اتهام عائشة وحفصة بالتآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم
مضمون الشبهة:
يدعي
بعض المغرضين أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما تآمرتا مع أبويهما على قتل
النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعدما أفشت إحداهما سر النبي - صلى الله
عليه وسلم - الذي بشر فيه بتولية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الخلافة من
بعده، وهو المقصود في قوله تعالى: ﴿وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض﴾
(التحريم: ٣)، زاعمين أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما تعجلا الخلافة،
فتآمرا مع ابنتيهما على سم النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك أنزل الله
قوله: ﴿يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون (7)﴾ (التحريم) توبيخا لهم على فعلتهم هذه. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في عدالة أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم.
وجها إبطال الشبهة:
1)
إن الحديث الذي أسر به النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أزواجه هو تحريم
النبي - صلى الله عليه وسلم - مارية على نفسه تطييبا لنفس حفصة، أو عزمه
على عدم شرب العسل عند زينب بنت جحش فيما يعرف بقصة المغافير، ولا يصح أنه
التبشير بخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، وإلا لاحتج به أبو
بكر وعمر يوم السقيفة، وهذا ما لم يحدث.
2)
إن قولهم بتآمر أبي بكر وعمر مع ابنتيهما - رضي الله عنهم - على قتل النبي
- صلى الله عليه وسلم - مسموما افتراء واه، فقد كان النبي - صلى الله عليه
وسلم - أحب إليهم من أهلهم وأموالهم وأنفسهم، وكانوا يفدونه بأرواحهم قبل
أموالهم وأهليهم، وفي سبيل دينه قتلوا الآباء والأبناء، وفارقوا الأهل
والأزواج والعشائر.
التفصيل:
أولا.
الحديث الذي أسر به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إحدى نسائه هو تحريم
مارية القبطية على نفسه، أو تحريم شربه العسل عند زينب، وليس ما زعموا:
صحيح
أن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي - صلى الله عليه وسلم - هما عائشة
وحفصة رضي الله عنهما وهذا أمر لا يخفيه أهل السنة، ولا يحاولون طمسه، بل
هو مدون في أصح كتب السنة، في صحيح الإمام البخاري، وفيه شهادة من أمير
المؤمنين عمر الفاروق على ابنته وعائشة بأنهما اللتان تظاهرتا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أردت
أن أسأل عمر - رضي الله عنه - فقلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان
تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما أتممت كلامي حتى قال:
عائشة، وحفصة»([1]).
ولكن
ما هو نوع هذا التظاهر؟ وما هو الحديث المسر به؟ أهو ما زعمه الرافضة، أم
غير ذلك؟ وما مدى صحة مزاعمهم في زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم؟
إن
الحديث الذي أسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض أزواجه هو
تحريمه لجاريته مارية القبطية على نفسه، وقد أسر هذا الحديث إلى حفصة بنت
عمر رضي الله عنهما وطلب منها ألا تذكره لأحد، فأخبرت بذلك عائشة رضي الله
عنهما فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على أن حفصة قد نبأت بذلك
صاحبتها.
هذا هو سبب نزول تلك الآيات الكريمة: ﴿يا
أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم
(1) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم (2) وإذ
أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه
وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير (3)
إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه
وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير (4)﴾ (التحريم)،
وقد بنى عليها المغرضون مزاعمهم، وافتروا من الإفك والبهتان ما افتروا،
وسبب النزول هذا هو الصحيح والمشهور عند المفسرين، وقد ذكره ابن حجر عند
تفسيره لهذه الآيات، وذكر معه سببا آخر وهو قصة المغافير([2]).
وقصة المغافير أسندها البخاري في صحيحه إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، ويمكث
عندها، فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟ إني
أجد منك ريح مغافير. قال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، فلن
أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا»([3]).
وقد
ذكر الحافظ ابن حجر هذين السببين، وعقب عليهما بسوق روايات تعضد الأول
منهما، ثم قال: "فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا"([4]).
والسبب الثاني: وإن كان أصح؛ لرواية البخاري له في صحيحه، إلا أن الأول أشهر عند جمهور المفسرين، ورجحه الحافظ ابن حجر وغيره.
