الحمد
لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين,
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما
ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا
اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول
فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل
والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
شيخ عزم على أن يطأ بعرجته الجنة، يعني أردت من هذا التعليق أن أبين لكم أن الإنسان مهما يكن حاله، ومهما يكن وضعه الصحي، ومهما يكن سنُّه، ومهما يكن وضعه الاقتصادي، ومهما تكن ظروفه، ومهما تكن مشكلاته، ومهما تكن بيئته، ومهما تكن معطياته، ومهما تكن قدراته, ومهما تكن إمكاناته، بإمكانه أن يدخل الجنة لأنه خُلِقَ لها، وما دام الله سبحانه وتعالى خلقنا للجنة، إذاً: فقد يسَّر لها السبل .
مبدئياً، الأبوة الكاملة يمكن أن تدخلك الجنة، أنت أب كامل، حرصت على أولادك، وربَّيتَهـم تربيةً صالحة، ورعيتَ شؤونهم حتى زوَّجتَهم، وحتى نشؤوا على طاعة الله، ثم نامت عيناك راضيًا عنهم، ولقيت الله عز وجل وهو عنك راض، فهنيئًا لك, الأمومة الكاملة تدخل الجنة, البنوة الكاملة، ابن كان باراً بوالديه، يدخل بِبِرِّه الجنة .
صنعة حرفتك، أية حرفة أنت فيها بإمكانك من خلالها أن تدخل الجنة، طبعاً يجب أن تكون الحرفة في الأصل مشروعة، فالذي يبيع أفلام الفيديو هذه حرفة غير مشروعة، والذي يبيع لحم خنزير هذه حرفة غير مشروع، فإذا كانت الحرفة في الأصل مشروعة، ومارستها بطريقة مشروعة، وابتغيت بها رضوان الله عز وجل، ولم تشغلك عن فرض صلاة، ولا عن طاعة، ولا عن واجب، ولا عن مجلس علم، وابتغيت بها خدمة المسلمين، وأنت لا تدري تنقلب هذه الحرفة إلى عبادة .
إذاً: في أي وضع يمكنك أن تدخل الجنة، فما عليك إلا أن تفكر، وإلا أن تتعلم، وإلا أن تنطلق إلى العمل متوكِّلاً على الله سبحانه .
كلما وحَّدتَ الله كبُر عقلك، وكلما أشركت معه صغُر عقلك، ولو اطلعت على بعض الديانات الوضعية في آسيا لرأيت العجب العجاب, فهناك إنسانًا يتطيب ببول البقر، وإنسان يضع روث البقر في غرفة الضيوف، وإنسان يعبد البقر من دون الله .
كان صنم عمرو بن الجموح يُدعى مناة، وقد اتخذه من نفيس الخشب، وأرقى أنواعه، ولا تعجبوا، فما يدع الناس شيئاً خرافياً إلا ويقعون في خرافة أشد، ولو تأملت حياتنا المعاصرة لرأيت فيها من الخرافات والأوهام والأضاليل ما لا يقل عن هذه الأوهام، ولكن بشكل آخر، وطريقة أخرى .
رأت هند زوجة عمرو بن الجموح أن يثرب غلب على أهلها الإسلام، وأنه لم يبق من السادة الأشراف أحد على الشرك سوى زوجها ونفر قليل، وكانت تحبه وتجله، وتشفق عليه من أن يموت على الكفر، فيصير إلى النار .
أيها الأخوة, حينما ألمح أحداً منكم يشفق على أمه وأبيه، ويخاف أن يختم لهما بعمل لا يرضاه لهما، أنا أكبُر هذا الشاب، هناك أخوة كرام عندهم حرص لا حدود له على هداية أهلهم، وهذا من الوفاء, حتى إنه يُقال: إن الابن مهما فعل مع أمه وأبيه فلن يستطيع أن يكافئهما على إحسانهما إلا في حالة واحدة؛ أن يراهما عبدين فيعتقهما، وهذا المعنى موسع، يعني إذا كانا عبدين لشهوتهما فدلّهما على الله، فأعتقهما، فبهذا العمل وحده بإمكانه أن يكافئ أمه وأباه على سبق إحسانهما إليه .
