تطور حكم الخمس من الإباحة إلى الوجوب
لقد كانت نظرية (التقية والانتظار) تقول: أن الخمس من حق الإمام المعصوم، وانه في عصر غيبة الإمام المهدي مباح للشيعة. وقد تم الانسحاب من هذه النظرية في هذا المجال في وقت مبكر ، ولكن خطوة .. خطوة ..
وكانت الخطوة الأولى هي القول بوجوب الخمس في عصر الغيبة ، مع القول بدفنه أو الاحتفاظ به حتى ظهور المهدي ، أو الإيصاء به بعد الموت من واحد إلى واحد حتى يوم الظهور .
وكانت الخطوة الثانية هي القول بتسليم الخمس إلى الفقهاء للاحتفاظ به حتى ظهور الإمام المهدي.
وكان القاضي ابن براج أول من أشار إلى ضرورة إيداع سهم الإمام عند من يوثق بدينه وأمانته من فقهاء المذهب ، وإيصائه بدفع ذلك إلى الإمام (ع) ان أدرك ظهوره ، وان لم يدرك ظهوره وصى إلى غيره بذلك. 1
وكان العلماء السابقون يوصون بإيداعه عند أمين ، ولكنه أضاف :(من فقهاء المذهب) دون ان يشير إلى مستنده في ذلك ، وقد جاء العلماء المتأخرون عنه فطوروا هذه المسألة شيئا فشيئا ..
وربما كان أول من مال إلى جواز أو وجوب إعطاء الخمس إلى (الفقهاء) لكي يقسموه ، هو ابن حمزة في :(الوسيلة إلى نيل الفضيلة) واعتبر ذلك افضل من قيام صاحب الخمس بتوزيعه بنفسه ، خاصة إذا لم يكن يحسن القسمة . 2
وقد أوجب الشيخ علاء الدين أبو الحسن الحلبي في :(إشارة السبق) الخمس في المستخرج بالغوص ، وقسمته على ستة اسهم هي سهم الله وسهم رسوله وسهم ذوي القربى ، وقال :• انه لا يستحقها بعد الرسول سوى الإمام القائم مقامه ، وثلاثة ليتامى آل محمد ومساكينهم وابناء سبيلهم ، ولكنه لم يوضح كيفية التصرف في الخمس في عصر غيبة الإمام . 3
وقد استعرض المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن ( 602 - 676) في :(شرائع الإسلام) مختلف الأقوال حول الخمس في عصر الغيبة ، ما بين الإباحة والحفظ والدفن والوجوب ، وعبّر ب :• قيل عن صرف حصة الإمام إلى الأصناف الموجودين ، وقال : انه الاشبه . 4
وهكذا اختار في :(المختصر النافع ) جواز دفع سهم الإمام إلى من يعجز حاصلهم من الخمس ، ولكن بقول ضعيف. 5
وليس من الواضح لدي : أي الرأيين اقدم ؟ وأيهما المتأخر ؟ ولكن يمكن ملاحظة غياب نظرية (النيابة ) في هذا الموضوع من (المختصر النافع) وعدم وضوحها بصورة كاملة وعامة في بقية المسائل عند المحقق الحلي .
وقد جاء العلامة الحلي بعد ذلك وكرر نفس عبارة المحقق الحلي ، فقال في :(تحرير الأحكام) بوجوب الخمس ووجوب صرفه في الأصناف في عصر الغيبة. 6
ولم يترسخ هذا القول بقوة في أوساط فقهاء الشيعة ، وقد جاء عالم كبير هو الشهيد الأول ، بعد ذلك بحوالي قرن ، وتردد فيه فقال بالتخيير بين القولين ، القديم: الدفن والإيصاء ، والجديد: الصرف ، واستقرب في :(الدروس الشرعية) صرف نصيبي الأصناف عليهم ، والتخيير في نصيب الإمام بين الدفن والإيصاء ، وصلة الأصناف مع الأعوام بإذن نائب الغيبة ، وهو الفقيه العدل الامامي الجامع لصفات الفتوى . 7
ولم يحكم بالوجوب ، بل حكم بالتخيير ، مع تقديم حكم الدفن والإيصاء ، وقد أكد قوله هذا في :(البيان) فأجاز صرف العلماء لسهم الإمام . 8
وقد رفع الشهيد الأول هنا في :(البيان) صفة الحرمة من التصرف بالخمس للعلماء ، فقط ، مع ميله إلى حفظ نصيب الإمام المهدي إلى حين ظهوره بالوصية أو الدفن .
