الحمد
لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين,
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما
ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا
اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول
فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل
والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أقف هنا قليلاً، هذه الحادثة تتكرر، يكون في الحيِّ أو القرية صديقان حميمان، أخوان طيبان، على مقعد واحد في الدراسة، في حي واحد، في بيت واحد، في متجر واحد، في مكان واحد، بينهما تقارب في السن، وتقارب في الطباع، يحبان بعضهما، فجأةً أحد الصديقين يتجه نحو الله عز وجل، ويلتحق بمسجد، يتأدب بأدب الإسلام، يعيش أجواء الدين، يقبل على كتاب الله الكريم، والآخر يبقى على ما هو عليه, بربكم هذا الذي اهتدى إلى الله، أليس من واجبه الأول أن يعين صديقه الحميم الذي أمضى معه ردحاً من الزمن؟ ألم يقل عليه الصلاة والسلام:
حينما جاء الإسلام اعتنق عبد الله بن رواحة الإسلام، وأعرض عنه أبو الدرداء، والملاحظ أنّ بعض الأخوان الذين لم ينضجوا بعد، عندما ينضم لمسجد، ويهتدي إلى الله عز وجل ، ويلتحق بجماعة المؤمنين يحتقر أصدقاءه القدامى، ويزور عنهم, ويترفع عنهم، فهم في نظره جهلة فاسقون, أهكذا الصحبة؟ ماذا يمنعك أن تزورهم من حين إلى آخر، وتتفقدهم، وأن تعرض عليهم ما أنت فيه من خير وهدى؟ لذلك فأبو الدرداء لم يسلم، لكن عبد الله بن رواحة لم يقطع العلاقة مع أبي الدرداء، وظل يتعهده بالزيارة، ويدعوه إلى الإسلام, ويرغبه فيه, ويجعله يأسف على كل يوم يمضي من عمره, وهو مشرك .
انطلق أبو الدرداء إلى متجره وتربع على كرسيه العالي، وأخذ يأمر غلمانه وينهاهم، وهو لا يعلم شيئاً مما يجري في منزله، ففي ذلك الوقت كان عبد الله بن رواحة يمضي إلى بيت صاحبه أبي الدرداء, وقد عزم على أمر، فدخل إلى بيته، ووصل إلى مكان الصنم الذي يعبده من دون الله، ماذا فعل بهذا الصنم؟ قطَّعه بالفأس إرباً إرباً .
فلما رأت زوجة أبي الدرداء ما حل بالصنم الذي يعبده زوجها من دون الله، توقعت الهلاك، وقالت له:
-أنا أقول لكم دائماً: إنّ الإنسان أحياناً سرُّ هداه بلحظة تفكير صحيحة، وكان ممكنًا لأبي الدرداء أنْ يغضب ويثور، ويحمل الفأس ليكسر بها رأس الذي كسر صنمه، لكن يبدو أن صديقه يعرفه عاقلاً، يعرفه منطقياً- .
فهذا الإنسان الذي تخافه، أو الذي ترجوه، أو الذي تعبده من دون الله, وأنت لا تشعر، هذا الإنسان ألا تشله نقطة دم في بعض شرايين الدماغ, وبمكان آخر يفقد ذاكرته، وبمكان آخر يفقد عقله، وبمكان رابع يفقد بصره؟ ما هذا الإنسان الذي يقول: (أنا) وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شراً؟ .
الحقيقة عبادة الأصنام الحجرية انتهت مع مجيء الإسلام، ولكن أحياناً يكون للإنسان ابن خالة بمكان مرموق، دائماً متكئ عليه، ابن خالتي فلان، انتبه فمعي رقم تلفونه؟ خير إن شاء الله، هذا شرك .
أنت معتمد على هذا الإنسان وهو بعيد، فنحن لا نخاف على المسلمين مِن الشرك الجلي ، ولكن نخاف عليهم من الشرك الخفي, الشرك الخفي أن تعتقد أن إنساناً بإمكانه أن ينفعك أو أن يضرك، أن تعتقد أن إنساناً بإمكانه أن يعطيك أو أن يمنعك, لا معطيَ، ولا مانعَ، ولا رافعَ، ولا خافضَ إلا الله، هذا هو التوحيد, لذلك كلما وضعت الثقة بالله عز وجل أكرمك الله، وكلما وضعت الثقة بغير الله عز وجل تخلى الله عنك .
