كيف الرد على ما ينقمه الشيعة على عمر في هذا الحديث؟
ما
صحة الخبر أو الأثر الذي نسمعه من الشيعة في سبهم لأمير المؤمنين عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، وهو إنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم -أو في
أيامه الأخيرة- أمر أن يؤتى له بقرطاس وقلم ليكتب للناس كتاباً لا يضلوا
بعده أبداً، وعند ذلك تدخَّل عمر بن الخطاب، وقال: إنه (أي النبي) ليهجر،
ومعنى يهجر أي يهذي والعياذ بالله، وقال (أي عمر): حسبنا كتاب الله، فهذا
مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه رواية الشيعة التي يرددونها!
أرجو التوضيح.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
ومن
المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه عزم على أن
يكتب كتاباً يتضمن استخلاف أبي بكر، ففي صحيح البخاري (5666)، ومسلم (2387)
من حديث عَائِشَةَ –رضي الله عنها– قَالَتْ:( قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ: «ادْعِي
لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي
أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ أَنَا أَوْلَى
وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ »، وعن ابن
أبي مليكة قال: (سُئِلَتْ عائشة مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْلِفًا لَوْ اسْتَخْلَفَهُ؟ قَالَتْ:
أَبُو بَكْرٍ. فَقِيلَ لَهَا: ثُمَّ مَنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ:
عُمَرُ. ثُمَّ قِيلَ لَهَا: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَةَ
بْنُ الْجَرَّاحِ ثُمَّ انْتَهَتْ إِلَى هَذَا). أخرجه مسلم (2385)، ثم
إنه حصل التنازع والاختلاف عنده صلى الله عليه وسلم، واشتبه الأمر على عمر
–رضي الله عنه– هل غلب على النبي صلى الله عليه وسلم الوجع، أم لم يغلب
عليه الوجع فيكون كلامه من الكلام المعروف الذي يجب قبوله، ولم يجزم عمر
بذلك والشك جائز على عمر –رضي الله عنه–، إذ لا معصوم إلا النبي صلى الله
عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب، فلما حصل
الاختلاف والتنازع وحصل الشك علم أن الكتاب لا يحصل به المقصود، وقد علم
أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال: «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»،
ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب الكتاب، وكان هذا مما يجب
تبليغه وبيانه للناس لم يمنعه من ذلك أحد لا عمر ولا غيره، قال الإمام
البيهقي في كتابه دلائل النبوة (7/184): (قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
بما قال التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه قد غلب عليه
الوجع، ولو كان ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم شيئاً
مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم لقول الله عز وجل: {بلغ
ما أنزل إليك من ربك}، كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه، ومعاداة
من عاداه، وإنما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب
استخلاف أبي بكر، ثم ترك كِتْبَته اعتماداً على ما علم من تقدير الله
تعالى….، وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكرٍ، ثم نبه أمته على خلافته
باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها).
وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية: (الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها،
وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه: ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب
لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي) ثم قال: يأبى الله والمؤمنون
إلا أبا بكر، فلما كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتابا فقال عمر: ماله أهجر؟
فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمى؟ أو هو مما يقول على عادته؟ فخاف عمر
أن يكون من هجر الحمى، فكان هذا مما خفى على عمر، كما خفى عليه موت النبي
صلى الله عليه وسلم بل أنكره ثم قال بعضهم هاتوا كتابا، وقال بعضهم لا
تأتوا بكتاب، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق
فيه فائدة؛ لأنهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك،
فلا يرفع النزاع فتركه، ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه
أو يبلغه في ذلك الوقت، إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وسلم ما
أمره الله به، لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر، ورأى
أن الخلاف لا بد أن يقع، وقد سأل ربه لأمته ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه
واحدة، سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه إياها، وسأله أن لا يسلط عليهم
عدواً من غيرهم، فأعطاه إياها، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعه إياها،
وهذا ثبت في الصحيح.