كان هو في الوقت نفسه يخشى على أبنائه أن يرتدوا عن دين آبائهم وأجدادهم، وأن يتبعوا هذا الداعية؛ مصعب بن عمير الذي استطاع في زمن قليل أن يحول كثيراً من الناس عن دينهم، وأن يدخلهم في دين محمد صلى الله عليه وسلم .
هناك في الدعوة شيء اسمه الجذب، كلما كنت أقرب إلى الله، كلما منحك الله قوة جذب أكثر، وكلما كنت أقرب إلى الله، وأكثر صدقاً وإخلاصاً، تجلى الله عليك حتى حوَّل قلوب الناس إليك .
مرةً قال لزوجته:
فعمرو حينما قرأ ابنه عليه سورة الفاتحة، قال: ما أحسن هذا الكلام, وما أجمله! أوَ كلُّ كلامه مثل هذا؟ فقال معاذ: وأحسن من هذا يا أبتاه، فهل لك أن تبايعه, فإنّ قومك جميعاً بايعوه؟ سكت الشيخ قليلاً، ثم قال: لست فاعلاً حتى أستشير مناة، يعني صنمه، فأنظر ما يقول؟ .
-حدثني أخ ذهب إلى الهند، دخل إلى معابدهم؛ معابد السيخ، قال لي: صنم بوذا ارتفاعه ثلاثون مترًا، ضخم جداً، وقال: أنواع الفاكهة موضوعة أمامه، فسأل لمن هذه الفاكهة؟ قال: هي له يأكلها في الليل، والذي يحدثه دكتور في الجامعة، قال: يأكلها بالليل, وهو مِن خشب، فابتسم، وقال: الرهبان يأكلونها، غيَّر التعبير، تُقدم له أشهى أنواع الفواكه وأثمنها- .
ثم وقف أمامه بقامته الممدودة، واعتمد على رجله الصحيحة، فقد كانت الأخرى عرجاء ، شديدة العرج، فأثنى عليه أطيب الثناء، ثم قال:
سيدنا إبراهيم, ماذا فعل؟ كسر الأصنام، ووضع الفأس في عنق كبيرهم، قال تعالى حكاية عن فعلِه هذا:
أوقعهم في مشكلة، أنتم تعبدون هؤلاء الأصنام من دون الله، إنّ كبيرهم فعل هذا, قال تعالى:
إذاً: سيدنا إبراهيم ما كذبهم مباشرةً، بل سلك معهم أسلوبًا ذكيًّا، كذلك فعل أبناءُ عمرو بن الجموح- .
ذات ليلة أدلج أبناءُ عمرو بن الجموح مع صديقهم معاذ بن جبل إلى مناة، فطرحوه في الدِّمنة، مكان أقذارهم، وعادوا إلى بيوتهم دون أن يعلم بهم أحد, فلما أصبح عمرو دلف إلى صنمه لتحيته فلم يجده، فقال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ فلم يجبه أحد بشيء .
فطفق يبحث عنه في داخل البيت وخارجه، وهو يرغي ويزبد، ويتهدد ويتوعد، حتى وجده منكساً على رأسه في الحفرة، فغسله، وطهره، وطيّبه، وأعاده إلى مكانه، وقال: أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينّه، فلما كانت الليلة الثانية عاد الفتية على مناة ففعلوا به مثل فعلهم بالأمس، فلما أصبح الشيخ التمسه فوجده في الحفرة ملطخاً بالأقذار، فأخذه، وغسله، وطيّبه, وأعاده إلى مكانه، وما زال الفتية يفعلون بالصنم مثل ذلك كل ليلة، فلما ضاق بهم ذرعاً راح إليه قبل منامه، وأخذ سيفه, وعلقه برأسه، وقال له: يا مناة, إني واللهِ لأعلم من يصنع بك هذا الذي ترى، فإن كان فيك خير فادفع الشر عن نفسك، وهذا السيف معك, -انظروا إلى العقل الصغير، انظروا إلى الجاهلية، هذا كان من أشراف الجاهلية، ومن النخبة, والصفوة ، ومن علية القوم وأنبلهم، بل من أذكاهم، وهذا عقله كما ترون- .