لاحظ أحياناً سيارة تزاحم السيارات، تزاحم وترتكب الأخطار من أجل أن تصل إلى الإشارة الحمراء، والذي قصر يقف جنبه، فهذه المزاحمة حمقاء، ولو كان الطريق سالكًا إلى ما لا نهاية يمكن أنْ تزاحم، ولكن بعد مئتين متر هناك إشارة حمراء، فكل هذا الطيش والمزاحمة والتجاوز والوقوع في الأخطار جعَلَ الناس يسبُّون هذا السائق، وبعد دقيقة يقف عند الإشارة الحمراء مثله مثل الآخرين . إذاً: هذه مزاحمة فيها غباء، هذا مثل بسيط، لو زاحمت الناس في الدنيا وحصلت على أكبر نصيب، فيأتي الموت ويسوِّي بينك وبين أفقر إنسان . لو زاحمت الناس وحصلت أكبر مرتبة اجتماعية، يأتي الموت ويساوي بينك وبين أضعف إنسان، هذا الموت أمرُه عجيب، ينهي غنى الغني وفقر الفقير، وقوة القوي وضعف الضعيف، وصحة الصحيح ومرض المريض، ينهي كل الميزات وكل السيئات، هذه المنافسة إذاً غير معقولة، إذاً أين المنافسة؟ في الآخرة . فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه ندم أشد الندم على تقصيره, وعلى تأخر إسلامه، فعزم على أن يستدرك ما فات، بالجهد الجاهد، وأن يواصل كلال الليل بكلال النهار، حتى يلحق بالركب, ويتقدم عليه, فانصرف إلى العبادة انصراف المتبتل، وأقبل على العلم إقبال الظمآن, وأكب على كتاب الله يحفظه ويتعمق في فهم آياته، ولما رأى التجارة تنغص عليه لذة العبادة, وتفوت عليه مجالس العلم تركها غير متردد ولا آسف . هل هذا مِن أبي الدرداء حكم شرعي؟ لا, لكنه موقف شخصي يجب أن نفرق دائماً بين الحكم الشرعي الذي يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلال أقواله أو أفعاله أو إقراره، وبين الموقف الشخصي الذي يصدر عن غير النبي . فلديه سبب، إنه متأخر، فمثلاً؛ هل يمكن لشخص أن يقرأ عشرين ساعة في النهار؟ الشيء الطبيعي ثماني ساعات، لكن لو فرضنا إنسانًا نام طوال العام الدراسي، وصحا قبل شهر من الفحص، ودرس عشرين ساعة في اليوم، هذا وضع استثنائي، ليس هذا أصلاً، الأصل ثماني ساعات، وتنام ثماني ساعات، ودوام ثماني ساعات, دوام وراحة ودراسة، فسببَ ترك سيدنا أبي الدرداء التجارة، أنه شعر بالتقصير والندم، وشعر أن الصحابة قد سبقوه مراحل فسيحة، وأنه فاته خير كثير . أحياناً يأتي شخصٌ أخر, مثلاً يقول لك: أما عندكم دروس، فتقول له: درس الجمعة, درس تفسير، ودرس الأحد درس فقه، ودرس الاثنين درس سيرة، ودرس للدعاة يوم السبت، ودرس الفجر، والخطبة، يأتي إلى جميع الدروس، ثم يقول: عندكم أشرطة لتلك الدروس, صدقاً بعض الأخوان أعطيه عشرين شريطًا, أقول لنفسي: يحتاج إلى شهر، بعد ثلاثة أيام يأتي بهم، ويقول: سمعتها كلها، لديكم غيرها .
أحياناً في حالات خاصة الإنسان يحس أنه فاته خير كثير، كيف يعوض؟ . سأله سائل عن تركه للتجارة, فقال:
يعني الإنسان ينبغي أن يجمع بين الدنيا وبين الآخرة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا أن يأخذ منهما معاً, فإن الأولى مطية للثانية .
فقد جعل الله قوام الحياة أن تكسب الرزق وتطعم، والأدلة كثيرة من حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ألم تسمعوا أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل إلى المسجد فرأى شاباً يصلي فيما بين الصلاتين, سأله قائلاً: مَن يطعمك، قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك .
لكن طالب العلم لما جاء شريكه يشكوه للنبي، ماذا قال للشريك؟ لعلك تُرزق به، فطلب العلم عمل، الآن في العالم تُخصَّص منحٌ دراسية، فيأتي الطالب للجامعة أو للثانوية، يدرس ولا يكلَّف بعمل، يكلَّف بالدراسة حصرًا، إذاً: إذَا طلبت العلم فهذا عمل مشرف .
أنا أنصح أخواننا الشباب الذين يجدون من ينفق عليهم، ووجد بيتاً يؤويه، أنا أنصحه بطلب العلم، لأن العلم أثمن شيء في الحياة، وكثير مِنَ الأشخاص لا يُتاح لهم أن يدرسوا، ويضطرون أن يعملوا حتى يأكلوا، فإذا هيَّأ الله لشاب أبًا ينفق عليه فليطلب العلم الشرعي، حتى يكون عالمًا، لأن مرتبة العلم هي أعلى الرتب .
أحد الخلفاء وهو في الحج طلب أن يلتقي بعالم، وهذا العالم كان عبدًا فالتقى به، فالعالم أعزَّه العلم، لا أقول: كبر، بل أعزّه الله، وكان سيدنا الحسن مرةً يمشي مشية فيها شعور بالثقة، فقال له أحدُهم:
إذا كنت مِن الطبقة الرفيعة في المجتمع، وطلبت العلم صرتَ متفوقاً، وإن كنت من الطبقة الوسطى، وطلبتَ العلم صرت سيداً، وإن كنت من الطبقة الدنيا, وطلبت العلم عشت بين الناس حميدَ السيرة .
