0

معممون في سجون الخميني

كانت الشعوب في جغرافية إيران على عقيدة أهل السنة والجماعة حتى القرن العاشر الهجري إلى أن تشكلت الدولة الصفوية، وعقب تتويج إسماعيل الصفوي ملكاً على بلاد فارس أعلن المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة عن طريق القوة وقتل السنة، حيث يذكر المؤرخ علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" بأنه قتل مليون سني في هذه الجغرافية لتحقيق هذا الهدف وإجبار البقية على تغيير مذهبهم، لتصبح جغرافية ايران، بؤرة اصطدام ومركزاً للصراع ضد أهل السنة والإمبراطورية العثمانية بالضبط، وعملت على وقف المد السني الإسلامي بالتعاون مع قوى الاستعمار في المنطقة. وتعتبر هذه العملية قفزة نوعية أدت إلى تقارب بين المرجعية الدينية والمرجعية السياسية، وترأست السلطة ثنائية السلطان والفقيه.

بقيت الأمور على نصابها حتى قيام الثورة الخمينية عام 1979 والتي تعتبر القفزة الثانية في كينونة الدولة الشيعية, حيث انتقلت هذه الثنائية (السلطان والفقيه) إلى مقولة أخرى تحل محلها وتمثلت بـ"ولاية الفقيه المطلقة" أو "السلطان الفقيه"، واجتمعت المرجعية الدينية والسياسية في فرد واحد. وعلى إثر ذلك أكد بعض كبار آيات الله، مثل شريعتمداري، وكلبايكاني، ونجف آبادي أن ولاية الفقيه المطلقة لا أساس لها في الفكر الشيعي، وقد واجهوا متاعب عديدة بسبب ذلك.

يُلاحَظ أن هناك في بداية الأمر كان تخبطًا في تطبيق نظرية "ولاية الفقيه" التي كتبها الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم النائيني في كتاب "تنبيه الأمَّة وتنزيه الملة" وكان الكتاب يشتمل على 6 فصول, وكان قد خصص الفصل الخامس والسادس عن "ولاية الفقيه" إلا أنه حذف الفصلين الأخيرين لأنه رأى في هذه النظرية خطورة على المجتمع.

وعلى إثر هذه النظرية وبعد تعديلها جذرياً انقلبت إلى "ولاية الفقيه المطلقة"، وحكم الخميني البلاد تحت مسمى "القائد الأعلى للثورة / الولي الفقيه المطلق"، بصفته المرجع الأعلى الديني والسياسي للبلاد. وتحاول الورقة الحالية تبسيط هذا البحث ما أمكن لتقديم مقاربة قد تجلو بعض الغموض الذي يلف استبدادية ولاية الفقيه، وشرح ظلامات بعض من المراجع الكبار المعارضين لهذه النظرية في جغرافية إيران بشكل أكثر دقة.

بينما هناك مدارس فكرية وتفاسير متعددة حول ولاية الفقيه عند الشيعة, فمنهم من يعطي الفقيه "الولاية الاجتماعية" على الناس، ومنهم من يعطيه "الولاية الاجتماعية والسياسية"، وهذه المدرسة الثانية تنقسم بدورها إلى عدة نظريات فكرية، وتختلف عن نظرية الخميني، كالتالي:

- نظرية "خلافة الأمة تحت إشراف الفقهاء" التي قدمها الشيخ محمد باقر الصدر في كتابه "الإسلام يقود الحياة".

- نظرية "شورى الفقهاء" التي قدمها الشيخ محمد الشيرازي.

- نظرية "الحكومة الإسلامية المنتخبة" التي قدمها كل من الشيخ محمد جواد مغنية والشيخ محمد مهدي شمس الدين.

- نظرية "ولاية الفقيه المنتخبة المحدودة" التي تبناها الشيخ حسين علي المنتظري.

- نظرية "وكالة الملاك الشخصية المشاعة" التي اقترحها الشيخ مهدي الحائري اليزدي في كتابه "الحكمة والحكومة".

