0

إباحية إيران السياسية!

في سنة 203 هجرية تعرضت الأمة الإسلامية لفتنة عاتية كادت أن تقتلع دولة الخلافة العباسية القائمة وقتها، وتعيد إنشاء دولة المجوس الفارسية مرة آخري بعد أن أزالها الصحابة رضوان الله عليهم في عهد الراشدين، تلك الفتنة كانت فتنة (بابك الخرمي)؛ ففي شمال إيران ظهر (بابك بن بهرام) وهو رجل وضيع مجهول النسب، ولكنه كان ذو عزم وإقدام وتدبير وتخطيط من أجل إعادة دولة المجوس الفارسية، ومن أجل إغواء الناس وتجميع أكبر عدد ممكن من الشباب حوله، أحيا دعوة مزدك الفارسي، وهي دعوة قديمة ظهرت في القرن الثالث الميلادي بالهضبة الإيرانية، وكانت تدعو للإباحية في كل شيء، والاشتراك في الأموال والنساء والأعراض والمتاع، والانعكاف علي بلوغ الشهوات والانغماس في الملذات بكل سبيل، وكان بابك يهدف من دعوته الإباحية هذه إفساد أخلاق المسلمين، وجذب أكبر عدد ممكن منهم إلي هذه الدعوة العفنة، وهو ما نجح فيه بابك لحد كبير؛ بسبب غلبة الجهل، وأعجمية أهل تلك المناطق، وقلة العلم فيهم.

ولأن دعوة مزدك كانت مجرد دعوة للإباحية والانغماس في الشهوات، فقد حرمت العنف وحمل السلاح ضد الآخرين، أما بابك فقد كانت دعوته للإباحية ستاراً لإعادة أمجاد دولة الفرس المجوسية؛ لذلك أول ما اجتمع عنده العدد المناسب من الأغبياء والدهماء وطلاب الشهوة، أسفر عن حقيقة دعوته، ودخل في حروب طاحنة ضد الدولة العباسية ابتداء من سنة 203 هجرية، مستغلاً الفراغ السياسي الناجم عن آثار الصراع بين الخليفة الأمين وأخيه المأمون علي السلطة.

ظل بابك يحارب الدولة العباسية لأكثر من عشرين سنة انتصر خلالها علي عشرات الجيوش الكبيرة للدولة العباسية، وتناوب علي حربه الخليفة المأمون ثم أخيه المعتصم، وقد أوصى المأمون أخاه المعتصم وهو في مرض موته بالتجرد لقتال بابك، وإنفاق الأموال والجيوش من أجل القضاء عليه، وهو ما تم بالفعل سنة 223 هجرية، وقد بلغ عدد ما قتله بابك الخرمي من المسلمين خلال عشرين سنة أكثر من مائتي ألف مسلم، وأسر أكثر من ذلك، وأنفقت الدولة العباسية علي حربه من خزانتها زيادة عن خمسين مليون دينارً ذهبياً، وهو مبلغ مهول في غاية الضخامة بمعايير الزمان.

عودة الإباحية:

كانت فكرة بابك الإباحية ملهمة لكثير من أعداء الإسلام علي مر العصور، فثورة الزنج التي اندلعت سنة 255 هجرية علي يد دعي آل علي، والتي استمرت 15 سنة كانت أهم مبادئها الإباحية والاشتراكية، وفرقة القرامطة التي بدأ ظهورها في سواد الكوفة علي يد حمدان قرمط سنة 278 كانت تدعو للإباحية والشهوانية البهيمية، والدولة العبيدية التي ظلت كالسرطان في جسد الأمة الإسلامية لقرنين وزيادة من الزمان كانت تستحل كل المحرمات، وبعدها ظهرت فرقة الحشاشة التي كان يسيطر فيها الحسن الصباح علي أتباعه بإباحة مخدر الحشيش وقصر الشهوات المليء بالملذات والتي كان يقنع أتباعه أنها جنة الخلد، وكذا فرقة البابية والبهائية والنصيرية وغيرهم كثير، ومازالت الفرق الضالة والمنحرفة التي تكيد للأمة الإسلامية تعتمد مبدأ الإباحية أساساً من أهم أسس دعوتها ورواجها بين المسلمين.