أما
زعمهم أن الحديث المسر هو قوله - صلى الله عليه وسلم - لحفصة: إن أباك
وأبا بكر يليان الخلافة بعدي، أو قوله لعائشة: إن الله أطلعني أن عليا هو
الوصي، وطلب مني أن أخبر الناس بذلك، ثم تآمر الأربعة على وضع السم له -
صلى الله عليه وسلم - فزعم باطل، وكلتا الروايتين باطلتان لم يقل بهما واحد
من المفسرين، ولا من غيرهم.
والرواية
الأولى: أبطلها الشيعة أنفسهم؛ فالبياضي مثلا - أحد كبار مفكري الشيعة -
ينفي أن يكون الحديث المسر به هو التبشير بخلافة أبي بكر وعمر، بقوله:
"قالوا (يقصد أهل السنة): أجمع المفسرون أنه أسر إلى حفصة: إن أباك وأبا
بكر يليان الأمر من بعدي، قلنا (يقصد نفسه وأبناء طائفته الشيعية): هذا غير
صحيح وإلا لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة"([5]).
وإن كنا لا نسلم له ادعاءه بأن هذا قول لأهل السنة، إلا أننا نستخلص من كلامه تكذيبه للرواية الأولى.
والثانية: تخالف المشهورعندهم والمنسوب إلى أئمتهم، وفيها تناقضات كثيرة، من حيث الزمان والمكان مما يقوي القول ببطلانها.
أما
دعواهم أن حفصة رضي الله عنها قد كفرت؛ لأنها سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم: من أنبأك هذا؟ فغير مسلم لهم؛ لأن قولها ليس فيه طعن في نبوته -
صلى الله عليه وسلم - أو شك في أن الله أطلعه على ذلك، فهي قد أخبرت عائشة
رضي الله عنها بالحديث الذي أسره النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته: من
أنبأك هذا؛ لتعرف هل عائشة هي التي أنبأته؟! ولا يخفى هذا على ذي لب.
وكذلك دعواهم أن قوله سبحانه وتعالى: ﴿فقد صغت قلوبكما﴾
يدل على كفر عائشة وحفصة؛ لأن قراءتهم (فقد زاغت قلوبكما)، والزيغ: الكفر -
دعوى باطلة أيضا، لأن الزيغ هو الميل، وعائشة وحفصة رضي الله عنهما قد مال
قلباهما إلى محبة اجتناب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاريته،
وتحريمها على نفسه، أو مال قلباهما إلى تحريم الرسول - صلى الله عليه وسلم -
لما كان مباحا له، كالعسل مثلا([6]).
والله تعالى قد دعاهما إلى التوبة بقوله: ﴿إن تتوبا إلى الله﴾، "فلا يظن بهما أنهما لم يتوبا، مع ما ثبت من علو درجتهما، وأنهما زوجتا نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الجنة"([7]).
ومما يدل على كذب ما ادعوه ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة،
ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري([8]) من ذلك السم»([9]).
وروى
ابن سعد عن شيخه الواقدي بأسانيد متعددة في قصة الشاة المسمومة التي سمت
له بخيبر، فقال في آخر ذلك: "وعاش بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قبض
فيه، وجعل يقول: مازلت أجد ألم الأكلة التي أكلتها بخيبر، عدادا حتى كان
هذا أوان انقطاع أبهري"([10]).
أبعد
هذا دليل على كذب دعواهم، وأنها دعوى عارية من الصحة، ولا تصح في حق أحد
من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلا عن أبي بكر وعمر وابنتيهما رضي
الله عنهم؟!
أما قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون (7)﴾
(التحريم) فهذا وعيد للكفار يوم القيامة جزاء ما قدموا من أعمال سيئة،
يقول ابن كثير: "أي يقال للكفرة يوم القيامة: لا تعتذروا؛ فإنه لا يقبل
منكم، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم"([11])، ومعنى هذا أن الآية لا تدخل في مضمون قصة التحريم الواردة في السورة وإنما تتحدث عن موقف الكفار المعاندين يوم القيامة.
فمن
ادعى أن عائشة وحفصة وأبويهما - رضي الله عنهم - تآمروا على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله فهو في غيبة عن الحق الذي أتت به النصوص
الصحيحة.
