_
أمر غريب يدعو للدهشة والريب في آن واحد ؛ لاحظه المتابعون للشأن الإقليمي
عامة والإيراني خاصة ، فثمة تشابه كبير بين الكيان الإيراني في ثوبه
الخوميني والكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين . تشابه في السياسات
والاستراتيجيات وأدبيات التأسيس وأيديولوجيات التفكير ، فكلا الكيانيْن نشأ
انطلاقا من فكرة الاضطهاد والمظلومية واستعادة الحق المسلوب ، وكلا الكيانيْن يتمتع بقدر كبير من التعصب والشعوبية والعنصرية ، وكلا الكيانيْن محاصر في فضاء إقليمي كبير مغاير في القومية والعقيدة . لذلك كله فكلا الكيانيْن يتبع نفس الاستراتيجيات والسياسات في التعامل مع ملفات الداخل والخارج ، وربما يسعيان نحو تحقيق ذات الأهداف.
حاصر عدوك:
_
ومن أبرز السياسات التي يتبعها الكيان الإيراني سياسة " شد الأطراف " وهي
سياسة صهيونية أصيلة ابتدعها مؤسس الكيان الصهيوني " بن جوريون " للخروج من
أسر الحصار السياسي والعقدي ، حيث طرح من خلالها رؤيته للسبيل
الأمثل كدولة ناشئة للخروج من فخ حصار قوى معادية، باستخدام هذه الدولة
المحاصَرة لسلاح العقيدة أو الاقتصاد حتىتتجاوز الحصار ، بأن تمد أذرعتها
إلى مساحات محيطة بالدولة المحاصِرة أو بعيدة عن سيطرتها الكلية، أو بعبارة
أوضح " حصار من يحاصرك " . هذه الاستراتيجية اتبعها الصهاينة مع الأقليات
الدينية والعرقية في الدول العربية والإسلامية المحيطة ، فأقاموا علاقات
وثيقة مع الأقباط والأكراد ، كما استخدموها مع النطاق الجغرافي الممتد في
فضاءات العالم العربي في كل اتجاه ، فأقاموا علاقات وثيقة جدا مع العديد من
الدول الأفريقية وعلى رأسها أثيوبيا وكينيا وجنوب أفريقيا وأوغندا ..
إيران والسير على خطي إسرائيل:
_ وبالمثل فإن إيران تسير على نفس الاستراتيجية والنهج ، فقد حظيت
القارة الإفريقية بأولوية واضحة بين دوائر حركة السياسة الخارجية
الإيرانية منذ بداية الثورة الخومينية ، لكن انهماك إيران في حربها مع
العراق، وتخوف الأفارقة من المد الشيعي، وسياسة تصدير الثورة؛ شكّل قيدًا
قويًّا على الطموح الإيراني في النفاذ إلى القارة السمراء، حتى جاءت الفرصة
في عهد الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني، وهو الأمر الذي استمر في عهد
الرئيس خاتمي، الذي انفتح على القارة بعقلية براجماتية متحررة إلى حدٍّ ما
من القيود الأيديولوجية، وكذلك عهد الرئيس نجاد الذي أعاد الخطاب
الأيديولوجي إلى الواجهة. ويلاحظ المتابع لأدبيات الفكر الاستراتيجي
الإيراني منذ بداية العقد الماضي وجود نشاط محموم ورؤية واضحة حول أولوية
أفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية. فقد اتسع نطاق العلاقات
الإيرانية الأفريقية بشكل كبير منذ بداية الألفية الجديدة. وعلى سبيل
المثال تمتلك إيران سفارات في أكثر من 30 دولة أفريقية. وفي منتصف 2010
عقدت القمة الأفريقية الإيرانية في طهران بمشاركة ممثلين عن 40 دولة
أفريقية بينهم رؤساء ووزراء ودبلوماسيون ورجال أعمال.أضف
إلى ذلك أن إيران باتت تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وما
فتئت القيادة الإيرانية على مستوى الرئاسة في زيارة الدول الأفريقية بشكل
دوري.وهنا تجدر الإشارة إلى جولة الرئيس خاتمي في يناير 2005، التي شملت
سبع دول إفريقية، والتي تلتها جولات عديدة مهمة ومتقاربة زمنيًّا للرئيس
نجاد. وفي المقابل استقبلت العاصمة الإيرانية الكثير من الرؤساء والمسئولين
الأفارقة، سواء للمشاركة في المؤتمرات الدولية، وآخرها قمة دول عدم
الانحياز، أو في إطار زيارات ثنائية ، في الوقت التي لا تسجل ذات العواصم
زيارات ذات شأن تذكر للرؤساء والحكومات العربية التي تركت ساحتها الخلفية
وعمقها الاستراتيجي نهبا للخصم الإيراني كما تركتها للخصم الإسرائيلي
يتمددان فيها كيفما شاءوا !!.