وبالرغم من قيام الدولة الجلائرية الشيعية في خراسان أيام الشهيد الأول ، واستعانتها به وطلبها منه المجيء إليها لتولي الجوانب الشرعية والتشريعية ، فانه لم يطور هذه المسألة بما يخدم إدارة الدولة الشيعية التي تحتاج إلى المال لصرفه على المحتاجين والفقراء.
وكذلك فعل المحقق الكركي الذي استقدمته الدولة الصفوية التي قامت في بلاد فارس في القرن العاشر الهجري ، وظل على الرأي القديم الذي يقول بالتخيير بين صرف سهم الإمام المهدي أو حفظه إلى حين ظهوره ، وقد استعرضنا رأيه في الفصل السابق .
وتردد محمد باقر السبزواري في :(كفاية الأحكام) بين وجوب حفظ ما يخص الإمام إلى ظهوره ، وبين قيام الفقيه الامامي العادل بصرفه. ومع ميله الشديد إلى القول بالإباحة مطلقا في زمان الغيبة بناء على الأخبار ، فانه مال احتياطا إلى القول بصرف الجميع في الأصناف الموجودين بتولية الفقيه العدل الجامع لشرائط الإفتاء. 9
وكذلك اختار محمد حسن الفيض الكاشاني في :(مفاتيح الشريعة) القول بالإباحة وسقوط سهم الإمام (ع) ووجوب صرف حصص الباقين إلى أهلها لعدم مانع منه ، واستحسن من باب الاحتياط صرف الكل إليهم . 10
وأوصى الشيخ بهاء الدين العاملي في :(جوامع عباسي) بتوزيع صاحب المال نصف الخمس على الأصناف الثلاثة المستحقة ، وإعطاء النصف الآخر وهو حصة صاحب الزمان للمجتهد لكي يوزعه على تلك الجماعة. 11
وكرر الشيخ جعفر كاشف الغطاء في :(كشف الغطاء) نفس الحكم تقريبا ، مع إجازة تولي عدول المؤمنين لأمر الخمس إذا تعذر الوصول إلى المجتهد . 12
واوجب الشيخ محمد حسن النجفي في :(جواهر الكلام) صرف حصة الإمام (ع) من الخمس في زمان الغيبة ، في الأصناف الموجودين . 13
وارجع السيد كاظم اليزدي في :(العروة الوثقى) أمر النصف من الخمس الذي للإمام (عليه السلام) في زمان الغيبة إلى نائبه ، وهو المجتهد الجامع للشرائط ، واوجب الإيصال إليه أو الدفع إلى المستحقين بإذنه . 14
واستشكل السيد محسن الحكيم في :(مستمسك العروة الوثقى / كتاب الخمس ) في البداية ، في التصرف في سهم الإمام (ع) زمان الغيبة ، ثم استثنى بعد ذلك ما إذا أحرز رضاه (ع) بصرفه في بعض الجهات التي يعلم رضاه بصرفه في إقامة دعائم الدين ورفع اعلامه وترويج الشرع الأقدس ومؤنة طلبة العلم وغير ذلك من الواجبات الدينية ... واحتاط بنية التصدق عنه (ع) ولم يشترط الحكيم عند إحراز رضا الإمام مراجعة الحاكم الشرعي . 15
وقد قام الشيخ حسن الفريد ( 1319 - 1417) في :( رسالة في الخمس) بثورة في مسألة الخمس عندما نفى حق الإمام المهدي في الخمس في عصر الغيبة ، فقال:• ان مقتضى القاعدة سقوط النصف الذي هو للإمام (ع) إذ لا ريب انه إنما استحق ذلك بحق الرئاسة والإمامة ، ولذا ينتقل هذا الحق بموته إلى الإمام الذي يقوم بعده بالإمامة لا إلى ورثته ، فإذا غاب عن الناس ولم يقم بالإمامة انتفت رئاسته خارجا ، وينتفي حقه بانتفاء موضوعه وقال :• انه إذا غاب عن شيعته واعتزل عن أمر الإمامة والزعامة التي تحتاج إلى مؤنة وسيعة قد جعل النصف من الخمس معونة لتلك المؤنة الوسيعة ، فهل يسقط حقه من الخمس لغيبته واعتزاله عن الزعامة؟ .. أو يكون حقه محفوظا كما كان؟ .. وعلى هذا فما ذا يجب ان يصنع به ؟ .