كل تلك الطوائف والفرق الضالة التي كانت تعتمد مبدأ الإباحية لا تقول عن نفسها أنها تفعل محرماً أو منكراً، بل كانت تقنع أتباعها بأن ذلك من الديانة، فالقرامطة مثلاً كانوا يقولون بالإباحية في النساء بحجة استئصال أسباب المباغضة بين الناس، والنصيرية الأولي كانت تقول عن الفواحش أنها إيلاج نور الفاضل في المفضول، وهكذا من الترهات كانت تعطي الغطاء الشرعي بزعمهم للإباحية التي يدينون بها.

ومن أشهر الفرق الضالة التي اعتمدت مبدأ الإباحية بغطاء شرعي فرقة الرافضة الجعفرية أو الشيعة الإمامية، وذلك تحت مسمي زواج المتعة، وبعيداً عن الكلام الفقهي في المسألة والأدلة الكثيرة والتي تخرج عن الحصر في تحريم زواج المتعة وإجماع علماء الإسلام علي عده من الزنا البين الذي لا شبهة فيه؛ فإن الإباحية المقنعة التي تمارسها لإيران الآن تجاوزت حتى ضوابطه المقررة في أصول الدين الشيعي.

من بيوت الرذيلة إلي بيوت الفضيلة:

المجتمع الإيراني الذي يوصف بأنه مجتمع محافظ أو تغلب عليه المظاهر الدينية ويفخر علي غيره من المجتمعات الإسلامية بذلك، ما هو إلا مجتمع تنخر فيه الرذيلة، وتضرب الفواحش في جوانبه! ففي إحصائيات سنة 2002 أشارت التقديرات إلي وجود حوالي 300 ألف مرآة في سوق الرذيلة، والعدد الآن تجاوز هذا الرقم بكثير، وبدلاً من أن تواجه حكومة طهران هذا الانحراف الأخلاقي الكبير بتطبيق الشريعة كما تروج عن نفسها، توجهت نحو إحياء فكرة بيوت (العفة) والتي كانت موجودة منذ أيام الشاه، وكانت من أكبر أوكار الفساد في إيران والبلاد المجاورة، وصارت من أهم موارد الدخل الإيراني أيام الشاه؛ إذ كان السياح الباحثون عن اللذات والشهوات الجامحة يحجون إلي تلك البيوت من كل مكان.

والتوجه الجديد ظهر أول مرة بعد أكثر من عشر سنوات علي قيام الثورة الخومينية، وقيام مبدأ ولاية الفقيه، وبدعم من هاشمي رفسجاني سنة 1991، وقد تم وضع تنظيم قانوني لها يقوم علي دور الشرطة الإيرانية في التعرف على هوية بائعات الهوى، وإيجاد مراكز لإيوائهن، ثم تحال إلي فحص طبي، وتوضع عندئذ في ما اصطلح على تسميته "بيوت الفضيلة" أو بيوت الزيجات المؤقتة؛ حيث يمكنها من ضمن الشروط المنصوص عليها في الأحكام الفقهية في الدين الشيعي أن تطلب "المهر" الذي تراه في كل علاقة، ومدة هذه العلاقة في ما يسمى هنا بزواج (الصيغة)، أو زواج المتعة، أو الإباحية المعاصرة.

وقد تعطل هذا المشروع قرابة العشرين سنة بسبب الصراع الانتخابي، وتغير موازين القوي داخل إيران خاصة بعد نجاح الرئيس خاتمي الذي كان يعارض المشروع بشدة، حتى رأى هذا المشروع النور منذ أسابيع قليلة في إيران، وبدعم كامل من المؤسسة الدينية والتيار المحافظ في إيران، فقد نشرت صحيفة (اعتماد) بياناً صادراً عن آية الله محمد موسوي بجنوردي مدير مركز أبحاث الخميني ساند فيه المشروع، معتبراً: "أن من الملح قيام بيوت الفضيلة هذه بسبب الأوضاع الطارئة في البلاد".

سياحة كسر العزلـة:

لا يمكن عزل هذا القرار الجديد الذي تم سنه في إيران في هذا الوقت تحديداً عن السياق العام للأحداث الداخلية والخارجية بإيران، فإيران توجه صعوبات داخلية وخارجية وإقليمية جمة هذه الأيام.