إيران تخدع الأفارقة:
_ طرحت إيران خطابًا سياسيًّا له جاذبيته لدى الأفارقة الذين عانوا طويلا من ويلات الاستعمار والعنصرية يقوم على ثلاثة محاور هي:
التعاون
المشترك القائم على تعزيز المصالح المتبادلة والندية، مع التركيز على
القضايا وثيقة الصلة بالحياة اليومية للأفارقة وبمستقبلهم، مثل قضايا
التنمية ومحاربة الفقر، وهي قضايا لها بريقها وأثرها في نفس المواطن الأفريقي ، وتعمد
إيران إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات
البنية التحتية للطاقة ومصافي النفط ومحطات توليد الكهرباء وحتى تقديم
خبرتها التكنولوجية في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
المواجهة
مع الغرب، وتقديم نفسها كنموذج مناهض للقوى الغربية. وهنا دأبت إيران على
تأكيد تضامنها مع القارة الإفريقية، ومساندتها لحقها في النهضة والتقدم،
بما يتسق مع مواردها الهائلة، ومثال ذلك إبراز الدور الأوروبي في تجارة
الرقيق في إفريقيا، وتأكيد موقف طهران الرافض لسياسة الاحتلال واستغلال
الشعوب، وإعلان مساندتها لسياسة حكومة زيمبابوي في انتزاع ملكية الأراضي
التي يُهيمن عليها البيض، والتضامن مع السودان في مواجهة العقوبات
الأمريكية، والمحكمة الجنائية الدولية، على الرغم من كون إيران نفسها ذات نظام ديكتاتوري مستبد يصادر حقوق الأقليات الدينية والعرقية .
العزف على وتر الدين والإخوة الإسلامية ،وتقديم
إيران للأفارقة باعتبارها نموذجًا تنمويًّا يقوم على رؤية إسلامية مستنيرة
للتحديث، ويسعى بشكل دؤوب لتحقيق التنمية بالاعتماد على المقدرات القومية
الذاتية، والشباب الأكفاء، مؤكدةً ضرورة احتذاء الدول الإفريقية للنموذج
التنموي الإيراني.
ماذا تريد إيران من أفريقيا ؟
_
الكيان الإيراني كما قلنا يتشابه إلى حد كبير مع الكيان الصهيوني ، لذلك
فإن أهداف الفريقين من القارة الأفريقية تكاد تكون متشابه . فكما كانت
إسرائيل تريد من أفريقيا الدعم والتأييد في المحافل الدولية والثروات
الاستراتيجية الضخمة الموجودة في باطن أفريقيا ولعب دور نقاط الارتكاز
والسيطرة في الحرب والصراع ضد العالم العربي والإسلامي. وإن إيران أيضا
تريد هذا الدور تماما ،والأهم أن إيران تريد إجبار المنافسين على التشتت،
وتوسيع دائرة نشاطهم وإنفاق موارد أكبر بكثير لمواجهة طهران في ساحات معركة
غير الساحة الأصلية، مما يعني ذلك بالنسبة للدول المعادية أو المنافسة من
حياد عن الهدف وتخفيف مدهش لحدة الضغط على طهران.فقد
ساهم التأثير التعاضدي للخطاب السياسي الإيراني والتوظيف المتكامل لأدوات
السياسة الخارجية، فيمساعدة إيران على الخروج من فكاك العزلة الدولية
والإقليمية، وضمان تصويت الأفارقة لصالحها في العديد من الملفات، أو على
الأقل امتناعهم عن التصويت، خاصةً بالنسبة لمسائل حقوق الإنسان والملف
النووي، بالإضافة إلى زيادة حجم التجارة والاستثمارات الإيرانية في القارة.وعلى
سبيل المثال، تحفظت جميع دول غرب إفريقيا -عدا ليبيريا وتوجو- على قرار
الأمم المتحدة بشأن انتهاك السلطات الإيرانية لحقوق الإنسان خلال
الانتخابات الرئاسية لعام 2009كما
صدرت تصريحات عديدة تؤكد تأييد الأفارقة لامتلاك إيران تكنولوجيا نووية
للأغراض السلمية. كما رفض معظم ممثلي القارة في الوكالة الدولية للطاقة
الذرية نقل الملف إلى مجلس الأمن، ورفض إقرار العقوبات الدولية ضد إيران .