يقول أبو الدرداء:
ما هو المنصب الذي اشتغل به أبو الدرداء في دمشق, وما هو المنصب الذي رفضه حينما عرضه عليه الفاروق, وما هي نصيحته لأهل دمشق؟
في خلافة الفاروق رضوان الله عليه، أراد من أبي الدرداء أن يلي له عملاً في الشام فأبى، قال:
لنا أخوان من فضل الله، أساس عملهم بعيد عن التعليم، يدرسون طلابًا صغارا في تحفيظ قرآن وتجويده، يقول عن نفسه: أنا أعيش في عالم آخر، وهذا شيء مسعد حقًّا, مهنة التعليم أرقى حرفة، لأنها حرفة الأنبياء، لكن إذا ضعفت قيمة العلم في المجتمعات ضعفت معها قيمة التعليم . أضرب مثلاً؛ الذي يقف ليبيع هذا اللحم المشوي الذي انتشر في الشام، راتبه الشهري ثمانية عشر ألف ليرة، لكن منصب التدريس دخله ضعيف جداً، ما معنى ذلك؟ أن بطن الناس أغلى عليهم من عقولهم، فإذا كان البطن أغلى من العقل، يصير الذي يقف على منصة اللحم ليبيعه يتقاضى ثمانية عشر ألفًا بالشهر، والذي يقف بين خمسين طالبًا ليعلمهم القيم واللغة يتقاضى أقلَّ دخلٍ في عالم الوظائف، أليس كذلك؟ . لو فرضنا إنسانًا حاز أعلى شهادة، فراتبُه ربما لا يكفيه، لكن تتقاضى المغنية سبعين ألف ليرة في سهرة واحدة، ما معنى ذلك؟ المعنى أنّ الطرب عند الناس أغلى عليهم من العقل, من عدم الحكمة أن تقيس المهنة بدخلها، تقاس المهنة بمدى ارتباطها برسالة الإنسان في الحياة، تقاس المهنة بمدى رضوان الله على صاحبها- . فلما بلغها, أي الشام, قال: وجدتُ الناس قد أولعوا بالترف، وانغمسوا في النعيم، فهاله ذلك، ودعا الناس إلى المسجد، فاجتمعوا عليه، فوقف فيهم, فقال: يا أهل دمشق، أنتم الأخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، يا أهل دمشق، ما الذي يمنعكم من مودتي، والاستجابة لنصيحتي، وأنا لا أبتغي منكم شيئاً، فنصيحتي لكم ومؤونتي على غيركم, ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به الله عز وجل, وتركتم ما أمرتم به، ما لي أراكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وتؤملِّون ما لا تبلغون, لقد جمعتِ الأقوامَ التي قبلكم، وأمَّلت فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً . -واللهِ هذه موعظة بليغة، يقول لك: وضعت سبعة أكياس إسمنت في هذه الأساسات، وهذه البناية يسكنها مليون شخص، فهل أنت تعيش مدى الحياة؟ هناك بيوت من اللبِن عمرها أربعمئة سنة في الشام، وهذا يعني أنّ بناء الإسمنت المسلح يقاوم ألف سنة، عمر الإنسان كلُّه ستون سنة، والبناية التي أُقيمت له ربما لا يسكنها- . قال: هذه عاد يا أهل دمشق, قد ملأت الأرض مالاً وولداً، فمن يشتري مني تركة عاد اليوم بدرهمين؟ فجعل الناس يبكون حتى سُمع نشيجهم من خارج المسجد، -لقد كانت كلمة بليغة- ومِن ذلك اليوم طفق أبو الدرداء يؤمُّ مجالس الناس في دمشق، ويطوف بأسواقهم، فيجيب السائل، ويعلّم الجاهل، وينبِّه الغافل، مغتنماً كل فرصة، مستفيداً من كل مناسبة))
شاب أقبل على أبي الدرداء، قال:
المؤمن في المسجد كالسمكة في الماء، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص، يكاد يختنق، لأنه يتضجّر, وقد ضمن الله عز وجل لمن كانت المساجد بيوتهم، الرَّوح والرحمة والجواز على الصراط .
مر سيدنا أبو الدرداء على جماعة من الشبان جلسوا على الطريق يتحدثون وينظرون إلى المارين, قال:
فلما لحق أبو الدرداء بجوار ربه، رأى عوفُ بن مالك الأشجعي فيما يراه النائمُ مرجاً أخضر فسيحَ الأرجاء، وارفَ الأَفْياء، فيه قبة عظيمة من أدم, حولها غنم رابضة لم تر العين مثلها قط, قال:
لا تنسوا أن هذا الصحابي الجليل زوّج ابنته من شاب من عامة المسلمين حفاظاً على دينها، لأن الأب إن لم يزوج ابنته من المؤمن فإن كل أعمالها غير الصحيحة في صحيفته، وقد تقول لله عز وجل يوم القيامة: يا رب لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي, لا تنتهي مسؤولية الأب عند تزويج ابنته، بل تبدأ، إلا إذا اختار لها الزوج الصالح . هناك أشياء يمكن أن نستنبطها من هذه القصة، أرجو الله تعالى أن ننتفع بسلوك هذا الصحابي الجليل وعلمه .
من هو أبو الدرداء, ومن كان صديقه في الجاهلية, وكيف أسلم ؟
أيها الأخوة, مع الدرس السادس والأربعين من
دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم
أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه .
اسمه عويمر بن مالك الخزرجي المكنى بأبي
الدرداء، كان يمضي هذا الرجل قبل أن يكون صحابياً إلى صنمه الذي نصبه في
أشرف مكان في بيته، فيحيِّيه ويضمِّخه بأنفَس أنواع العطر، ثمّ يلقي عليه
أفخر الثياب من فاخر الحرير، وكلما استيقظ صباحاً توجه إلى هذا الصنم يعبده
من دون الله، وبعد أن يقف أمام صنمه الذي وضعه في أشرف مكان في بيته،
ينطلق بعد هذا إلى متجره، انطلق مرةً إلى متجره فإذا شوارع يثرب وطرقاتها
تضيق بأتباع محمد، وهم عائدون من بدر، وأمامهم أفواج الأسرى من قريش فازوّر
عنهم، لكنه ما لبث أن أقبل على فتىً منهم ينتمي إلى الخزرج, وسأله عن عبد
الله بن رواحة، ما شأنه؟.