ثانيا. حب أبي بكر وعمر وابنتيهما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وافتداؤهم له ومكانتهم - رضي الله عنهم - عنده:
إن
اتهام أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة - رضي الله عنهم - بالتآمر على النبي -
صلى الله عليه وسلم - ومحاولة قتله مسموما - افتراء ينم عن حقد دفين
للصحابة، ويكشف عما تكنه قلوبهم من حقد أسود لهذا الدين؛ لأنه لا يبقى
للإسلام شيء بعد ذلك، وهذا الافتراء أحقر من أن يجاب عنه، ولكننا نوضح
للقارئ الكريم تفاهة هؤلاء حين يناقضون العقل والواقع، والتاريخ من خلال
سير هؤلاء العظماء.
فها
هو أبو بكر - رضي الله عنه - صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما كذبه
قومه، معارضا بذلك صناديد الكفر، مساندا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد
كان - رضي الله عنه - جريئا لا يهاب أحدا في الحق ولا تأخذه لومة لائم؛
ولذلك كان حريصا على إظهار إسلامه أمام الكفار، وتحمل الأذى العظيم حتى أن
قومه كانوا لا يشكون في موته، فلقد أشرب قلبه حب الله ورسوله أكثر من نفسه،
ولكونه ملاصقا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تعرض للأذى الكثير؛
فكثيرا ما انبرى الصديق مدافعا عنه - صلى الله عليه وسلم - مفديا إياه
بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم ما يصيبه.
فعن عروة بن الزبير قال: «سألت
ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة، إذ
أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر
حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتقتلون رجلا
أن يقول ربي الله»([12]).
وليس أدل على شدة تضحية أبي بكر بنفسه من أجل النبي - صلى الله عليه وسلم - من موقفه يوم الهجرة، فعن محمد بن سيرين قال: «ذكر
رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما فلما بلغ
ذلك عمر - رضي الله عنه - قال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر،
وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - فجعل يمشي ساعة بين
يديه وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا
أبا بكر، ما لك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال:
يا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذكر الطلب، فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد
فأمشي بين يديك، فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال:
نعم، والذي بعثك بالحق، ما كانت لتكون من ملمة إلا أن تكون بي دونك، فلما
انتهينا إلى الغار قال أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله حتى
أستبري لك الغار، فدخل فاستبراه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبر
الحجرة، فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبري الحجرة، فدخل فاستبر، ثم قال:
انزل يا رسول الله، فنزل، فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من
آل عمر»([13]).
هذا
هو أبو بكر وتضحيته بنفسه في سبيل فداء النبي - صلى الله عليه وسلم -
وحرصا على حياته، فهو الذي وضع قدمه في ثقب الغار حتى لدغ وكاد يموت بذلك،
كل هذا خوفا على النبي صلى الله عليه وسلم.
فهل يعقل أن من بذل ماله، واستعد لبذل نفسه فداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتآمر عليه؟!
أما
الفاروق عمر - رضي الله عنه - فقد لازم النبي - صلى الله عليه وسلم - في
جميع الغزوات والمواقف، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه
وماله وولده، فقد روى البخاري بسنده عن عبد الله بن هشام - رضي الله عنه -
قال: «كنا مع
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك،
فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: الآن يا عمر»([14]).
ومما
يؤكد حب عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - موقفه يوم
غزوة أحد بعد أن انهزم المسلمون وفروا من حول رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وانكشفوا عنه، ولم يبق معه إلا قلة قليلة تدافع عنه وتفديه بنفسها،
وممن هؤلاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد أخرج البخاري عن البراء -
رضي الله عنه - قال:«لقينا
المشركين يومئذ، وأجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا من الرماة، وأمر
عليهم عبد الله، وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا،
وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا، فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء
يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة
الغنيمة، فقال عبد الله: عهد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا تبرحوا
فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا، وأشرف أبو سفيان، فقال:
أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: لا
تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا
أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك
ما يخزيك، فقال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، قال أبو سفيان: لنا
العزى ولا عزى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟
قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر،
والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني»([15]).
ثم
يعلق ابن حجر على الحديث قائلا: "وفي هذا الحديث من الفوائد، منزلة أبي
بكر وعمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصوصيتهما له، بحيث كان أعداؤه
لا يعرفون بذلك غيرهم، إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما، وأنه ينبغي للمرء
أن يتذكر نعمة الله ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها"([16]).