الاقتصاد واليورانيوم:
_ ففي الإطار الاقتصادي تلعب إيران في القارة الأفريقية بأدوات اقتصادية فائقة التأثير ، ومن
أهمها توقيع اتفاقات التجارة، وإقامة المعارض التجارية، وضخ الاستثمارات
في الدول الإفريقية، والمساعدات التنموية. وهنا تجدر الإشارة إلى تركيز
إيران في تجارتها على بعض الدول، مثل جنوب إفريقيا، التي أمدتها بمخزونها
من اليورانيوم في عقد السبعينيات من القرن الماضي، والتي تُعد حاليًّا
الشريك التجاري الأول لإيران في القارة. بالإضافة إلى النيجر، التي تملك
وحدها سادس أكبر احتياطات العالم من اليورانيوم، وتستأثر بـ46.5% من إنتاجه
إفريقيًّا، وكينيا التي تُعتبر من أهم مستوردي النفط الإيراني، والتي
وقَّعت في يوليو 2012 صفقة لشراء أربعة ملايين طن من النفط الخام الإيراني
سنويًّا، وكذا السودان والسنغال وجامبيا وموريتانيا.وبالنسبة
للاستثمارات الإيرانية، فهي تركز على أمرين، أولهما: فتح آفاق جديدة أمام
الصناعة والتكنولوجيا الإيرانية، خاصة في مجالات البتروكيماويات مثل "مشروع
زيادة إنتاج النفط من ميناء مومباسا الكيني"، وإنتاج السيارات والآلات
والأجهزة الكهربائية. وهنا تبرز شركة "خودرو" لتصنيع السيارات. وثانيهما: التركيز على قطاع البنية الأساسية، ومنها شبكة الطرق في السودان، ومشروع جسر جاو على نهر النيجر.أما
المساعدات التنموية، فأهمها دعم عمليات إعادة الإعمار، مثلما هو الحال في
سيراليون والصومال، وتقديم المساعدات في مجالات التعليم إلى السنغال ومالي،
وتطوير الخدمات الصحية، ومنها استكمال بناء مستشفى في العاصمة الموريتانية
نواكشوط كانت تُبنى بتمويل من الحكومة الإسرائيلية، وهو أمر بالغ الدلالة
على الجانب الموريتاني رسميًّا وشعبيًّا.
_
ولكن يبقى اليورانيوم على رأس أهداف إيران المرجوة من التغلغل
الأفريقي.فمشكلة إيران الأساسية التي تتعارض مع طموحها لتكون دولة عظمى
أنها دولة فقيرة باليورانيوم، ومخزونها منه بمعدل تسارعها النووي الحالي
على وشك النفاذ في الأعوام القادمة ، وأمريكا تحاصر الدول التقليدية
المصدرة للمادة لمنعها من تصديرها إلا لمن تريد .ومع برنامج إيراني طموح
يستهدف بناء ستة عشر مفاعلًا نوويًّا في السنوات التالية، أخذ زخما من
الاتفاق النووي مع الغرب ، والذي سمح للإيرانيين بموجبه من تملك المفاعلات
النووية بعد عشر سنوات ، تمثل أفريقيا لها كنزًا حقيقيًّا كقارة ترقد على
جزء ضخم من الاحتياطي العالمي له، حيث احتياطاته عالية جدًا في جنوب
أفريقيا والنيجر ومالاوي وناميبيا وزيمبابوي وأوغندا، وهي الدول التي تتجه
إليها إيران وتضعها على أولوية سياساتها الخارجية.في 2007، تم اكتشاف
اليورانيوم في غينيا علي يد الشركة الأسترالية (مورتشيسن يونايتد) وبطبقات
سمكها من سبعة أمتار إلى أربعة عشر مترًا وهو سمكٌ ضخم، مما أدى إلى تحولها
من دولة هامشية لمحط أنظار الدول النووية، حينها بدأت إيران مباشرة في
برنامج للتعاون الاقتصادي مع غينيا ليرتفع هذا التعاون في عام 2010 بنسبة
140% .