فقال له الفتى الخزرجي:
((لقد أبلى في المعركة أكرم البلاء, وعاد سالماً غانماً, وطمأنه عليه))
فلِمَ سأل أبو الدرداء عن عبد الله بن رواحة؟
لأنه كان صديقاً له، وكان بينهما من أواصر المودة الشيء الكثير، فأبو
الدرداء وعبد الله بن رواحة كانا أخوين متآخيين في الجاهلية، ولما جاء
الإسلام اعتنق ابن رواحة الإسلام, ولم يعتنقه أبو الدرداء .أقف هنا قليلاً، هذه الحادثة تتكرر، يكون في الحيِّ أو القرية صديقان حميمان، أخوان طيبان، على مقعد واحد في الدراسة، في حي واحد، في بيت واحد، في متجر واحد، في مكان واحد، بينهما تقارب في السن، وتقارب في الطباع، يحبان بعضهما، فجأةً أحد الصديقين يتجه نحو الله عز وجل، ويلتحق بمسجد، يتأدب بأدب الإسلام، يعيش أجواء الدين، يقبل على كتاب الله الكريم، والآخر يبقى على ما هو عليه, بربكم هذا الذي اهتدى إلى الله، أليس من واجبه الأول أن يعين صديقه الحميم الذي أمضى معه ردحاً من الزمن؟ ألم يقل عليه الصلاة والسلام:
((إن الله ليسأل العبد عن صحبة ساعة))
أيها الأخوة، أريد من سيرة رسول الله, وأصحابه
الكرام أن تكون واقعاً ملموساً بين أيديكم، أن نستفيد من أحداث السيرة،
ومن أفعال الصحابة الكرام لنكون على هدًى مثلهم .حينما جاء الإسلام اعتنق عبد الله بن رواحة الإسلام، وأعرض عنه أبو الدرداء، والملاحظ أنّ بعض الأخوان الذين لم ينضجوا بعد، عندما ينضم لمسجد، ويهتدي إلى الله عز وجل ، ويلتحق بجماعة المؤمنين يحتقر أصدقاءه القدامى، ويزور عنهم, ويترفع عنهم، فهم في نظره جهلة فاسقون, أهكذا الصحبة؟ ماذا يمنعك أن تزورهم من حين إلى آخر، وتتفقدهم، وأن تعرض عليهم ما أنت فيه من خير وهدى؟ لذلك فأبو الدرداء لم يسلم، لكن عبد الله بن رواحة لم يقطع العلاقة مع أبي الدرداء، وظل يتعهده بالزيارة، ويدعوه إلى الإسلام, ويرغبه فيه, ويجعله يأسف على كل يوم يمضي من عمره, وهو مشرك .
انطلق أبو الدرداء إلى متجره وتربع على كرسيه العالي، وأخذ يأمر غلمانه وينهاهم، وهو لا يعلم شيئاً مما يجري في منزله، ففي ذلك الوقت كان عبد الله بن رواحة يمضي إلى بيت صاحبه أبي الدرداء, وقد عزم على أمر، فدخل إلى بيته، ووصل إلى مكان الصنم الذي يعبده من دون الله، ماذا فعل بهذا الصنم؟ قطَّعه بالفأس إرباً إرباً .
فلما رأت زوجة أبي الدرداء ما حل بالصنم الذي يعبده زوجها من دون الله، توقعت الهلاك، وقالت له:
((يا ابن رواحة, أهلكتَني عند أبي الدرداء, ولم يمض
غير قليل حتى عاد أبو الدرداء إلى منزله فرأى امرأته جالسة أمام الحجرة,
وهي تبكي وتنشج وعلامات الخوف من زوجها بادية على وجهها, قال لها: ما شأنك؟
قالت: أخوك عبد الله بن رواحة، جاءنا في غيبتك وصنع هكذا بصنمك .
-أنا أقول لكم دائماً: إنّ الإنسان أحياناً سرُّ هداه بلحظة تفكير صحيحة، وكان ممكنًا لأبي الدرداء أنْ يغضب ويثور، ويحمل الفأس ليكسر بها رأس الذي كسر صنمه، لكن يبدو أن صديقه يعرفه عاقلاً، يعرفه منطقياً- .
نظر إلى الصنم فوجَدهُ حطاماً، ماذا قال؟ ثم قال: لو
كان في هذا الصنم خير لدفع الأذى عن نفسه، ثم انطلق من توه إلى عبد الله بن
رواحة, ومضيا معاً إلى رسول الله صلى الله عليه, وأعلن دخوله في الإسلام،
فكان آخر أهل حيه إسلاماً))
وبعد؛ أمَا رأيت إنسانًا قويًّا صار ضعيفًا؟
أما رأيت إنسانًا كان في أعلى درجات الجاه فصار وضيعاً؟ أما رأيت غني
افتقر؟ أما رأيت طبيبًا مرِض؟ أما رأيت قويًّا أصبح مشلولاً؟ أما رأيت
إنسانًا عظيمًا صار في لحظة خبراً على الجدران؟ .فهذا الإنسان الذي تخافه، أو الذي ترجوه، أو الذي تعبده من دون الله, وأنت لا تشعر، هذا الإنسان ألا تشله نقطة دم في بعض شرايين الدماغ, وبمكان آخر يفقد ذاكرته، وبمكان آخر يفقد عقله، وبمكان رابع يفقد بصره؟ ما هذا الإنسان الذي يقول: (أنا) وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شراً؟ .
