يومُ عاشوراء ووسطيَّة أهل السُّنة
أصناف الناس في التزامهم بالدين:
النَّاس في دين الله ثلاثة أصناف:
الصِّنف الأول: الغالي فيه، وهو المتشدِّد في الدين والمتنطِّع فيه، ويكون غالبًا بفعل شيء لم يأت به الشرع فيكون محدثًا، أو بزيادةٍ على القدر الذي أتى به الشَّرع حتى وإن كان الأصل مشروعًا.
الصِّنف الثاني: الجافي عنه، وهو المفرِّط في الدِّين إما بترك الواجبات وارتكاب المحرَّمات، أو بترك بعض أجزاء الواجب وعدم الإتيان به كما أراد الشَّرع.
وقد ذمَّ الله تعالى هذين الصنفين فقال: ﴿وَلَا تَجعَل يَدَكَ مَغلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبسُطهَا كُلَّ ٱلبَسطِ﴾ [الإسراء: 29]، فنهْيُ الله للنَّبي صلى الله عليه وسلم هو نهيٌ للأمة، وقد نهاهُ الله عن الغلوِّ والتفريط، كما مدح الله منِ ابتعد عن هذين الصنفين فقال: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَم يُسرِفُواْ وَلَم يَقتُرُواْ وَكَانَ بَينَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]، فإن ذُمَّ الصنفان بقي:
الصنف الثالث: المعتدِل فيه، وهو المتوَسِّط بين الغلوِّ والجَفاء، وبين الإفراط والتَّفريط، ويتمثَّل في اتِّباع الحقِّ كما جاء عن الله عزَّ وجل ورسولِه عليه الصَّلاة والسلام، فالتَّوسُّط هو عبادة الله بما شرع وكما شرَع، والمسلمون أهلُ وسطٍ بين الأديان كلِّها، يقول الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلنَٰكُم أُمَّة وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]: “وأرى أنَّ الله -تعالى ذكره- إنَّما وصفهم بأنَّهم وسطٌ لتوسُّطِهم في الدِّين، فلا هم أهلُ غلوٍّ فيه غلوَّ النصارى الذين غلَوا بالترهُّب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصيرٍ فيه تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءَهم وكذَبوا على ربِّهم وكفروا به؛ ولكنَّهم أهل توسُّط واعتدالٍ فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوسطها”([1]).
وأهل السُّنة والجماعة وسطٌ بين الفرق في أبواب العقائد كلِّها، يقول ابن تيمية رحمه الله: “بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. فهم وسطٌ في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل (الجهمية) وبين أهل التمثيل (المشبهة)، وهم وسطٌ في باب أفعال الله تعالى بين القدريَّة والجبريَّة، وفي باب وعيد الله بين المرجئة وبين الوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب الإيمان والدِّين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهميَّة، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرَّوافض وبين الخوارج”([2]). فأهل السُّنة والجماعة وسطٌ في مسائل الدين، متَّبعون للكتاب والسنة، ومن المسائل التي توسَّطوا فيها: يوم عاشوراء.
عاشوراء وافتراقُ الطرق:
حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على صيام يوم عاشوراء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ فرأى اليهودَ تصومُ يومَ عاشوراء، فقال: «ما هذا؟»، قالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يومٌ نجَّى الله بني إسرائيل من عدوِّهم، فصامه موسى عليه السلام، قال: «فأنا أحقُّ بموسى منكم» فصامه وأمر بصيامه([3]). وعلى هذا تتابعَ الصَّحابة الكرام من بعده، تقول الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ رضي الله عنها: “فكنَّا نصومه بعد، ونصوِّم صبيانَنا، ونجعل لهم اللّعبةَ منَ العِهن، فإذا بكى أحدُهم على الطَّعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار”([4]).
وبقيَ الأمر كذلك حتى عهد يزيد بن معاوية حين حصلت الفاجعةُ الكبرى بمقتل الحسين رضي الله عنه سنة واحدٍ وستين([5])، وقد تلقَّت الأمةُ هذه الحادثةَ بالاستعظام والاستنكار والبراءة من قَتَلَة الحسين رضي الله عنه، إلا أنَّ هذه الحادثةَ صارت تكأةً لبعض الفرق فأحدثت البدعَ الكثيرة في هذا اليوم، وبقي أهلُ السنة والجماعة متمسِّكين بالوسطية والاعتدال فيه كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ضلَّت في هذا اليوم طائفتان، وهما:
1- الطائفة الأولى: من جعل هذا اليومَ يومَ حزنٍ ومأتمٍ ومسيرات من أجل الحُسين رضي الله عنه، وهم الشيعة، فقد أحدثوا في هذا اليوم كثيرًا من البدَع، ووضعوا فيه كثيرًا من الأحاديث كما يقول ابن كثير رحمه الله: “ولقد بالغ الشيعةُ في يوم عاشوراء، فوضَعوا أحاديثَ كثيرةً كذبًا فاحشًا من كون الشمس كسفَت يومئذٍ حتى بدت النُّجوم، وما رُفِع يومئذ حجرٌ إلا وُجِد تحته دمٌ، وأنَّ أرجاءَ السماء احمرَّت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدمُ، وصارت السماء كأنها علقَة، وأن الكواكب ضرب بعضُها بعضًا، وأمطرت السماء دمًا أحمرَ، وأن الحمرَةَ لم تكن في السماء قبل يومئذٍ، ونحو ذلك”([6]).