التبشير الإيراني في القارة:
_
رغم كل الأهداف الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية التي يسعى الإيرانيون
إلى تحقيقها من الاختراق الناعم للقارة السوداء إلا إن الهدف الأهم الذي لا
يغيب عن ذهن وعقل صانع القرار الإيراني أبدا ؛ نشر التشيع . فإيران دولة
ترى نفسها حامية التشيع في العالم ، والمسئولة عن نشر المذهب في العالم
وبين العالمين ، ويحظى هذا الهدف العقدي بأولوية قصوى في السياسة الإيرانية
الداخلية والخارجية على حد السواء ، بل إن الحق يقتضي بالقول أن نشر
التشيع هو لب وأصل وقاعدة السلوك والسياسة الإيرانية الخومينية . لذلك فقد
كان نشر التشيع حاضرا بمنتهى الوضوح أثناء التمدد جنوبا في القارة السوداء.
ولعل أبرز مثال في هذا السياق هو تجربة الحركة الإسلامية في نيجيريا أو "إخوان
نيجيريا" بزعامة الشيخ إبراهيم الزكزاكي الذي قام بزيارة مدينة قم
الإيرانية وتلقى تمويلا إيرانيا ليحول جماعته بعد ذلك إلى جماعة جهادية
تحارب الحكومة المحلية علمانية الطابع وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية
وفقا للنموذج الإيراني.وتنتشر
جماعة الزكزاكي في ولايات الشمال ولا سيما في كانو وكادونا وزاريا. وتعتمد
هذه الجماعة في تجنيد أعضائها على خريجي بعض جامعات الشمال النيجيري
المسلم مثل جامعة أحمدو بللو وعثمان دان فوديو. من أجل خلق قواعد محلية
موالية لإيران باعتبار مرجعية حوزتها الدينية من أجل الضغط على الحكومات
الوطنية والعمل في مواجهة المصالح الغربية في أفريقيا.
_على
أن تجربة المد الشيعي لم تعتمد فقط على نيجيريا وإنما شملت دولا أخرى مثل
السنغال التي شهدت بناء حوزة علمية بجوار جامعة دكار، وهي تمنح الطالب
شهادة تعادل الثانوية،كما تقوم إيران بأنشطة تبشيرية غير مباشرة تتضمن
إقامة المراكز الثقافية، والمكتبات العامة، والمشاركة في معارض الكتب،
وتقديم المنح الدراسية للطلاب الأفارقة في إيران، خاصة في جامعة الإمام
الخميني، وإصدار المطبوعات باللغة العربية "جريدة الوفاق" وباللغات المحلية
الإفريقية أيضًا، بهدف خلق التعاطف مع الدولة الإيرانية، ونشر المذهب
الشيعي بشكل غير مباشر. وهنا تستفيد إيران من وجود الجاليات الشيعية في
إفريقيا، خاصةً الجالية اللبنانية، التي تتمتع بروابط اقتصادية قوية في
العديد من دول القارة، ومنها ساحل العاج.
كل
ذلك يحدث تحت سمع وبصر العالم العربي والسنّي المنشغل بصراعاته الكثيرة
وخلافاته الجانبية الصغيرة ، ولو قُدر للإيرانيين النجاح في مهمتهم ، فلن
يكون ذلك بسبب جهدهم ومهاراتهم فحسب، ولكن بسبب غفلة وجهالة العرب
والمسلمين في نفس الوقت.
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).