الحقيقة عبادة الأصنام الحجرية انتهت مع مجيء الإسلام، ولكن أحياناً يكون للإنسان ابن خالة بمكان مرموق، دائماً متكئ عليه، ابن خالتي فلان، انتبه فمعي رقم تلفونه؟ خير إن شاء الله، هذا شرك .
أنت معتمد على هذا الإنسان وهو بعيد، فنحن لا نخاف على المسلمين مِن الشرك الجلي ، ولكن نخاف عليهم من الشرك الخفي, الشرك الخفي أن تعتقد أن إنساناً بإمكانه أن ينفعك أو أن يضرك، أن تعتقد أن إنساناً بإمكانه أن يعطيك أو أن يمنعك, لا معطيَ، ولا مانعَ، ولا رافعَ، ولا خافضَ إلا الله، هذا هو التوحيد, لذلك كلما وضعت الثقة بالله عز وجل أكرمك الله، وكلما وضعت الثقة بغير الله عز وجل تخلى الله عنك .
هل ندم أبو الدرداء على تأخر إسلامه , وماذا صنع حتى يستدرك ما فات منه من الخير ؟
أيها الأخوة, ندم أبو الدرداء ندماً كبيراً
على ما فاته من خير، وأدرك إدراكاً عظيماً ما سبقه إليه أصحابه من فقه في
الدين, وحفظ لكتاب الله, وعبادة وتقوى ادخروها لأنفسهم عند الله .
المشكلة لدينا تسابق، الله عز وجل, قال: وفي
ذلك فليتنافس المتنافسون, والجنة أبدية، مراتب الجنة بحسب أعمال الدنيا،
فكل إنسان يحب أن ينافس الناس في الدنيا, ولا يحب أن ينافسهم في الآخرة فهو
إنسان غبي، لأن منافسة الدنيا ينتهي شأنها بالموت .
لاحظ أحياناً سيارة تزاحم السيارات، تزاحم وترتكب الأخطار من أجل أن تصل إلى الإشارة الحمراء، والذي قصر يقف جنبه، فهذه المزاحمة حمقاء، ولو كان الطريق سالكًا إلى ما لا نهاية يمكن أنْ تزاحم، ولكن بعد مئتين متر هناك إشارة حمراء، فكل هذا الطيش والمزاحمة والتجاوز والوقوع في الأخطار جعَلَ الناس يسبُّون هذا السائق، وبعد دقيقة يقف عند الإشارة الحمراء مثله مثل الآخرين . إذاً: هذه مزاحمة فيها غباء، هذا مثل بسيط، لو زاحمت الناس في الدنيا وحصلت على أكبر نصيب، فيأتي الموت ويسوِّي بينك وبين أفقر إنسان . لو زاحمت الناس وحصلت أكبر مرتبة اجتماعية، يأتي الموت ويساوي بينك وبين أضعف إنسان، هذا الموت أمرُه عجيب، ينهي غنى الغني وفقر الفقير، وقوة القوي وضعف الضعيف، وصحة الصحيح ومرض المريض، ينهي كل الميزات وكل السيئات، هذه المنافسة إذاً غير معقولة، إذاً أين المنافسة؟ في الآخرة . فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه ندم أشد الندم على تقصيره, وعلى تأخر إسلامه، فعزم على أن يستدرك ما فات، بالجهد الجاهد، وأن يواصل كلال الليل بكلال النهار، حتى يلحق بالركب, ويتقدم عليه, فانصرف إلى العبادة انصراف المتبتل، وأقبل على العلم إقبال الظمآن, وأكب على كتاب الله يحفظه ويتعمق في فهم آياته، ولما رأى التجارة تنغص عليه لذة العبادة, وتفوت عليه مجالس العلم تركها غير متردد ولا آسف . هل هذا مِن أبي الدرداء حكم شرعي؟ لا, لكنه موقف شخصي يجب أن نفرق دائماً بين الحكم الشرعي الذي يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلال أقواله أو أفعاله أو إقراره، وبين الموقف الشخصي الذي يصدر عن غير النبي . فلديه سبب، إنه متأخر، فمثلاً؛ هل يمكن لشخص أن يقرأ عشرين ساعة في النهار؟ الشيء الطبيعي ثماني ساعات، لكن لو فرضنا إنسانًا نام طوال العام الدراسي، وصحا قبل شهر من الفحص، ودرس عشرين ساعة في اليوم، هذا وضع استثنائي، ليس هذا أصلاً، الأصل ثماني ساعات، وتنام ثماني ساعات، ودوام ثماني ساعات, دوام وراحة ودراسة، فسببَ ترك سيدنا أبي الدرداء التجارة، أنه شعر بالتقصير والندم، وشعر أن الصحابة قد سبقوه مراحل فسيحة، وأنه فاته خير كثير . أحياناً يأتي شخصٌ أخر, مثلاً يقول لك: أما عندكم دروس، فتقول له: درس الجمعة, درس تفسير، ودرس الأحد درس فقه، ودرس الاثنين درس سيرة، ودرس للدعاة يوم السبت، ودرس الفجر، والخطبة، يأتي إلى جميع الدروس، ثم يقول: عندكم أشرطة لتلك الدروس, صدقاً بعض الأخوان أعطيه عشرين شريطًا, أقول لنفسي: يحتاج إلى شهر، بعد ثلاثة أيام يأتي بهم، ويقول: سمعتها كلها، لديكم غيرها .