ثم أوى إلى فراشه، فما إن استيقن الفتية من أن الشيخ قد غطّ في نومه، حتى هبوا إلى الصنم، فأخذوا السيف من عنقه، وذهبوا به خارج المنزل، وقرنوه إلى كلب ميت بحبل، وألقوهما في بئر لبني سلمة، تسيل إليها الأقذار، وتتجمع فيها، فلما استيقظ الشيخ، ولم يجد الصنم، خرج يلتمسه، فوجده مكبًّا على وجهه في البئر، مقروناً إلى كلب ميت، وقد سُلب منه السيف، فلم يُخرجه هذه المرة من الحفرة، وإنما تركه حيث ألقوه، وأنشأ يقول: والله لو كنتَ إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن, ثم ما لبث أن دخل في دين الله .
-هذه القصة لها مغزى في دين الله، فالمؤمن إذا استخدم الحكمة والعقل يصل إلى أهدافه بالتدريج، أمّا المجابهة فهي أسلوب الحمقى، فالمجابهة والسباب والشتائم والتقريع كلها أساليب بلهاء، ولكنهم تلطفوا به، وأقنعوه أن هذا الصنم لا يستطيع أن يدفع عنه شيئاً, فاقتنع بالتدريج.
تروي كتب الأدب أن قبيلة وُدٍّ صنعت صنماً لها من التمر، فلما جاعت أكلته، فالعرب قالت: أكلت ودُّ ربَّها, ومرة رأى إنسانٌ ثعلباً يبول على رأس صنماً، فقال:
أرْبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ برَأسِهِ لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيهِ الثَّعَالِبُ
هكذا كان العرب في الجاهلية، فهؤلاء الذين يريدون أن يعتَدُّوا بالجاهلية، وأن يعظِّموها ، وأن يتجاهلوا الإسلام، فهذه جاهلية العرب- .
قد روى هذه القصة الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي قَتَادَةَ, قَالَ:
هل السبل مفتوحة للإنسان حتى يدخل الجنة , كيف ذلك ؟
أيها الأخوة, مع الدرس السابع والأربعين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابي اليوم هو عمرو بن الجموح .شيخ عزم على أن يطأ بعرجته الجنة، يعني أردت من هذا التعليق أن أبين لكم أن الإنسان مهما يكن حاله، ومهما يكن وضعه الصحي، ومهما يكن سنُّه، ومهما يكن وضعه الاقتصادي، ومهما تكن ظروفه، ومهما تكن مشكلاته، ومهما تكن بيئته، ومهما تكن معطياته، ومهما تكن قدراته, ومهما تكن إمكاناته، بإمكانه أن يدخل الجنة لأنه خُلِقَ لها، وما دام الله سبحانه وتعالى خلقنا للجنة، إذاً: فقد يسَّر لها السبل .
مبدئياً، الأبوة الكاملة يمكن أن تدخلك الجنة، أنت أب كامل، حرصت على أولادك، وربَّيتَهـم تربيةً صالحة، ورعيتَ شؤونهم حتى زوَّجتَهم، وحتى نشؤوا على طاعة الله، ثم نامت عيناك راضيًا عنهم، ولقيت الله عز وجل وهو عنك راض، فهنيئًا لك, الأمومة الكاملة تدخل الجنة, البنوة الكاملة، ابن كان باراً بوالديه، يدخل بِبِرِّه الجنة .
صنعة حرفتك، أية حرفة أنت فيها بإمكانك من خلالها أن تدخل الجنة، طبعاً يجب أن تكون الحرفة في الأصل مشروعة، فالذي يبيع أفلام الفيديو هذه حرفة غير مشروعة، والذي يبيع لحم خنزير هذه حرفة غير مشروع، فإذا كانت الحرفة في الأصل مشروعة، ومارستها بطريقة مشروعة، وابتغيت بها رضوان الله عز وجل، ولم تشغلك عن فرض صلاة، ولا عن طاعة، ولا عن واجب، ولا عن مجلس علم، وابتغيت بها خدمة المسلمين، وأنت لا تدري تنقلب هذه الحرفة إلى عبادة .
إذاً: في أي وضع يمكنك أن تدخل الجنة، فما عليك إلا أن تفكر، وإلا أن تتعلم، وإلا أن تنطلق إلى العمل متوكِّلاً على الله سبحانه .