مصادر مشروعية الثورة:

استمد نظام "ولاية الفقيه المطلقة" حسب الدستور الإيراني مشروعه من مصدرين، الأولى البعد الثوري؛ إذ تنص مقدمة الدستور الإيراني على أن "الدستور يعكس إرادة الأمة الإسلامية، وهو تجلٍّ لماهية الثورة الإسلامية الإيرانية.

والمصدر الثاني: البعد الديني، حيث تبنى الدستور الإيراني "ولاية الفقيه المطلقة"، ونصت المادة الخامسة على ما يلي "في زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، والقادر على الإدارة والتدبير. ونصت المادة "177" على أنه "لا يمكن تغيير ولاية الفقيه"، وأفتى الخميني ومن بعده خامنئي بإلزام جميع المسلمين بطاعته، وتضفي هذه الرؤية بُعدًا مقدسًا على نظام "ولاية الفقيه" ينعكس على صناعة القرار في إيران؛ ويعتبر مخالفة الأشخاص وحتى المراجع الكبار لرأي "الولي الفقيه الخميني أو خلفه خامنئي سياسياً أو دينياً بمثابة الخروج على السلطان الفقيه فمصيره الإقصاء والمحاصرة كما حصل مع أبرز الآيات، أمثال:

آية الله حسين علي منتظري، الشيخ محمد طاهر آل شبير خاقاني، سيد محمد كاظم شريعتمداري، الشيخ محمد الشيرازي، الشيخ أسد الله بيات زنجاني وآخرين.

ترجع هذه المعاملة مع البعض من كبار المراجع الشيعة في النظام الاستبدادي داخل جغرافية إيران الذي وضعه الخميني تحكي عن الرجل الثاني الذي انتهى به الأمر على نحو سيئ, حيث كان كل واحد منهم مقدم على خامنئي لتولي مقاليد السلطة بعد الخميني؛ على هذا الأساس فمرشد الجمهورية الإيرانية اليوم علي خامنئي لم يكن الرجل الثاني في الثورة الإيرانية أصلاً، بل كان يسبقه العشرات من المراجع.

جدير بالذكر أن المرشد الأعلى الراهن في ايران "علي خامنئي" يمتلك مؤهلات دينية محدودة بالمقارنة مع الآيات الأخرى وخاصة مقارنة بالشيخ منتظري. وفي أفضل حالة يأتي خامنئي في المرتبة الخامسة بعد كل من:

الشيخ حسين منتظري

الشيخ حسين شريعت مداري

الشيخ محمد الشيرازي

الشيخ محمود طالقاني

حجة الإسلام علي خامنئي

التيارات الدينية:

أفرزت التحولات التي طالت المؤسسة الدينية بعد الثورة تيارات عدة، البعض منها الموالية إلى ولاية الفقيه أو "التيار الديني الرسمي الولائي" والذي يتماهى مع مشروع "ولاية الفقيه المطلقة" - الديني السياسي، ويعتبر الأكثر تنظيمًا وتمويلاً وسيطرة في الحوزة وفي مؤسسات الدولة. ومن أهم مراجع تقليد هذا التيار ناصر مكارم شيرازي، وحسين نوري همداني، ويُعد آية الله مصباح يزدي الشخصية الأكثر تأثيرًا في هذا التيار.

ويتمثل الثاني أو "التقليدي" في مراجع التقليد ورجال الدين الذين يصرون على الحفاظ على التقاليد الفقهية للحوزة، ولا يقحمون أنفسهم في التحولات السياسية.

وثالثاً التيار التجديدي (المخالف للنظام الحاكم) والذي يقدم قراءات جديدة في الفقه، ولا يقبل هذا التيار ولاية الفقيه المطلقة، ومن أهم مراجع التقليد فيه حالياً:

عبد الكريم موسوي أردبيلي، ويوسف صانعي، ومحمد إبراهيم جناتي، وبيات زنجاني.

ولا يوجد أي منهم ضمن قائمة مراجع التقليد المعترف بهم حكوميًا.

ويمثل التيار التجديدي نقابيًا "مجمع مدرسي ومحققي الحوزة العلمية في قم"، وهو الوجه الآخر لـ "مجمع رجال الدين المناضلين" ذي الصبغة السياسية الدينية أمثال شريعتمداري.