وقال ناقدا ومتأسفا :• اختلف الأصحاب فيما يجب أو يجوز ان يصنع بسهم الإمام في عصر الغيبة على أقوال ، ليتهم لم يقولوا ببعضها ولم ينحطوا بذلك عن شامخ مقامهم ، وليت المتأخرين لم ينقلوا هذه الأقوال في مؤلفاتهم ، ولعمري اني اجل فقه الشيعة عن نقل مثل القول بالدفن والوصية فيه . وحاول بعد استعراض مختلف الآراء وتفنيدها الالتفاف على حكم سقوط الخمس في عصر الغيبة ، بالقول:• ما دام أحد الأصناف المذكورة في الآية الكريمة موجودا لا يسقط شيء من الخمس ، بل يصرف كله على هذا الصنف الموجود ، ولما كان أحد المصارف هو الله عز وجل فما دام كونه حيا وهو حي لا يموت لا يسقط من الخمس شيء كما لا يخفى .
وقال: • لا إشكال في وجوب إيصال نصف الخمس الذي للإمام (ع) إليه أو إلى وكيله في زمان الحضور... وبعد غيبته ان قلنا ب : ( ولاية الفقيه) على الإطلاق ونيابته العامة عن الإمام ، كان للفقيه الولاية على ذلك ، وان لم نقل بولايته إلا في باب القضاء والإفتاء فلا بد ان يقوم به واحد من باب الحسبة لأنه من الأمور الحسبية التي لا محيص عن وقوعه في الخارج ، ولم يعين للقيام به في غيبة الإمام شخص أو صنف خاص ، وليس من الوظائف التي يقوم بها آحاد الناس ، بل من الأمور التي لا بد ان يقوم بها الحاكم .. فان .. الفقيه الجامع للشرائط هو الذي ينبغي ان يقوم به وانه القدر المتيقن ممن يصح منه القيام به وتوزيع الخمس على أهله ، فلا بد ان يقوم به الفقيه .. من باب الحسبة ، وان شئت قلت : إن للفقيه الولاية على صرف الخمس على أهله ، ولكن ولايته على ذلك لم تستفد من الكتاب والسنة بل من دليل الحسبة والضرورة .. يعني : ان الضرورة الدينية هي التي كشفت كشفا قطعيا عن ولايته على ذلك .. ومما ذكرنا يمكن ان يستكشف : ان له ولاية التحليل إذا اقتضت الضرورة ذلك فيما لم يشمله أخبار التحليل . 16
ومن الواضح ان الشيخ حسن الفريد يحاول ان يتخلص من نظرية (التقية والانتظار) ويملأ الفراغ القيادي ، ويعالج مسألة الإمامة ويبني مهماتها ومسئولياتها ، فيكاد يقول بضرورة إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة ، ولكن ليس بناء على نظرية :(النيابة العامة) التي لم تثبت لديه من الكتاب والسنة ، وإنما بناء على نظرية الحسبة المنسجمة مع العقل والقرآن الكريم .
وانتقد السيد محمود الهاشمي في :(كتاب الخمس) المنهج الذي سلكه الفقهاء في هذه المسألة (مسألة الخمس) وقال: انهم بعد ان افترضوا : إن هذا السهم حاله حال سائر الأموال الشخصية ، بحثوا في كيفية التصرف فيه على ضوء القواعد المقررة في الأموال الشخصية من حرمة التصرف فيها بلا إذن أصحابها ، فحكموا بوجوب حفظها لصاحبها من خلال دفنها حتى يأتي الإمام فيخرج كنوز الأرض كما في بعض الروايات ، أو الإيصاء بها والتصدق بها عنه باعتبار الجهل وعدم إمكان تشخيص المالك خارجا ، أو صرفه في شأن من شؤون المالك الذي يحرز رضاه الشخصي بذلك وقبوله له ، الأمر الذي يجعل القضية ذوقية أو وجدانية حسب اختلاف أذواق الناس وسلائفهم .. وهذا كله لا أساس له بعد ان يتضح ان المال المذكور ليس حاله حال الأموال الشخصية المتعارفة ، بل هذا المال اما ان يكون ملكا لمنصب الإمامة والولاية الشرعية فيكون الولي الشرعي في كل زمان هو المتولي على صرفه قانونا وشرعا .. ومنه يعرف ان هذا المال بحسب الروح والمحتوى من معلوم المالك لا مجهوله . 17
ويلاحظ هنا ان السيد الهاشمي يحاول ان يخرج بخطوة جريئة مننظرية :(التقية والانتظار) ويحل لغز الخمس الخاص للإمام المعصوم في عصر الغيبة ، بالالتفاف على قضية الانتظار وتحويله إلى الولي أي الإمام الجديد في عصر الغيبة .