لمحة عن حياة عمرو بن الجموح :
فعمرو بن الجموح زعيم من زعماء يثرب في
الجاهلية، وسيد بني سلمة المسود، وواحد من أجواد المدينة، وذوي المروءات
فيها، وقد كان من شأن الأشراف في الجاهلية، أن يتخذ كل واحد منهم صنماً
لنفسه في بيته, صنمًا خاصًّا به، كيف أن بعض الناس له يخت خاص، وطائرة خاصة
في العصر الحديث، فأشراف الجاهلية من علائم شرفهم أن له صنماً خاصاً في
بيوتهم، ليتبرك به أحدُهم عند الغدو والرواح، وليذبح له في المواسم، وليلجأ
له في الملمات؟ .كلما وحَّدتَ الله كبُر عقلك، وكلما أشركت معه صغُر عقلك، ولو اطلعت على بعض الديانات الوضعية في آسيا لرأيت العجب العجاب, فهناك إنسانًا يتطيب ببول البقر، وإنسان يضع روث البقر في غرفة الضيوف، وإنسان يعبد البقر من دون الله .
كان صنم عمرو بن الجموح يُدعى مناة، وقد اتخذه من نفيس الخشب، وأرقى أنواعه، ولا تعجبوا، فما يدع الناس شيئاً خرافياً إلا ويقعون في خرافة أشد، ولو تأملت حياتنا المعاصرة لرأيت فيها من الخرافات والأوهام والأضاليل ما لا يقل عن هذه الأوهام، ولكن بشكل آخر، وطريقة أخرى .
على يد من أسلم أولاد عمرو, وهل أسلمت زوجه, وممن كان يخشى عمرو, وبماذا كان يحذر زوجته ؟
جاء الإسلام فحرَّر العقول، وأعاد للإنسان
إنسانيته، وعرَّفه قدرَه، هذا الصحابي الآن طبعاً, أما قبل إسلامه لم يكن
صحابياً, أسلم أولادُه الثلاثة على يدي سيدنا مصعب بن عمير، ، وهم: معوذ
ومعاذ وخلاد, وآمنتْ مع أبنائه الثلاثة أمهم هند، وهو لا يعرف من أمر
إيمانهم شيئاً، كلهم على يد مصعب بن عمير، وقد تحدثنا عنه في درس سابق .رأت هند زوجة عمرو بن الجموح أن يثرب غلب على أهلها الإسلام، وأنه لم يبق من السادة الأشراف أحد على الشرك سوى زوجها ونفر قليل، وكانت تحبه وتجله، وتشفق عليه من أن يموت على الكفر، فيصير إلى النار .
أيها الأخوة, حينما ألمح أحداً منكم يشفق على أمه وأبيه، ويخاف أن يختم لهما بعمل لا يرضاه لهما، أنا أكبُر هذا الشاب، هناك أخوة كرام عندهم حرص لا حدود له على هداية أهلهم، وهذا من الوفاء, حتى إنه يُقال: إن الابن مهما فعل مع أمه وأبيه فلن يستطيع أن يكافئهما على إحسانهما إلا في حالة واحدة؛ أن يراهما عبدين فيعتقهما، وهذا المعنى موسع، يعني إذا كانا عبدين لشهوتهما فدلّهما على الله، فأعتقهما، فبهذا العمل وحده بإمكانه أن يكافئ أمه وأباه على سبق إحسانهما إليه .
كان هو في الوقت نفسه يخشى على أبنائه أن يرتدوا عن دين آبائهم وأجدادهم، وأن يتبعوا هذا الداعية؛ مصعب بن عمير الذي استطاع في زمن قليل أن يحول كثيراً من الناس عن دينهم، وأن يدخلهم في دين محمد صلى الله عليه وسلم .
هناك في الدعوة شيء اسمه الجذب، كلما كنت أقرب إلى الله، كلما منحك الله قوة جذب أكثر، وكلما كنت أقرب إلى الله، وأكثر صدقاً وإخلاصاً، تجلى الله عليك حتى حوَّل قلوب الناس إليك .
مرةً قال لزوجته:
((يا هند، احذري أن يلتقي أولادك بهذا الرجل، -يعني مصعب بن عمير - حتى نرى رأينا فيه، فقالت: سمعاً وطاعة))
أنا أضرب لك هذا المثل دائماً، هل من المعقول
أن تصلك رسالة تمزقها قبل أن تفتحها, هل يفعل هذا إنسان عاقل على وجه
الأرض؟ جاءتك دعوة, استمع لتفهم، وبعدئذٍ خذ الموقف، هذا الذي يرفض أن
يستمع إلى درس علم، هذا الذي يرفض أن يلتقي مع أهل الحق ، هذا الذي يرفض أن
يقرأ كتاباً، هذا الذي يرفض أن يستمع إلى شريط، يرفض سلفاً، هو كمثل الذي
تأتيه رسالة فيمزقها قبل أن يفتحها .