أحياناً في حالات خاصة الإنسان يحس أنه فاته خير كثير، كيف يعوض؟ . سأله سائل عن تركه للتجارة, فقال:
((كنت تاجراً قبل عهدي برسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما أسلمت أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة، فلم يستقم لي ما
أردت، فتركت التجارة وأقبلت على العبادة))
أنا لا أحب أن يُفهم غيرُ ما ينبغي أن يُفهم،
الإنسان أحياناً يكون عمله جزء من عبادته، يكون عنده زوجة وأولاد، وهو يعمل
ليكسب المال لينفق على هؤلاء، أما إذا عرف الله عز وجل، واحتسب عمله عند
الله انقلب عمله إلى عبادة .يعني الإنسان ينبغي أن يجمع بين الدنيا وبين الآخرة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا أن يأخذ منهما معاً, فإن الأولى مطية للثانية .
فقد جعل الله قوام الحياة أن تكسب الرزق وتطعم، والأدلة كثيرة من حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ألم تسمعوا أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل إلى المسجد فرأى شاباً يصلي فيما بين الصلاتين, سأله قائلاً: مَن يطعمك، قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك .
لكن طالب العلم لما جاء شريكه يشكوه للنبي، ماذا قال للشريك؟ لعلك تُرزق به، فطلب العلم عمل، الآن في العالم تُخصَّص منحٌ دراسية، فيأتي الطالب للجامعة أو للثانوية، يدرس ولا يكلَّف بعمل، يكلَّف بالدراسة حصرًا، إذاً: إذَا طلبت العلم فهذا عمل مشرف .
أنا أنصح أخواننا الشباب الذين يجدون من ينفق عليهم، ووجد بيتاً يؤويه، أنا أنصحه بطلب العلم، لأن العلم أثمن شيء في الحياة، وكثير مِنَ الأشخاص لا يُتاح لهم أن يدرسوا، ويضطرون أن يعملوا حتى يأكلوا، فإذا هيَّأ الله لشاب أبًا ينفق عليه فليطلب العلم الشرعي، حتى يكون عالمًا، لأن مرتبة العلم هي أعلى الرتب .
أحد الخلفاء وهو في الحج طلب أن يلتقي بعالم، وهذا العالم كان عبدًا فالتقى به، فالعالم أعزَّه العلم، لا أقول: كبر، بل أعزّه الله، وكان سيدنا الحسن مرةً يمشي مشية فيها شعور بالثقة، فقال له أحدُهم:
((أَكبَرْتَ؟ قال: لا، ولكنه عز الطاعة، -المطيع يشعر بالعزة، الكبر قبيح مذموم، أما الذي يطيع الله عز وجل فيشعر بالعزة .
يبدو أن هذا العالم العبد وقف موقفًا أمام الخليفة في عزة-
قال الخليفة لابنه: قم يا بني، وتعلّم العلم، ألا ترى حالنا مع هذا العالم، وقفنا أمامه أذلاء))
إذا كنت مِن الطبقة الرفيعة في المجتمع، وطلبت العلم صرتَ متفوقاً، وإن كنت من الطبقة الوسطى، وطلبتَ العلم صرت سيداً، وإن كنت من الطبقة الدنيا, وطلبت العلم عشت بين الناس حميدَ السيرة .
يقول أبو الدرداء:
((والذي نفس أبي الدرداء بيده، ما أحب أن يكون لي
اليوم حانوت على باب المسجد فلا تفوتني صلاة مع الجماعة, ثم أبيع وأشتري
وأربح كل يوم ثلاثمئة دينار، ثم نظر إلى سائله, وقال: إني لا أقول: إن الله
عز وجل حرم البيع، ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة, ولا بيع
عن ذكر الله))
لذلك هذه نصيحة لي ولكم، من أحب دنياه أضر
بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، وحينما يتفرّغ الإنسان تفرغًا كاملاً
للتجارة يربح أكثر بحسب قواعد التجارة، ولكن المؤمن يعقد موازنة، يجمع بين
العمل وبين طلب العلم، وبين العمل والعبادة، بين العمل وبين الدعوة إلى
الله, وبين العمل وبين حضور حلقات الذكر، بين العمل وبين ما ينبغي أن يفعله
.ما هو المنصب الذي اشتغل به أبو الدرداء في دمشق, وما هو المنصب الذي رفضه حينما عرضه عليه الفاروق, وما هي نصيحته لأهل دمشق؟
في خلافة الفاروق رضوان الله عليه، أراد من أبي الدرداء أن يلي له عملاً في الشام فأبى، قال:
((إذا رضيت مني أن أذهب إليهم لأعلمهم كتاب ربهم وسنة نبيهم وأصلي بهم ذهبت,
-المنصب العلمي فيه عطاء، المنصب الإداري فيه
أخذ، فمدير ثانوية عملُه محصور في مَن تأخر اليوم, ومَن لم يدفع القسط؟ كل
عمله أساسه سلْبُ ما عند الناس، أما المدرس فيعطي، ترى الطالب يميل إلى
المدرس أكثر من ميله إلى المدير، فعنده العطاء، فعملُ المدير سلبٌ، يبنـي
عملـه على أمور إدارية، ضبط الوقود، وضبط الدوام، كله ضبط، أليس كذلك؟ لذلك
من المناصب الرفيعة أن تكون معلماً، في أي مرحلة النبي عليه الصلاة
والسلام, يقول:
((إنما بعثت معلماً، إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق))
يعني أعلى وظيفة تشغلها في الحياة أن تكون
معلماً، الملائكة في السماء والحيتان في البحار تصلي على معلمي الناس
الخير, كلام النبي كلام دقيق صلى الله عليه وسلم، قال:
((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))
لنا أخوان من فضل الله، أساس عملهم بعيد عن التعليم، يدرسون طلابًا صغارا في تحفيظ قرآن وتجويده، يقول عن نفسه: أنا أعيش في عالم آخر، وهذا شيء مسعد حقًّا, مهنة التعليم أرقى حرفة، لأنها حرفة الأنبياء، لكن إذا ضعفت قيمة العلم في المجتمعات ضعفت معها قيمة التعليم . أضرب مثلاً؛ الذي يقف ليبيع هذا اللحم المشوي الذي انتشر في الشام، راتبه الشهري ثمانية عشر ألف ليرة، لكن منصب التدريس دخله ضعيف جداً، ما معنى ذلك؟ أن بطن الناس أغلى عليهم من عقولهم، فإذا كان البطن أغلى من العقل، يصير الذي يقف على منصة اللحم ليبيعه يتقاضى ثمانية عشر ألفًا بالشهر، والذي يقف بين خمسين طالبًا ليعلمهم القيم واللغة يتقاضى أقلَّ دخلٍ في عالم الوظائف، أليس كذلك؟ . لو فرضنا إنسانًا حاز أعلى شهادة، فراتبُه ربما لا يكفيه، لكن تتقاضى المغنية سبعين ألف ليرة في سهرة واحدة، ما معنى ذلك؟ المعنى أنّ الطرب عند الناس أغلى عليهم من العقل, من عدم الحكمة أن تقيس المهنة بدخلها، تقاس المهنة بمدى ارتباطها برسالة الإنسان في الحياة، تقاس المهنة بمدى رضوان الله على صاحبها- . فلما بلغها, أي الشام, قال: وجدتُ الناس قد أولعوا بالترف، وانغمسوا في النعيم، فهاله ذلك، ودعا الناس إلى المسجد، فاجتمعوا عليه، فوقف فيهم, فقال: يا أهل دمشق، أنتم الأخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، يا أهل دمشق، ما الذي يمنعكم من مودتي، والاستجابة لنصيحتي، وأنا لا أبتغي منكم شيئاً، فنصيحتي لكم ومؤونتي على غيركم, ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به الله عز وجل, وتركتم ما أمرتم به، ما لي أراكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وتؤملِّون ما لا تبلغون, لقد جمعتِ الأقوامَ التي قبلكم، وأمَّلت فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً . -واللهِ هذه موعظة بليغة، يقول لك: وضعت سبعة أكياس إسمنت في هذه الأساسات، وهذه البناية يسكنها مليون شخص، فهل أنت تعيش مدى الحياة؟ هناك بيوت من اللبِن عمرها أربعمئة سنة في الشام، وهذا يعني أنّ بناء الإسمنت المسلح يقاوم ألف سنة، عمر الإنسان كلُّه ستون سنة، والبناية التي أُقيمت له ربما لا يسكنها- . قال: هذه عاد يا أهل دمشق, قد ملأت الأرض مالاً وولداً، فمن يشتري مني تركة عاد اليوم بدرهمين؟ فجعل الناس يبكون حتى سُمع نشيجهم من خارج المسجد، -لقد كانت كلمة بليغة- ومِن ذلك اليوم طفق أبو الدرداء يؤمُّ مجالس الناس في دمشق، ويطوف بأسواقهم، فيجيب السائل، ويعلّم الجاهل، وينبِّه الغافل، مغتنماً كل فرصة، مستفيداً من كل مناسبة))
هكذا ينبغي أن يكون الداعي إلى الله :
له مواقف رائعة جداً، مرةً مر على جماعة، قد تجمهروا على رجل, وجعلوا يضربونه ويشتمونه، فأقبل عليهم, وقال:
((ما الخبر؟ .
قالوا: رجل وقع في ذنب كبير .
قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ .
قالوا: بلى .
قال: إذاً: لا تسبوه، ولا تضربوه، وإنما عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في هذا الذنب .
قالوا: أفلا تضربه؟.
قال: لا، إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي .
-ما قولكم بطريقة الدعوة إلى الله ؟- فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته))
هذه طريقة في الدعوة إلى الله، أنت طبيب، لست
خصمًا، إذا جاء الطبيبُ إلى مريض فهل يحقد عليه؟ لا، بل يرثي لحاله، ويحاول
إنقاذه، وتطبيبه .قالوا: رجل وقع في ذنب كبير .
قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ .
قالوا: بلى .
قال: إذاً: لا تسبوه، ولا تضربوه، وإنما عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في هذا الذنب .
قالوا: أفلا تضربه؟.
قال: لا، إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي .
-ما قولكم بطريقة الدعوة إلى الله ؟- فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته))
شاب أقبل على أبي الدرداء، قال:
((يا صاحب رسول الله, أوصني, قال: يا بني, اذكر الله
في السراء يذكرك في الضراء، يا بني, كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا
تكن الرابعة فتهلك, يا بني, ليكن المسجد بيتك، فإن سمعت النبي عليه الصلاة
والسلام, يقول: المساجد بيت كل تقي))
المؤمن في المسجد كالسمكة في الماء، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص، يكاد يختنق، لأنه يتضجّر, وقد ضمن الله عز وجل لمن كانت المساجد بيوتهم، الرَّوح والرحمة والجواز على الصراط .