ويظهر
حب عمر - رضي الله عنه - الشديد للنبي - صلى الله عليه وسلم - في موقفه من
وفاته، وما حل به عندما علم بموته من أنه أنكر ذلك، وتوعد من يقول ذلك
بضرب عنقه، وزعمه أنه ذهب إلى ربه وسيرجع كموسى بن عمران - صلى الله عليه
وسلم - وذلك كله من هول الفاجعة، فقد أخرج ابن ماجه في سننه عن عائشة رضي
الله عنها قالت: «لما
قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر عند امرأته - ابنة خارجة -
بالعوالي. فجعلوا يقولون: لم يمت النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو
بعض ما كان يأخذه عند الوحي، فجاء أبو بكر، فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه
وقال: أنت أكرم على الله أن يميتك مرتين، قد والله مات رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وعمر في ناحية المسجد يقول والله ما مات رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم،
فقام أبو بكر فصعد المنبر، فقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، ومن
كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات: ﴿وما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)﴾ (آل عمران)، قال عمر: فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ»([17]).
ولم يرد أن عمر فرح وسر لموته - صلى الله عليه وسلم - فلو كان ما ادعوه صحيحا، فلم حزن عمر عليه لدرجة فقدان الوعي وغياب العقل؟!
أما
عائشة رضي الله عنها فهي حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحب الناس
إليه، فقد سأل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقال: «أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها»([18]).
فقد
كانت رضي الله عنها أقرب نسائه إلى قلبه؛ ولذلك رغب النبي - صلى الله عليه
وسلم - أن يمرض مرض موته في بيتها، فحينما شعر بالمرض كان يقول وهو يطوف
على نسائه متسائلا: «أين أنا غدا... أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها...»([19]).
فانتقل حبيب الله إلى بيت الحبيبة، فسهرت تمرضه، وبودها لو تفديه بنفسها، فكيف يصح قولهم بأنها تآمرت على سمه صلى الله عليه وسلم؟!
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تصف لحظة الفراق الرهيبة: «توفي
النبي
- صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا
تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء، وقال: في الرفيق
الأعلى، ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي -
صلى الله عليه وسلم - فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها
فدفعتها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها، فسقطت يده - أو
سقطت من يده - فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من
الآخرة»([20]).
فكيف
يعقل أن من تفعل ذلك تتآمر على سمه - صلى الله عليه وسلم - ولو صح هذا،
ألم تكن الفرصة سانحة آنذاك - في مرضه - لتنال منه ما تريد هي وصاحبتها
وأبواهما؟! إن الافتراء واضح في زعمهم هذا، وكيف يصح قولهم هذا وقد صح أن
عائشة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة؟ وهل تتآمر على قتله،
ويرضاها الله له زوجة في الجنة، فعن عائشة رضي الله عنها: «أن جبرئيل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة»([21]).
ولم
تكن حفصة رضي الله عنها أقل حبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وخوفا عليه،
بل كانت تغار عليه أشد الغيرة، مما حدا بها أن تتفق مع عائشة رضي الله
عنها لتكونا جبهة نسائية في بيت النبوة، لتكونا أشد قربا من النبي - صلى
الله عليه وسلم - ولذلك أفشت السر الذي أسر إليها به لعائشة، وما كان كل
ذلك إلا لشدة حبهما للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلقها، فجاء جبريل بأمر من الله تعالى بمراجعتها: «راجع حفصة، فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة»([22])،
فراجعها بأمر من السماء، فهل يعقل أن تكون قد تآمرت عليه أو اتفقت على
قتله؟ فلو صح ما زعموه لأخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع
منهم، وهذا لم يحدث، بل لو صح هذا ما أتى الأمر من السماء بمراجعتها؟
وبعد
فهذا قليل من كثير من فضائل هؤلاء الأربعة وحبهم وتضحياتهم في سبيل الحفاظ
على حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف من كان هذا حالهم أن يتآمروا
على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - سبحانك هذا بهتان عظيم.
الخلاصة:
• المقصود بالحديث المسر به في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا﴾
(التحريم: ٣) أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم جاريته مارية تطييبا لنفس
حفصة عندما وطئ النبي - صلى الله عليه وسلم - مارية في بيتها، أو أنه - صلى
الله عليه وسلم - حرم شرب العسل عند زينب بنت جحش فيما يعرف بحادثة
المغافير.
•
هذا هو الحديث المسر الذي ذكر في القرآن الكريم كما قال العلماء، أما
القول بتآمر أبي بكر وعمر مع عائشة وحفصة - رضي الله عنهم - على قتل النبي -
صلى الله عليه وسلم - بالسم، فإنما هو محض افتراء، وأكاذيب لا صحة لها ولا
دليل عليها.