ومن مبالغاتِهم في ذلك اليومِ ذكرُهم الفضائلَ العظيمة في زيارة الحسين رضي الله عنه في يوم عاشوراء، من مثل قول بعضهم: “من زار قبرَ الحسين في يوم عاشوراء عارفًا بحقِّه كان كمن زار الله في عرشه“([7])، وقراءة هذا كافٍ في إبطاله؛ فإنه لا يتصوَّرُ من فيه مسكة عقلٍ أن يكون زيارة الحسين كزيارة الله في عرشه!! ومن مثل ما ينقلونه عن أبي جعفر: “من زار الحسين بن علي رضي الله عنهما في يوم عاشوراء من المحرم حتى يظلَّ عنده باكيًا لقي الله عز وجل يوم يلقاه بثوابِ ألفَي حجة، وألفي عمرة، وألفي غزوة، ثواب كل غزوة وحجة وعمرة كثواب من حج واعتمر وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الأئمة الراشدين”([8]).
فأخرجت الشيعة هذا اليومَ من كونه يوم شكرٍ لله إلى كونه متعلقًا بمقتل الحسين رضي الله عنه، وأخرجوه من كونه يومَ صيام إلى كونه يومَ حزنٍ ونواحٍ ولطم وصراخ وبكاء، وجرح للأجساد، وإسالة للدماء، وضربٍ للخدود، وشقٍّ للجيوب، وخروج للناس إلى الشوارع، وغير ذلك مما لم ينزل الله به من سلطان! واتَّخذ كثيرٌ منهم هذا اليوم ذريعة للتَّفريق بين المسلمين، وزرع الشِّقاق بينهم، بل ونشر الفوضى في الطرقات كما يحصل في كثير من الأماكن.
وليست هذه البدع وليدةَ اليوم، بل قد حكى ابن كثير طرفًا منها فقال: “وقد أسرف الرافضةُ في دولةِ بني بويه في حدود الأربعمئة وما حولها، فكانت الدبادِب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذرّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلَّق المسوح على الدَّكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثيرٌ منهم لا يشرب الماء ليلتئذٍ موافقةً للحسين لأنه قُتل عطشانًا، ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق، إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتائك المخترَعة، وإنَّما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنِّعوا على دولة بني أمية؛ لأنَّه قتل في دولتهم”([9]).
ويشير ابن رجب رحمه الله إلى نكارة هذا الفعل ومنافاته للعقل السليم، فإنَّنا لم نؤمر بفعل هذا بموت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بموت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهما عند الشيعة والسنة أفضل من الحسين رضي الله عنه بلا شك، يقول ابن رجب رحمه الله: “وأما اتِّخاذه مأتمًا كما تفعله الرَّافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنه فهو من عمل من ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنَّه يحسن صنعًا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائبِ الأنبياء وموتهم مأتمًا، فكيف بمن دونهم؟!”([10]).
فإقامة هذه المآتم فيه شقٌّ للصفِّ الإسلامي، وطعنٌ في الصحابة، وإظهارٌ للباطل، ومنافاة للعقل، يقول ابن تيمية رحمه الله: “كان ما زيَّنه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتمًا، وما يصنعون فيه من النَّدب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذبٌ كثير، والصِّدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتَّعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سبِّ السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا”([11]).
2- الطائفة الثانية: منِ اعتَبَر هذا اليوم عيدًا دينيًّا، ويحرصون على إظهار الفرح فيه، وتعطيل الأعمال وترك الوظائف، ومعلومٌ أنَّه ليس للمسلمين عيدٌ إلا عيد الفطر وعيد الأضحى، وإظهار الفرح في هذا اليوم هو ممَّا فعله النَّواصبُ مقابلَ ما أظهره الشيعة من حزنٍ ولطم، يقول ابن كثير رحمه الله: “وقد عاكس الرافضةَ والشيعةَ يوم عاشوراء النَّواصبُ من أهل الشَّام، فكانوا يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتَّخذون ذلك اليوم عيدًا يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم”([12]).