وقال
ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين
أن يكتب الكتاب فإنها رزية أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر
رضي الله عنه، وطعنوا فيها، وابن عباس قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من
الخوارج والروافض ونحوهم، وإلا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله، فإن
فلم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله، فإن لم يجد في سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فبما أفتى أبو بكر وعمر…
ثم
إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك كتابة الكتاب باختياره فلم يكن في ذلك
نزاع ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه…. ومن جهل الرافضة
أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي، وهذا ليس في القصة ما يدل
عليه بوجه من الوجوه ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل
عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر، ثم يدعون مع
هذا أنه كان قد نص على خلافة علي نصا جليا قاطعا للعذر، فإن كان قد فعل
ذلك فقد أغنى عن الكتاب، وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا
يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا ينظر: منهاج السنة
(6/315–318)، وقال رحمه الله في موضع آخر: (عمر رضي الله عنه قد ثبت من
علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر، ففي صحيح مسلم عن عائشة –رضي الله
عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: قد كان في الأمم قبلكم
مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر) قال ابن وهب: تفسير (محدثون)
ملهمون، وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه
قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحدَّثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم
فإنه عمر بن الخطاب)، وفي لفظ للبخاري: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر» وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا نائم إذ رأيت قدحا أُتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى أني لأرى الرَّيَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب»، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم، وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما
أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص، ومنها ما يبلغ الثدي،
ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه » قالوا ما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدين»،
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام
إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر وللبخاري عن أنس قال: قال عمر: (وافقت
ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام
إبراهيم مصلَّى فنزلت: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}،
وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البَرُّ والفاجر، فلو أمرت أمّهات المؤمنين
بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب، وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم
بعض أزواجه، فدخلت عليهم فقلت: إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن
حتى أتت إحدى نسائه فقالت: يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} الآية.
وأما
قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، فقد جاء
مبينا كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مرضه: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»، وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد قال قالت عائشة: وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك»،
قالت عائشة: واثكلاه، والله إني لأظنك تحب موتي، فلو كان ذلك لظللت آخر
يومك مُعَرِّساً ببعض أزواجك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنا وارأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد: أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ويدفع الله ويأبى المؤمنون ».
وفي
صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة، قال: سمعت عائشة وسُئلت: من كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثم من بعد
أبي بكر؟ قالت: عمر قيل لها: ثم من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة عامر بن
الجراح ثم انتهت إلى هذا، وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي صلى الله
عليه وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على
الأنبياء ولهذا قال: ماله أهجر؟ فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر والشك جائز
على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما وقد شك بشبهة،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضا فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض،
كما يعرض للمريض أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله، وكذلك ظن أنه لم
يمت حتى تبين أنه قد مات، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب
الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع
الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: «ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»،
وقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبين أن يكتب الكتاب، يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حق من
شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر؛ فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا
الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد، ومن توهم أن
هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة
والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة
القائلون بأن عليًّا كان هو المستحق للإمامة فيقولون: إنه قد نص على إمامته
قبل ذلك نصا جليا ظاهراً معروفا، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل:
إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة
أولى وأحرى، وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز
له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه
وكتابته، لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول
أحدٍ، فإنه أطوع الخلق له، فعُلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا،
ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ، إذ لو وجب لفعله، ولو أن عمر
رضي الله عنه اشتبه عليه أمر ثم تبين له أو شكَّ في بعض الأمور فليس هو
أعظم ممن يفتي ويقضي بأمور، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بخلافها
مجتهدا في ذلك ولا يكون قد علم حكم النبي صلى الله عليه وسلم فإن الشك في
الحق أخف من الجزم بنقيضه، وكل هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون
من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذة به( منهاج السنة )(6/20-26).
وقال
المازري: (إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم
بذلك؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب فكأنه ظهرت منه قرينة
دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم وصمم
عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك
عن غير قصد جازم، وعزمه صلى الله عليه وسلم كان إما بالوحي وإما
بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضا).ينظر:
فتح الباري (8/133).
وهذه
النصوص عن هؤلاء العلماء الأجلاء توضح المقصود بالحديث، وتدحض افتراءات
الشيعة وتلبيسهم وتنقصهم لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. هذا
والله أعلم.
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).