هل أصاخ عمرو لكلام زوجته , وما موقفه حينما سمع القرآن, وبماذا نصحه ابنه, وما الموقف الذي اتخذه؟
أيها الأخوة, فهند بأدب جم قالت لزوجها:
((هل لك أن تستمع من ابنك معاذ ما يرويه عن هذا
الرجل؟ قال: ويحك، هل صبأ معاذ عن دينه، وأنا لا أعلم؟ فأشفقت المرأة
الصالحة على هذا الشيخ، وقالت: كلا، ولكنه حضر بعض مجالس هذا الداعية، وحفظ
شيئاً مما يقوله, فقال: ادعيه لي، فلما حضر بين يديه، قال: أسمِعْني شيئاً
مما يقوله هذا الرجل, قال: يقول سبحانه وتعالى:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾
فعمرو حينما قرأ ابنه عليه سورة الفاتحة، قال: ما أحسن هذا الكلام, وما أجمله! أوَ كلُّ كلامه مثل هذا؟ فقال معاذ: وأحسن من هذا يا أبتاه، فهل لك أن تبايعه, فإنّ قومك جميعاً بايعوه؟ سكت الشيخ قليلاً، ثم قال: لست فاعلاً حتى أستشير مناة، يعني صنمه، فأنظر ما يقول؟ .
-حدثني أخ ذهب إلى الهند، دخل إلى معابدهم؛ معابد السيخ، قال لي: صنم بوذا ارتفاعه ثلاثون مترًا، ضخم جداً، وقال: أنواع الفاكهة موضوعة أمامه، فسأل لمن هذه الفاكهة؟ قال: هي له يأكلها في الليل، والذي يحدثه دكتور في الجامعة، قال: يأكلها بالليل, وهو مِن خشب، فابتسم، وقال: الرهبان يأكلونها، غيَّر التعبير، تُقدم له أشهى أنواع الفواكه وأثمنها- .
فقال له الفتى: وما عسى أن يقول مناة يا أبتاه، وهو خشب أصمّ، لا يعقل ولا ينطق؟ فقال الشيخ في حدة: قلت لك: لن أقطع أمر دونه))
إليكم قصة إسلام عمرو :
أيها الأخوة, ثم قام عمرو بن الجموح إلى مناة،
وكانوا إذا أرادوا أن يكلموه جعلوا خلفه امرأة عجوزاً، فتجيب عنه بما
يلهمها إياه في زعمهم, يأتون بامرأة عجوز تقف خلفه، يسألون مناة, ويسمعون
الجواب من العجوز, والعجوز وحدها هي التي تجيب، وليس مناة .ثم وقف أمامه بقامته الممدودة، واعتمد على رجله الصحيحة، فقد كانت الأخرى عرجاء ، شديدة العرج، فأثنى عليه أطيب الثناء، ثم قال:
((يا مناة, لا ريب أنك قد علمت بأن هذا الداعية الذي
وفد علينا من مكة لا يريد أحداً بسوء سواك، وأنه إنما جاء لينهانا عن
عبادتك، وقد كرهت أن أبايعه على الرغم مما سمعت من جميل قوله، حتى أستشيرك،
فأشر عليَّ، فلم يردّ عليه مناة بشيء، فقال: لعلك قد غضبت، وأنا لم أصنع
شيئاً يغضبك بعد، ولكن لا بأس فسأتركك أياماً حتى يسكت عنك الغضب .
كان أبناء عمرو يعرفون مدى تعلق أبيهم بصنمه مناة، وكيف أنه غدا مع الزمن قطعةً منه؟ ولكنهم أدركوا أنه بدأت تتزعزع مكانته في قلبه، وأن عليهم أن ينتزعوه من نفسه انتزاعاً،
-فذلك سبيله إلى الإيمان, المؤمن كيس فطن حذر، المؤمن العاقل الكيس لا يصل لأهدافه من دون تفكير، ومن دون حكمة وخطة .كان أبناء عمرو يعرفون مدى تعلق أبيهم بصنمه مناة، وكيف أنه غدا مع الزمن قطعةً منه؟ ولكنهم أدركوا أنه بدأت تتزعزع مكانته في قلبه، وأن عليهم أن ينتزعوه من نفسه انتزاعاً،
سيدنا إبراهيم, ماذا فعل؟ كسر الأصنام، ووضع الفأس في عنق كبيرهم، قال تعالى حكاية عن فعلِه هذا:
﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا
إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ
كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾
أوقعهم في مشكلة، أنتم تعبدون هؤلاء الأصنام من دون الله، إنّ كبيرهم فعل هذا, قال تعالى:
﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ
أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ
عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ
وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
إذاً: سيدنا إبراهيم ما كذبهم مباشرةً، بل سلك معهم أسلوبًا ذكيًّا، كذلك فعل أبناءُ عمرو بن الجموح- .