مر سيدنا أبو الدرداء على جماعة من الشبان جلسوا على الطريق يتحدثون وينظرون إلى المارين, قال:
((يا بني, صومعة الرجل بيته، يكف فيه نفسه وبصره، وإياكم والجلوس في الأسواق فإنه يلهي ويلغي))
الطرقات الآن فيها نساء كاسيات عاريات، البيت أرحم وأولى، إذا فسد الزمان فالبيت صومعة، وصار محرابُ البيت كهفًا، قال تعالى:
﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا
اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ
رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً﴾
لماذا رفض أبو الدرداء زواج ابنته من يزيد بن معاوية, ولمن زوجها ؟
في أثناء إقامة أبي الدرداء في دمشق بعث
إليه واليها معاوية بن أبي سفيان يخطب ابنته الدرداء لابنه يزيد, فأبى أن
يزوجها ابنه, وأعطاها لشاب من عامة المسلمين، لأنه رضي دينه وخلقه، فسار
ذلك في الناس وشاع الخبر .
سأله سائل عن السبب، فقال:
((إني تحرَّيتُ فيما صنعتُه صلاح أمر الدرداء،
قال: وكيف؟ قال: ما ظنكم بالدرداء إذا قام بين يديها العبيد يخدمونها،
ووجدت نفسها في قصور يخطف لألاؤها البصر، أين يكون دينها حينئذ؟))
لذلك أعطاها لشاب من عامة المسلمين .
كيف وجد عمر بيت أبي الدرداء حينما زاره, وما هو سبب بكاؤهما ؟
حينما كان أبو الدرداء في الشام قدم سيدنا
عمر متفقداً أحواله، فزار صاحبه أبا الدرداء في منزله ليلاً، فدفع الباب
فإذا هو بغير غلق، فدخل في بيت مظلم لا ضوء فيه، فلما سمع أبو الدرداء صوته
قام إليه ورحّب به وأجلسه، وأخذ الرجلان يتناوبان الأحاديث، والظلام يحجب
كلاً منهما عن صاحبه .
قال له عمر:
((رحمك الله، ألم أوسِّعْ عليك؟ ألم أبعث إليك؟ قال له أبو الدرداء: أتذكر يا عمر, حديثاً حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم .
قال: وما هو؟.
قال: ألم يقل:
قال: وما هو؟.
قال: ألم يقل:
((ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب))
قال: بلى .
قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ فبكى عمر، وبكى أبو الدرداء))
إليكم لحظته الأخيرة من الحياة :
ظل أبو الدرداء في دمشق يعظ أهلها، ويعلمهم الكتاب والحكمة، حتى أتاه اليقين، فلما مرِض مرَض الموت، دخل عليه أصحابه: فقالوا:
((ما تشتكي؟ .
قال: ذنوبي .
قالوا: ما تشتهي؟ .
قال: عفو ربي, ثم قال لمَن حوله: لقِّنوني لا إله إلا الله محمد رسول الله, فما زال يرددها حتى فارق الحياة))
ما هي الرؤيا التي رآها عوف بن مالك الأشجعي ؟ قال: ذنوبي .
قالوا: ما تشتهي؟ .
قال: عفو ربي, ثم قال لمَن حوله: لقِّنوني لا إله إلا الله محمد رسول الله, فما زال يرددها حتى فارق الحياة))
فلما لحق أبو الدرداء بجوار ربه، رأى عوفُ بن مالك الأشجعي فيما يراه النائمُ مرجاً أخضر فسيحَ الأرجاء، وارفَ الأَفْياء، فيه قبة عظيمة من أدم, حولها غنم رابضة لم تر العين مثلها قط, قال:
((لمن هذا؟ قيل: هذا لعبد الرحمن بن عوف، فطلع عليه
عبد الرحمن بن عوف, وقال له: يا ابن مالك، هذا ما أعطانا الله عز وجل
بالقرآن، ولو أشرفت على هذه الثنية لرأيت ما لم تر عينك, وسمعت ما لم تسمع
أذنك, ووجدت ما لم يخطر على قلبك، قال ابن مالك: ولمَن ذلك كله يا أبا
محمد؟ قال: أعده الله عز وجل لأبي الدرداء، لأنه كان يدفع عنه الدنيا
بالراحتين والصدر))
ماذا نستنبط من هذه القصة ؟
نستنبط أن أبا الدرداء كان سبب هدايته صديقُه
عبدُ الله بنُ رواحة، وأبو الدرداء عرض عليه عمر منصباً راقياً جداً، والي
دمشق، فماذا فضل عليه؟ منصب التعليم، لأن منصب التعليم أرقى عند الله عز
وجل، قال عليه الصلاة والسلام:
((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))
لا تنسوا أن هذا الصحابي الجليل زوّج ابنته من شاب من عامة المسلمين حفاظاً على دينها، لأن الأب إن لم يزوج ابنته من المؤمن فإن كل أعمالها غير الصحيحة في صحيفته، وقد تقول لله عز وجل يوم القيامة: يا رب لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي, لا تنتهي مسؤولية الأب عند تزويج ابنته، بل تبدأ، إلا إذا اختار لها الزوج الصالح . هناك أشياء يمكن أن نستنبطها من هذه القصة، أرجو الله تعالى أن ننتفع بسلوك هذا الصحابي الجليل وعلمه .
والحمد لله رب العالمين
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).