فإيران تموج باضطرابات داخلية كثيرة منذ نتائج الانتخابات الأخيرة والتي شكك في نزاهتها معظم المراقبين في الداخل والخارج، وما تلاها من احتجاجات واسعة النطاق كادت أن تعصف بالداخل الإيراني لولا شدة وقسوة الحسم الأمني لحكومة طهران التي أطلقت العنان لجهاز السافاك الجديد - الحرس الثوري - يفعل ما بد له بالمعارضين من أعلاهم لأدناهم، كما لا ننسي الصراع التاريخي بين القومية الفارسية المهيمنة علي مقاليد الحكم، وغيرها من العرقيات والقوميات التي تعاني من التهميش التضييق خاصة في منطقة الأحواز التي يدور فيها صراع عرقي وديني منذ أن احتلت إيران المنطقة في أعقاب ثورة الشيخ خزعل سنة 1925 ميلادية، ومن يومها الصراع علي أشده في المنطقة.

كما أن إيران تتعرض لصعوبات خارجية كثيرة في ظل تنامي السخط العالمي ضد طموحاتها النووية، وقرب صدور قرارات بعقوبات أشد صرامة على حكومة طهران، وفي ظل تخلي روسيا والصين أقرب حلفاء إيران في المعسكر الغربي، وفشل أو إفشال المساعي التركية والبرازيلية لاحتواء أزمة الملف النووي الإيراني.

أما علي المستوي الإقليمي فإيران ما زالت تصر علي إبقاء العلاقات بينها وبين دول الجوار في خانة التوتر والحذر، في ظل محاولاتها المستمرة للتدخل في شئون هذه الدول وإفسادها للوضع الداخلي في العراق الذي أصبح مأزوماً للغاية منذ نتائج الانتخابات الأخيرة، واكتشاف العديد من خلايا التجسس الإيرانية المرتبطة مع الحرس الثوري في عدة بلاد خليجية مثل الكويت والبحرين والسعودية، ناهيك عن تحريك إيران المستمر للطابور الخامس المندس في كل دول المنطقة والمتمثل في الأقليات الشيعية التي ترتبط دينياً ونفسياً وسياسياً أيضاً بالمشروع الإيراني الطموح والعدواني إزاء دول المنطقة، ولعل تمرد الحوثيين في اليمن أبرز دليل علي طبيعة العلاقة بين إيران وأذنابها في المنطقة.

هذه الأمور كلها دفعت إيران في الفترة الأخيرة لمزيد من العزلة وضاقت عليها خياراتها، إذ فقدت الكثير من حلفائها ولم يبق لها في المنطقة سوي سوريا ولبنان، مما جعل حكومة طهران تفكر في كيفية استعادة جزء من شعبيتها المنهارة، وجذب أكبر عدد من الزائرين والمتعاطفين للجمهورية الإسلامية! ومن ثم كان إحياء فكرة بيوت العفة أو الفضيلة التي من المتوقع أن تجتذب أعداداً ضخمة من السياح والزائرين خاصة من الدول المجاورة.

ولعل البعض يظن أن هذا الكلام من قبيل التهويل والمبالغة، ورمي النظام الإيراني الشيعي بكل نقيصة، ولكن اسمع لكلام قنصل إيران بدبي (عادل أسدي) والذي استقال من منصبه احتجاجاً علي تراخي حكومة بلاده في التصدي لتدفق آلاف الإيرانيات علي الإمارة سنوياً لممارسة الرذيلة، ونكفي أن نعلم أن (عادل أسدي) هذا من الساسة الإيرانيين المرموقين في البلاد، وشغل عدة مناصب حساسة مثل سفير إيران في الأرجنتين، والنائب لعدة دورات عن منطقة الأحواز بالبرلمان الإيراني، وكان (عادل أسدي) قد قال في تصريحات خطيرة له في جريدة الزمان اللندنية: إن سفارة إيران في أبو ظبي قد تحولت لوكر من أكبر أوكار الفساد والرذيلة في المنطقة.

قد تكون عند إيران المبررات الداخلية الكافية للإقدام علي هذه الفكرة الإباحية التي لا تختلف كثيراً عن فكرة أصحاب الرايات الحمر أيام الجاهلية، ولكن ما المبرر لأن تفتح المجال للسياحة الخارجية للتمتع بمزايا هذه البيوت الإباحية الجديدة سوى نشرها وتصديرها لدول المنطقة، وجذب أكبر عدد ممكن من الشباب إليها، وكسر عزلتها التي أخذت حلقاتها في الاستحكام يوماً بعد يوم .. وهكذا تكون إيران قد أضافت نوعاً جديداً من الإباحية وهي الإباحية السياسية.

المصدر: مفكرة الإسلام

 

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top