ذات ليلة أدلج أبناءُ عمرو بن الجموح مع صديقهم معاذ بن جبل إلى مناة، فطرحوه في الدِّمنة، مكان أقذارهم، وعادوا إلى بيوتهم دون أن يعلم بهم أحد, فلما أصبح عمرو دلف إلى صنمه لتحيته فلم يجده، فقال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ فلم يجبه أحد بشيء .
فطفق يبحث عنه في داخل البيت وخارجه، وهو يرغي ويزبد، ويتهدد ويتوعد، حتى وجده منكساً على رأسه في الحفرة، فغسله، وطهره، وطيّبه، وأعاده إلى مكانه، وقال: أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينّه، فلما كانت الليلة الثانية عاد الفتية على مناة ففعلوا به مثل فعلهم بالأمس، فلما أصبح الشيخ التمسه فوجده في الحفرة ملطخاً بالأقذار، فأخذه، وغسله، وطيّبه, وأعاده إلى مكانه، وما زال الفتية يفعلون بالصنم مثل ذلك كل ليلة، فلما ضاق بهم ذرعاً راح إليه قبل منامه، وأخذ سيفه, وعلقه برأسه، وقال له: يا مناة, إني واللهِ لأعلم من يصنع بك هذا الذي ترى، فإن كان فيك خير فادفع الشر عن نفسك، وهذا السيف معك, -انظروا إلى العقل الصغير، انظروا إلى الجاهلية، هذا كان من أشراف الجاهلية، ومن النخبة, والصفوة ، ومن علية القوم وأنبلهم، بل من أذكاهم، وهذا عقله كما ترون- .
ثم أوى إلى فراشه، فما إن استيقن الفتية من أن الشيخ قد غطّ في نومه، حتى هبوا إلى الصنم، فأخذوا السيف من عنقه، وذهبوا به خارج المنزل، وقرنوه إلى كلب ميت بحبل، وألقوهما في بئر لبني سلمة، تسيل إليها الأقذار، وتتجمع فيها، فلما استيقظ الشيخ، ولم يجد الصنم، خرج يلتمسه، فوجده مكبًّا على وجهه في البئر، مقروناً إلى كلب ميت، وقد سُلب منه السيف، فلم يُخرجه هذه المرة من الحفرة، وإنما تركه حيث ألقوه، وأنشأ يقول: والله لو كنتَ إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن, ثم ما لبث أن دخل في دين الله .
-هذه القصة لها مغزى في دين الله، فالمؤمن إذا استخدم الحكمة والعقل يصل إلى أهدافه بالتدريج، أمّا المجابهة فهي أسلوب الحمقى، فالمجابهة والسباب والشتائم والتقريع كلها أساليب بلهاء، ولكنهم تلطفوا به، وأقنعوه أن هذا الصنم لا يستطيع أن يدفع عنه شيئاً, فاقتنع بالتدريج.
تروي كتب الأدب أن قبيلة وُدٍّ صنعت صنماً لها من التمر، فلما جاعت أكلته، فالعرب قالت: أكلت ودُّ ربَّها, ومرة رأى إنسانٌ ثعلباً يبول على رأس صنماً، فقال:
أرْبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ برَأسِهِ لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيهِ الثَّعَالِبُ
هكذا كان العرب في الجاهلية، فهؤلاء الذين يريدون أن يعتَدُّوا بالجاهلية، وأن يعظِّموها ، وأن يتجاهلوا الإسلام، فهذه جاهلية العرب- .
