أوردت خبرها في نشرات الأخبار مقرونا بصورة علي خامنئي في الخلفية، وهو يقف على المنصة في خطبة الجمعة أمام الآلاف من أتباعه، وبصورة تجعل المشاهد يستنتج للوهلة الأولى أن تلك الفتوى كانت قد جاءت في سياق هذه الخطبة، وبأن علي خامنئي (الحريص على وحدة المسلمين، قد وقف أمامهم يدافع عن زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أم المؤمنين، السيدة عائشة رضي الله عنها على ملأ من خاصة الشيعة في إيران وعامتهم. وهذا ما خطر في ذهني أنا شخصيا لحظة مشاهدتي للنبأ.

ولكن تبين لي من التفاصيل، أن الخبر في واد والصورة المرافقة له في الخلفية في واد آخر، وأن العملية- بما في ذلك التوقيت لتغطية خبر هذه الفتوى عبر قناة الجزيرة يوم الجمعة 1/10/2010- كانت عملية تزوير مكشوفة، وخداع مفضوح، وتضليل متعمد للمشاهدين العاديين من أهل السنة، وغزوا لقلوبهم ودغدغة لمشاعرهم، ودعاية مقيتة رخيصة للثورة الإيرانية الفارسية الشيعية، لاسيما وأنه بمجرد إذاعة الخبر كان يتم التحول إلى طهران لترك مراسل الجزيرة الشيعي محمد حسن البحراني يتحدث على الهواء مباشرة حول الفتوى، ثم تركه يسترسل في تلميع نظام جمهورية إيران (الإسلامية)، وآية الله الخميني ومراجع الشيعة، ويشيد بحرصهم على وحدة المسلمين، والتطرق لذكر نماذج سابقة من فتاواهم التي تحرم النيل من رموز أهل السنة. إلخ .رغم أن هذه الفتوى- كما قلت- ليس لها وجود أو أصل حقيقي، وقناة الجزيرة لم تحصل على نسخة منها، كما لم تحصل على تسجيل لها بصوت علي خامنئي. ومراسل الجزيرة لم يبرز صورة لها وإنما أبرز صورة لفتوى سابقة، في تغطية واضحة على عدم وجود أصل للفتوى موضوع الخبر المثير.

وأكثر ما حيرني أنني كنت أسمع عن شيء فلا أراه، وقد قمت شخصيا بالبحث عن هذه الفتوى، فلم أعثر لها على أثر، وكأنها فص ملح وذاب- هذا إن كانت قد صدرت بالفعل- إلا أن تكون لا تزال في انتظار التعميد من الحسن العسكري، الإمام الثاني عشر عند الشيعة، المختفي في سرداب سامراء منذ القرن الثالث الهجري، والذي يزعم خامنئي بأنه يحكم بالنيابة عنه، فهذه مسألة أخرى.

ومن المهازل التي واجهتها وأنا أبحث عن أصل تلك الفتوى أنني عندما كنت أسأل البعض عن أصل هذه الفتوى، وفيما إذا كانت قد صدرت أم لا أجدهم يستدلون على وجودها بالإشادة التي صدرت لها من قبل شيخ الأزهر.

ولا يسعني في الأخير إلا أن أقول أنه صار لزاما على قناة الجزيرة بمقتضى مسئوليتها الأخلاقية والمهنية والدينية والإنسانية، صار لزاما عليها وقد تزعمت الترويج لتلك الفتوى، أن تظهر لنا أياها.

وما لم تقم قناة الجزيرة بعرض صورة لفتوى خامنئي ممهورة بخاتمة أو مسجله بصوته وصورته، فسنتعبرها فتوى ملفقة ووهمية ومكذوبة، وسنعتبر قناة الجزيرة كاذبة وفاقدة للمصداقية، وشاهد زور، ومخلة بميثاق الشرف الصحفي.

وذلك ينطبق أيضا على كل من أشاد بالفتوى وقام بتزكيتها دون أن يتحقق من صدورها.

والله من وراء القصد

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top