وهكذا نرى محاولات الخروج من تلك النظرية في باب الخمس قد ابتدأت منذ قرون ، وانتقلت عبر التاريخ من القول بإباحة الخمس وتجميده ودفنه والوصية به وحفظه إلى ظهور المهدي وتسليمه له ، إلى القول بالوجوب ..
والى جانب هذا التطور في ذات الموضوع شاهدنا في الصفحات الماضية تطورا آخر شمل موضوع (المتولي للخمس ) فبعد قول المفيد والطوسي، في القرن الخامس : ان المتولي لقبض الخمس وتفريقه في عصر الغيبة ، ليس بظاهر ، لانعدام النص المعين ، قال القاضي ابن براج في أواسط القرن الخامس بضرورة إيداع الخمس أمانة عند الفقهاء لدفعه إلى الإمام المهدي عند ظهوره .
ثم جاء ابن حمزة في القرن السادس ففضل دفع الخمس إلى الفقيه ليتولى القسمة ، واوجب ذلك إذا لم يكن المالك يحسن القسمة .
ثم جاء المحقق الحلي في القرن السابع فأوجب تسليم حصة الإمام - وهي نصف الخمس - إلى • من له الحكم بحق النيابة لكي يتولى صرف حصة الإمام في الأصناف الموجودين .
وأشار الشهيد الأول ، في القرن الثامن ، إلى ضرورة استئذان • نائب الغيبة : الفقيه العدل الامامي الجامع لصفات الفتوى ان اختار المكلف توزيع نصيب الإمام على الأصناف .
وأوكل المحقق الكركي ، في القرن العاشر ، مهمة صرف حق الإمام إلى الحاكم (الشرعي) وكذلك أشار السيد محمد علي الطباطبائي إلى وجوب تولي المأذون له على سبيل العموم وهو الفقيه .
وأفتى محمد باقر السبزواري ، في القرن الحادي عشر ، بتولية الفقيه العدل في عملية صرف الخمس في الأصناف الموجودين احتياطا، وتحدث عن نيابة الفقيه عن الإمام المهدي .
وتطور الحكم في القرن الثالث عشر إلى درجة أقوى ، حيث أفتى الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) بقوة: بوجوب تولي الحاكم (أي الفقيه العادل) صرف سهم الإمام .
وبالرغم من عدم إيمان السيد كاظم اليزدي بنظرية (ولاية الفقيه) في سائر أبواب الفقه ، إلا انه التزم بهذه النظرية في مجال الخمس وقال في مطلع القرن الرابع عشر الهجري : بضرورة إيصال سهم الإمام في زمان الغيبة إلى نائبه وهو المجتهد الجامع للشرائط ، أو الدفع إلى المستحقين بإذنه .
وقد تراجع السيد محسن الحكيم في :(مستمسك العروة الوثقى) ولم يرَ حاجة إلى مراجعة الحاكم الشرعي في صرف المالك حصة الإمام في جهة معينة إذا أحرز رضا الإمام (ع) ، إلا برأي ضعيف .
وقام الشيخ حسن الفريد بثورة في باب الخمس عندما سلب حق الخمس من الإمام المهدي لغيبته وعدم قيامه بمهام الإمامة ، وقال بضرورة قيام واحد من الناس باستلام الخمس وتوزيعه من باب الحسبة ، لأنه من الأمور الحسبية التي لا محيص عن وقوعه في الخارج ولم يعين للقيام به في غيبة الإمام شخص أو صنف خاص ، وقال أيضا: ان للفقيه الولاية على صرف الخمس على أهله ، ولكن ولايته على ذلك لم تستفد من الكتاب والسنة ، بل من دليل الحسبة والضرورة .
وقد تطور حكم المتولي للخمس في (عصر الغيبة) بعد القول بوجوبه ، في مرحلة أخيرة ، إلى القول بضرورة تسليم الخمس إلى الفقيه ، ليس باعتباره نائبا عن الإمام المهدي الغائب ، وإنما بصورة مستقلة ، وذلك باعتباره وليا وزعيما وحاكما وإماما ، وذلك كما قال الشيخ الفريد و السيد محمود الهاشمي الذي نفى ان يكون الخمس حقا شخصيا للإمام المهدي ، وأعطى حق التصرف به للولي الشرعي في كل زمان .
ومن الواضح ان كل تلك الأقوال تطورت مع تطور حكم الخمس نفسه من الإباحة إلى الوجوب ، ومع تطور نظرية (النيابة العامة) أو (ولاية الفقيه) وتخلي الشيعة عن نظرية :(التقية والانتظار للإمام المهدي الغائب ) .ش
المصدر: موقع فيصل نور
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).