بعد أن دخل عمرو بن الجموح في دين الله تذوق حلاوة الإيمان، حيث عضَّ أصابعه ندماً على كل لحظة قضاها في الشرك))
فيا أيها الأخ المسلم, علامة إيمانك الصادق؛
أن تكره أن تعود إلى ما كنت عليه كما يكره الرجل أن يُلقى في النار, علامة
إيمانك الصادق؛ أن تمقت جاهليتك مقتاً لا حدود له، أما هذا الذي يحنُّ إلى
جاهليته، يحنُّ إلى أيامه قبل الهدى، يحن إلى ماضيه، هذا دليل أنه لم يؤمن
بعد .
إليكم قصة استشهاده :
قبيل موقعة أحد, رأى عمرو بن الجموح أبناءه
الثلاثة يتجهزون للقاء العدو، ونظر إليهم غادين رائحين كأُسد الشرى، وهم
يتوهَّجون شوقاً إلى نيل الشهادة، والفوز بمرضاة الله عز وجل، فأثار هذا
الموقف حميته، وعزَم على أن يغدو معهم إلى الجهاد تحت راية رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه، فهو شيخ
كبير طاعن في السن، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج، وقد عذره الله عز وجل
فيمن عذرهم، فقالوا له:
((يا أبانا, إن الله قد عَذرَكَ، فعلامَ تكلف نفسك
مما أعفاك الله منه؟ فغضب الشيخ من قولهم أشد الغضب، وانطلق إلى النبي صلى
الله عليه وسلم يشكوهم, قال: يا نبي الله، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن
يحبسوني عن هذا الخير، وهم يتذرعون بأني أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ
بعرجتي هذه الجنة, فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه لعل الله يرزقه الشهادة،
فخلوا عنه إذعاناً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام .
وما إن أَزِفَ وقتُ الخروج حتى ودّع عمرو بن الجموح أهله وداع مفارق لا يعود، ثم اتجه إلى القبلة، ورفع كفيه إلى السماء، وقال: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلى أهلي خائباً,
-فما معنى خائباً؟ يعني حياً, يعني إذا رجع حياً عاد خائباً، فإذا استشهد فقد حقق أمنيته- .
وما إن أَزِفَ وقتُ الخروج حتى ودّع عمرو بن الجموح أهله وداع مفارق لا يعود، ثم اتجه إلى القبلة، ورفع كفيه إلى السماء، وقال: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلى أهلي خائباً,
ثم انطلق يحيط به أبناؤه الثلاثة وجموع كثيرة من قومه
بني سلمة، ولما حمي وطيس المعركة، وتفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، شوهد عمرو بن الجموح يمضي في الرعيل الأول، ويثب على رجله الصحيحة
وثباً, وهو يقول: إني لمشتاق إلى الجنة، إني لمشتاق إلى الجنة، وكان وراءه
ابنه خلاد, وما زال الشيخ وفتاه يجالدان ويذودان عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى خرا صريعين شهيدين على أرض المعركة، ليس بين الابن وأبيه إلا
لحظات .
وما إن وضعت المعركة أوزارها حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شهداء أحد ليواريهم ترابهم، فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه:
وما إن وضعت المعركة أوزارها حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شهداء أحد ليواريهم ترابهم، فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه:
((خلوهم بدمائهم وجراحهم، فأنا الشهيد عليهم))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ
إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ, وَالرِّيحُ
رِيحُ الْمِسْكِ))
قد روى هذه القصة الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي قَتَادَةَ, قَالَ:
((أَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ,
أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ أَمْشِي
بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ, وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ,
فَقُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ, وَابْنُ أَخِيهِ, وَمَوْلًى لَهُمْ,
فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ,
فَقَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً
فِي الْجَنَّةِ, فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِهِمَا وَبِمَوْلَاهُمَا فَجُعِلُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ))
ملخص الدرس :
رجل يزيد عمره عن الستين عاماً، أعفاه
القرآن من الجهاد وهو معذور، ويصرّ على أن يجاهد في سبيل الله، وأن يدفع عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقول الرائع: أن يا رب، لا تردني إلى
أهلي خائباً، كأنهم ليسوا بشراً، أو كأننا نحن دون البشر، هكذا كان أصحاب
النبي، بمثل هؤلاء فتح النبي عليه الصلاة والسلام البلاد، بمثل هؤلاء انتشر
الإسلام في الخافقين, رضي الله عن عمرو بن الجموح, وأصحابه من شهداء أحد،
ونوّر الله لهم في قبورهم .
والحمد لله رب العالمين
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).