رابعاً: التيار الديني العسكري, حيث يسعى الحرس الثوري لزيادة نفوذه في الحوزة بالتنسيق مع "ممثلية الولي الفقيه" في الحرس من خلال تأسيس مدارس دينية مستقلة خاصة بمنتسبيه لتأهيل رجال دين منهم (مركز الجزيرة للدراسات)، ونركز هنا على أهم شخصيات التيار التجديدي وإقصائهم من قبل ولاية الفقيه المطلقة.

الشيخ منتظري وإقصاؤه:

كان منتظري مهندس الثورة الإسلامية عام 1979م، وعينه الخميني نائباً للمرشد الأعلى، وبحسب المصادر الموثقة من أسباب عزله عن خلافة الخميني في تلك الفترة: أنه كان من معارضي مبدأ ولاية الفقيه, وكان يعتبر هذا الأمر يعني إحلال ديكتاتور إسلامي محل ديكتاتور علماني.

ورغم أن منتظري كان وفياً تماماً للنظام ولشخص الخميني، إلا أنه طالب الخميني بوقف عشرات الآلاف من الإعدامات في البلاد, وخالف فتوى الخميني المعروفة بإعدام السجناء المخالفين للنظام. كذلك كانت له معارضات كبيرة بخصوص إطلاق يد الحرس الثوري في تأجيج الفتنة في البحرين والكويت, وكان رجلاً سمحاً طيباً يأمر بالمعروف, ويحب الخير لغيره من المسلمين, وبخاصة أهل السنة منهم، وخاصة منهم أهل الخليج العربي. وعلى إثر ذلك وُضع رهن الإقامة الجبرية في مدينة قم لمدة 14 عاماً في منزله حتى سنة 2002.

الشيخ محمد كاظم شريعتمداري وإقصاؤه:

يعتبر السيد شريعتمداري أول فقيه إصلاحي ذو أفكار متطورة ومطلعة على زمنه، ومدير ومدبر. وتمكَّن الخميني في ربيع عام 1982 من اصطياد الشيخ محمد كاظم شريعتمداري أكبر منافس له على الإطلاق دينياً وسياسياً وحزبياً في إيران ما بعد الثورة، بتهمة المؤامرة والانقلاب على الخميني ونظامه.

جاء هذا الإقصاء بعد ما قال شريعتمداري: "إن حكومة الشعب هي السلطة التي يقر بها الإسلام، والديكتاتورية يعيد البلد إلى عهد النظام الطاغوتي السابق. وإن أصل 110 في الدستور (أصل ولاية الفقيه) يسلب من الناس صلاحياتهم واختياراتهم، ويناقض الأصول التي تعطي للناس حق الانتخاب، لذلك لا بد من إصلاحه ورفع هذا الإشكال".

وعلى إثر هذا الكلام صادرت قوات ولاية الفقيه جميع المدارس والمؤسسات التابعة للشيخ شريعتمداري، وبعد اعتقال وإعدام الكثير من تلامذته وأتباعه، فرض الحصار على الكثير من المدافعين عنه. ومات بسبب إصابته بالسرطان، حينما لم يأذن له بالانتقال إلى المستشفى لتلقي العلاج، إلا بعدما تيقنوا من موته الحتمي، فانتقل بواسطة رجال الاستخبارات، ثم توفى يوم 3 أبريل 1986 سجيناً في المستشفى وغرفته كانت تحت محاصرة رجال الأمن. وكان قد أمر الخميني بمنع شريعتمداري من السفر للعلاج من سرطان الكلى، وقال: يجب أن يبقى محبوساً في بيته كي يبلى ويموت بمرضه. وكفَّره الخميني حينما وصفه بأنه "مرتد عن الإسلام" و"صنيعة الاستعمار" و"صاحب مرجعية ادعائية" و"صاحب مرجعية استعمارية" [منشور روحانيت، ص 14].

وبحسب وصية الخميني لم يسلم رجال الأمن جثمانه، بل وري الثرى سراً وليلاً بواسطتهم في "مقبرة أبو حسين" في غرفة جنب المراحيض إهانة وهتكاً لحرمة هذا المرجع.