•
إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا من الزاهدين في الخلافة ولم يطلباها
بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يطلبانها في حياته؟! ولو صح
قولهم بأن الحديث المسر هو خلافة أبي بكر وعمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -
بعد وفاته لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة.
•
لقد كان الدافع وراء تظاهر عائشة وحفصة رضي الله عنهما هو شدة حبهم للنبي -
صلى الله عليه وسلم - والغيرة عليه، وهذه طبيعة النساء، ولكن المغرضين
جعلوا الكره وحب السلطان وراء هذا التظاهر، وهذا سخف وحمق ينافي ما صح في
هذا الموضوع.
•
أما الآية التي استدل بها المغرضون على أن الله ــ عز وجل - أنزلها توبيخا
لهؤلاء الأربعة على ما فعلوا، فهذا زعم ليس له دليل؛ حيث إن الآية تتحدث
عن موقف الكفار يوم القيامة، عندما يعاقبهم الله - عز وجل - على ما قدموا
ولا يقبل منهم عذرهم.
•
إن شدة حب أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة - رضي الله عنهم - وتضحياتهم للنبي -
صلى الله عليه وسلم - ثابتة بالقرآن والسنة والوقائع الكثيرة، وقد كانوا
على أتم الاستعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل ألا يصاب النبي - صلى الله عليه
وسلم - بأدنى أذى. فكيف يضحون بأنفسهم في سبيل الحفاظ على حياته، ثم بعد
ذلك يتآمرون على قتله صلى الله عليه وسلم! إن هذا ما لا يعقله عاقل!
________________________________________
()
الصاعقة في نسف أباطيل وافتراءات الشيعة على أم المؤمنين عائشة، د. عبد
القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1425هـ/ 2004م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: ﴿ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا ﴾، (8/ 526)، رقم (4941).
[2]. المغفار: صمغ حلو يسيل من شجر العرفط يؤكل.
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ﴾، (8/ 524)، رقم (4912).
[4].
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين،
دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (8/ 525) بتصرف.
[5].
الصراط المستقيم، البياضي، (3/ 3: 5، 100)، نقلا عن: الصاعقة في نسف
أباطيل وافتراءات الشيعة على أم المؤمنين عائشة، د. عبد القادر بن محمد عطا
صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص55.
[6].
الصاعقة في نسف أباطيل وافتراءات الشيعة على أم المؤمنين عائشة، د. عبد
القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1425هـ/ 2004م،
ص62: 67 بتصرف.
[7]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (4/ 142).
[8]. الأبهر: عرق بالظهر متصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه.
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته، (7/ 737)، رقم (4428).
[10].
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين،
دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (7/ 737).
[11]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، (4/ 392).
[12].
صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: ما لقي النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه من المشركين بمكة، (7/ 203)، رقم (3856).
[13].
صحيح مرسل: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: الهجرة، باب: ما لك تمشي ساعة
بين يدي وساعة من خلفي، (3/ 7)، رقم (4268). وقال الذهبي: صحيح مرسل.
[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، (11/ 532)، رقم (6636).
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، (7/ 405)، رقم (4043).
[16].
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين،
دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (7/ 408).
[17].
صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الجنائز، باب: وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم، (1/ 520)، رقم (1627). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن
ماجه برقم (1627)، وقال: صحيح دون جملة "الوحي".
[18].
صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا"، (7/ 22)، رقم (3662). صحيح مسلم
(بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق، (8/
3518)، رقم (6060).
[19].
صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: إذا استأذن الرجل
نساءه في أن يمرض في بيت بعضهن فأذن له، (9/ 227)، رقم (5217). صحيح مسلم
(بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة، (8/ 3567)، رقم
(6175).
[20]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته، (7/ 751) رقم (4451).
[21].
صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: من
فضل عائشة رضي الله عنها، (10/ 257)، رقم (4131). وصححه الألباني في صحيح
وضعيف سنن الترمذي برقم (3880).
[22].
حسن: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: معرفة الصحابة، باب: ذكر أم المؤمنين
حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، (4/ 17)، رقم (6754). وحسنه الألباني في
صحيح الجامع برقم (4351).
المصدر مواقع سنة وشيعة
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).