حديث «رزية الخميس» تحليل ومناقشة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين.
وبعد، فإن الطعن في الصحابة -رضوان الله عليهم- هو طعن في الدين، فإن الدين إنما وصلنا بحملهم عن النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب والسنة، ونقلهم لهما إلينا، وهو كذلك طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالطعن في أصحاب الرجل الخلّص ومعاونوه طعن فيه ولا بد.
وفضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة مشهورة معلومة، وأفضلهم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد انعقد إجماع أهل السنة على ذلك([1]).
وما فتئ الشيعة يطعنون في الصحابة عامة وفي الخليفتين خاصة، فاختلقوا الأحاديث المكذوبة، وأفسدوا معاني الأحاديث الصحيحة؛ انتصارًا لأباطيلهم وضلالاتهم.
وفي هذا المقال نعرض لأحد الأحاديث الصحيحة التي أفسدوا معناها انتصارًا لباطلهم، ونرد عليهم بإذن الله تعالى، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.
نص الحديث:
روى البخاري بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حُضِر([2]) رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلمُّوا أَكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعده»، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللَّغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا». قال عبيد الله: فكان يقول ابن عباس: إنَّ الرزية كلَّ الرزيةِ ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب؛ لاختلافهم ولغطهم([3]).
ورواه البخاري أيضًا([4]) وفيه تسمية القائل بأنه هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكذلك رواه مسلم([5]).
ورواه مسلم بلفظ آخر عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بلَّ دمعه الحصى، فقلت: يا ابن عباس، وما يوم الخميس؟! قال: اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: «ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعدي»، فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع، وقالوا: ما شأنه؟ أهجر([6])؟ استفهَموه، قال: «دعوني، فالّذي أنا فيه خير، أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفدَ بنحو ما كنت أجيزهم»، قال: وسكتّ عن الثالثة، أو قالها فأنسيتها([7]).
معنى الحديث:
معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعض أصحابه في مرضه الذي مات فيه، وكان ذلك يوم الخميس قبل موته بثلاثة أيام، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي»، فقال عمر بن الخطاب: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وحسبنا كتاب الله، فقال بعض الصحابة بقول عمر رضي الله عنه، وقال بعضهم إنكارًا عليهم: أهَجَرَ رسول الله؟! -أي: أهذَى رسول الله؟!- وهو استفهام استنكاري منهم للذين يقولون حسبنا كتاب الله، فتنازعوا في ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من عنده لما حصل منهم ذلك.
وفي الرواية الأخرى التي عند مسلم أنه قال لهم: «دعوني، فالذي أنا فيه خير، أوصيكم بثلاث…».
فكان ابن عباس يتحسَّر على عدم كتابة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الكتاب.
توضيح موقف عمر رضي الله عنه:
العلماء مجمعون على أن فعل عمر هذا معدود في محاسنه([8])، وأن الصواب كان معه لأن النبي صلى الله عليه وسلم استصوب رأيه بإقراره له عليه. ولو كان الصواب أن يكتب لهم لما عدل عن ذلك، خاصة وأنه عاش بعد ذلك أيَّامًا؛ إذ كانت هذه الحادثة يوم الخميس، ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت يوم الاثنين.
فحاصل الأمر إذن أنَّ الصحابة اختلفوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم هل يَكتُب أم لا، وكان رأي عمر بن الخطاب أن لا يكتب، ورأي غيره من الصحابة أن يكتب، فمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي عمر، بأن أقره عليه، وذلك بتركه الكتابة لهم، أما أمره لهم بالقيام فلتنازعهم وإكثارهم الاختلاف، ولو كان الصواب أن يكتب لهم لما عدل صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهو معصوم عن الخطأ فيما يتعلق بأمور الرسالة.
أمَّا السبب الذي دعا عمر رضي الله عنه أن يقول ذلك فذكر العلماء له عدة محامل:
منها: أنه خشي أن يطعن المنافقون في كتابه هذا بأنه كان حال المرض.
ومنها: أنه أراد الترفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ غلبه الوجع، فكره أن يكلِّفه في هذه الحالة ما يشقّ عليه.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد اختبارهم فهدى الله عمر لمراده، وخفي ذلك على ابن عباس، ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أيامًا ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبًا لم يتركه لاختلافهم([9]).
توضيح موقف الصحابة رضي الله عنهم:
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به، وأكثرهم تعظيمًا له، وقد يقول قائل: كيف جاز لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يختلفوا عنده؟!
فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء في أن الأوامر قد يقارنها من القرائن ما ينقلها عن أصلها فينقلها للندب أو الإباحة أو غير ذلك، فلعله صلى الله عليه وسلم ظهر منه من القرائن ما دلّ على أنه لم يوجب عليهم ذلك، وقد كان الصحابة يراجعونه أحيانًا في بعض ما أمر، كما راجعه عمر في شأن أسرى بدر، وغير ذلك([10]).
ما الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتبه؟
اختلف أهل العلم في تحديد ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابته، فذهب بعضهم إلى أن المراد الأحكام كي لا يقع خلاف فيها، وقال بعضهم: المراد تحديد من الخليفة من بعده، وذكر ابن حجر أن الأول أظهر، ويدل عليه قول عمر: «حسبنا كتاب الله»([11]).
شبهات الشيعة:
الشيعة يطعنون في عمر رضي الله عنه ويقولون: إنه ردَّ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقال «إنَّ رسول الله هجَر»، وأن الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابته هو أن يعهد بالخلافة من بعده لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه([12]).
الجواب عنها:
أن هذا القول لم يقله أحد من الصحابة على هيئة الإخبار، كما هو واضح في الروايات المذكورة، وإنما قيل على هيئة الاستنكار على من يقول: حسبنا كتاب الله، ففهمُهم هذا فَهم مغلوطٌ للحديث، وهو في حقيقتِه إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ فيه اتهام بتسلّط أصحابه عليه، وحاشاهم أن يكونوا كذلك رضوان الله عليهم.
ثم إنَّ من قال ذلك إنما قاله إنكارًا على عمر بن الخطاب، فليس هو القائل إذن.
وقد ذكرنا في معنى الحديث ما يردُّ هذه الشُّبهة، بل إنها ممتَنعة عقلًا؛ إذ لو كان الأمر كما يقولون فلماذا لم يكتب النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب بعد ذلك؟! ولماذا لم يراجع عليّ رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟! وما الذي جعل أصحابه الذين كانوا يرغبون في كتابته الكتابَ يسكتون عن رأيهم، ولا يراجعونه بشأن الكتاب مرة أخرى ما داموا معتقدين أنه الحق؟!
والخلاصة: أن هذا الحديث لا حجَّة لهم فيه، بل هو من مناقب عمر رضي الله عنه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: فتح الباري لابن حجر (7/ 16- 17).
([2]) بالبناء للمفعول، أي: حضره الموت.
([3]) صحيح البخاري (4432).
([4]) صحيح البخاري (5669، 7366).
([5]) صحيح مسلم (1637).
([6]) أهَجَر أي: أهذى، أو أهُجرًا أي: قال: هُجْرًا، وهو استفهام استنكاري. ينظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 133).
([7]) صحيح مسلم (1637).
([8]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 90).
([9]) انظر: شرح صحيح البخاري
لابن بطال (1/ 189)، شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 90)، فتح الباري لابن
حجر (8/ 134)، التوشيح شرح الجامع الصحيح للسيوطي (1/ 285).
([10]) انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 379).
([11]) انظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 209).
([12]) انظر: كشف الأسرار للخميني (ص: 125-126، 152).
المصدر مواقع سنة وشيعة
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).