مساعي الشيخ شريعتمداري في إنقاذ حياة الخميني:

نموذج من مساعيه في عام 1963، كان في إنقاذ الخميني من حكم الإعدام، حينما أعلن الخميني معارضته للثورة البيضاء، وخطب يوم 4 حزيران1963، تهجم هجوماً عنيفاً على الشاه، فاعتقل نظام الشاه الخميني، وأراد تنفيذ حكم الإعدام فيه بعد محاكمته، وبما أن القوانين الإيرانية آنذاك كانت تعطي حصانة لمراجع التقليد، ولا تسمح بمحاكمتهم وإعدامهم، تقدم الشيخ محمد كاظم شريعتمداري ليعرف الخميني "مرجعاً"، حيث إن النظام لم يعترف بمرجعية الخميني، فبادر المرجع الشريعتمداري بإصدار رسالة أعلن فيها تأييده لمرجعية الخميني، وبعد ذلك ذهب إلى طهران وسعى للإفراج عنه.

الهجوم على الآيات والمراجع الكبار المخالفة لنظرية ولاية الفقيه:

نضيفكم حسب ما نشر في الصحف الإيرانية الرسمية وبعض المصادر الأخرى الموثوقة، تقريراً موجزاً عن الهجمات التي تعرض لها مراجع الشيعة المخالفة لنظام الخميني، على يد جماعة "حزب الله" المدعومة من قوات الأمن والشرطة أو الاستخبارات وهم كالآتي:

1) الشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني: الذي كان يعارض "ولاية الفقيه", وطالب الخميني بحق تقرير المصير للشعب العربي الأحوازي, وكان مقره في المحمرة إحدى مدن الأحواز. وعلى إثر ذلك تم الهجوم على المدينة في اليوم المعروف بـ"الأربعة السوداء" وقتل أكثر من 450 شخصاً، وجرح أكثر من 850، وتم اعتقال ما لا يقل عن 1300 مواطن عربي، وربطت يدا الشيخ, ونقل هو وعائلته من الأحواز إلى قم في ليلة واحدة على متن شاحنة عسكرية، حيث سجنوه في بيته حتى مماته، وحوصر تشييعه بمدافع رشاشة ثقيلة العيار مثبتة على عجلات عسكرية.

2) الشيخ محمد الشيرازي: الذي سجن أكثر من ثمانين فرداً من عائلته خلال الثلاثة عقود، وأحرق أجزاء من بدن ولده الثاني مرتضى، وأسقط جنين إحدى بناته نتيجة التعذيب.

3) الشيخ حسن القمي، الذي هاجمه في مسجد كوهر شاد أنصار النظام في تظاهرة صاخبة، وصفعوه وأحرقوا عمامته في المسجد، وسحبوه إلى بيته حيث سجنوه هو وعائلته أكثر من عشر سنوات.

4) الشيخ محمد صادق الروحاني: الذي سجن في بيته في قم لسنوات عديدة.

5) الشيخ يعسوب الدين الرستكاري الجويباري: الذي قضى سنوات عديدة خلال هذه العقود الثلاثة في السجون.

6) الشيخ صادق الشيرازي: الذي سجن مع ابنه وابني أخيه محمد رضا ومرتضى لسنين طويلة.

7) الشيخ محمد علي الأبطحي: الذي دفن سراً بعد منتصف الليل.

هذه كانت أهم إنجازات الثورة الإسلامية ومحاولتها سد الأفواه المعارضة لها، ومن كان ينتقد السياسة المتبعة في إدارة الحكم، حيث وصل الأمر إلى مخالفة حفيد الخميني للنظام القائم على نظرية "ولاية الفقيه"، حيث طالب الشيخ حسين مصطفى الخميني في حديث إلى "الحياة ـ ال بي سي" في بغداد بـ"فصل الدين عن الدولة"، وحمل بعنف على فكرة ولاية الفقيه التي بنى جده الخميني عليها نظرية الدولة الإسلامية في إيران. وأكد معارضته ولاية الفقيه، مؤكداً أن جل فقهاء الشيعة يرفضون تولي علماء الدين السلطة وأن "لا دليل فقهياً يبررها".

المصدر: موقع المثقف الجديد

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top