وهذا أيضًا ضلال؛ فلا يجوز مقابلة بدعة الشيعة ببدعةٍ أخرى كما يقول ابن تيمية رحمه الله مبينًا هذا المعنى: “وقومٌ من المتسنِّنة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة بنوا عليها ما جعلوه شعارًا في هذا اليوم، يعارضون به شعار ذلك القوم، فقابلوا باطلًا بباطل، وردوا بدعةً ببدعة، وإن كانت إحداهما أعظم في الفساد وأعون لأهل الإلحاد”([13]).
ومن مظاهر الفرح في هذا اليوم: تخصيصُه بالاكتحال والخضاب وإظهار الزينة، وكلُّ ذلك من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، يقول ابن تيمية رحمه الله مبينًا الأحاديث المكذوبة التي رويت في يوم عاشوراء: “مثل الحديث الطويل الذي روي فيه: (من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام)، وأمثال ذلك من الخضاب يوم عاشوراء والمصافحة فيه ونحو ذلك، فإن هذا الحديث ونحوه كذبٌ مختلقٌ باتفاق من يعرف علم الحديث… ولم يستحب أحدٌ من أئمَّة المسلمين الاغتسال يوم عاشوراء ولا الكحل فيه والخضاب وأمثال ذلك، ولا ذكره أحد من علماء المسلمين الذين يقتدى بهم”([14])، ويقول ابن الحاج: “ومن البدع التي أحدثها النساء فيه استعمال الحناء على كل حال، فمن لم يفعلها منهن فكأنها ما قامت بحقِّ عاشوراء”([15]).
أمَّا أهل السنة والجماعة فهم وسطٌ بين هؤلاء وهؤلاء، فيفعلون في يوم عاشوراء ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من صيامه شكرًا لله، ويبتعدون عن كل هذه البدع، وإن تذكَّروا مقتل الحسين رضي الله عنه في هذا اليوم فإنَّهم يقومون بذلك وفق السنة النبوية، فلا يلطمون، ولا يشقّون الجيوب، ولا يضربون الخدود، ولا يظهرون هذه البدع، وإنما يسترجعون كما أمر الله سبحانه وتعالى فيقولون: “إنَّا لله وإنا إليه راجعون”. يقول ابن تيمية رحمه الله: “وقد علم أنَّ المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد، فكان في محاسن الإسلام أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر مثل الأجر يوم أصيب بها المسلمون”([16]).
فالواجب على المسلم أن يكون وسطًا بين أهل البدع، متبعًا للكتاب والسُّنة، بل كان من مقاصد هذا اليوم أن يكون الإنسان متبعا لنهجٍ واحد هو نهج الأنبياء، يقول ابن تيمية رحمه الله بعد أن أورد بدع الشيعة والنَّواصب: “وهذه بدعة أصَّلها من المتعصبين بالباطل على الحسين رضي الله عنه، وتلك بدعةٌ أصَّلها من المتعصبين بالباطل له، وكلُّ بدعةٍ ضلالة، ولم يستحب أحد من أئمَّة المسلمين الأربعة وغيرهم لا هذا ولا هذا، ولا في شيء من استحباب ذلك حجة شرعية، بل المستحب يوم عاشوراء: الصيام عند جمهور العلماء”([17]).
فالواجب على المسلم في هذا اليوم أن يبتعد عن كل ما لم يأت به الشرع، وأن يتقيد بما جاء به، فيحقق الوسطية التي هي اتباع الكتاب والسنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) تفسير الطبري (2/ 627).
([2]) العقيدة الواسطية (ص: 82).
([3]) أخرجه البخاري (2004).
([4]) أخرجه البخاري (1960)، ومسلم (1136).
([5]) انظر: تاريخ الطبري (5/ 400)، والبداية والنهاية (8/ 186).
([6]) البداية والنهاية (8/ 219).
([7]) ينظر: مصباح المجتهد للطوسي (ص: 536).
([8]) ينظر: مصباح المجتهد (ص: 537).
([9]) البداية والنهاية (8/ 220).
([10]) لطائف المعارف (ص: 54).
([11]) الفتاوى الكبرى (1/ 201).
([12]) البداية والنهاية (8/ 220).
([13]) مجموع الفتاوى (4/ 513)
([14]) مجموع الفتاوى (4/ 513).
([15]) المدخل (1/ 291).
([16]) مجموع الفتاوى (4/ 512).
([17]) منهاج السنة النبوية (4/ 555).
المصدر مواقع سنة وشيعة
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).