و
قد جاء التصريح في نصوص كثيرة بهذا المعنى وهو تنزيل جبريل –عليه السلام
للقرآن – كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء].
قال
ابن كثير – رحمه الله – في قوله تبارك وتعالى: {نزلَ بِهِ الرُّوحُ
الأمِينُ}: وهو جبريل، عليه السلام، قاله غير واحد من السلف: ابن عباس،
ومحمد بن كعب، وقتادة، وعطية العوفي، والسدي، والضحاك، والزهري، وابن جريج.
وهذا ما لا نزاع فيه). اهـ.
ولذلك يقول أهل السنة في مصنفاتهم عن القرآن: (أنه كلام الله مُنَزّل غير مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعودُ).
5 – أنَّ القرآن نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
فظاهر
هذه الآية أن جبريل ألقى القرآن في قلب النَّبي صلى الله عليه وسلم من غير
سماع ولا قراءة، ونظيرها في ذلك قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين
على قَلْبِكَ} [ الشعراء: 193-194 ] الآية.
ولكنه
بينَّ سبحانه وتعالى في مواضع أُخر أن معنى ذلك: أنَّ الملك يقرؤه عليه
حتى يسمعه منه، فتصل معانيه إلى قلبه بعد سماعه، وذلك هو معنى تنزيله على
قلبه، وذلك كما في قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع
قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [ القيامة: 16-19 ]، وقوله:
{وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل
رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [ طه: 114 ].[1]
وخُصَّ القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم. [2]
6 – ذكر بعض صفات القرآن الواردة في الآيتين:
1 – أنه منزلٌ من عند الله تبارك وتعالى.
2 – أن جبريل نزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
3 – أن نزول جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإذن الله تبارك وتعالى.
لقوله: {بإذن الله} أي بعلمه، وإرادته، وتيسيره وتسهيله.
قال
الألوسي: {بِإِذُنِ الله} أي بأمره أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة
أو باختياره، أو بتيسيره وتسهيله، وأصل معنى الإذن في الشيء الإعلام
بإجازته والرخصة فيه. [3]
4 – أنه هدى وهداية.
5 – أنه بشرى للمؤمنين.
6 – أنه مصدق لما بين يديه.
فالقرآن مصدق لما في الكتب السابقة من نعت الرسول صلى الله عليه وسلم والبشارة به ومن التوحيد ووجوب الإسلام لله تعالى. [4]
7 – أنه توجد به أسماء أعجمية وهذا الوجود لبعض الكلمات الأعجمية لا يخرجه عن عربيته. لورود اسم جبريل، وميكائيل.
فـ (جبر) بمعنى: عبد.
و(إيل) بمعنى: الله. قاله ابن عباس وغيره من المفسرين.
ومما
ينبغي تقريره في هذه العجالة أنَّ وجود بعض الألفاظ الأعجمية في القرآن
محل نزاع بين أهل العلم – رحمهم الله – فمنهم من يجوزُّ ذلك ؛ لوقوعه،
ومنهم من يمنع منه ؛ لورود الآيات الواردة بأنَّ وصف القرآن بلسانٍ عربي،
أي: بلغة العرب.
وهذا صحيح من حيث الجملة، فالقرآن في الجملة هو بلغة العرب، كما دلت عليه الآيات المتكاثرة، فمن ذلك:
ولا
يُشكل على كون القرآن عربيًا وجود بعض الكلمات الأعجمية فيه، مثل:
المشكاة، والإستبرق، وجبريل وغيرها.... ؛ إذ يمكن حمل هذه الألفاظ التي
يقال: إنها أعجمية على واحدٍ من الوجوه الآتية:
الوجه الأول: أن هذه الألفاظ أصلها غير عربي ثم عربتها العرب واستعملتها؛ فصارت من لسانها وإن كان أصلها أعجميًا [5].
وقد
أفرد ابن دريد في كتابه "الجمهرة" بابًا بعنوان: ( باب ما تكلمت به العرب
من كلام العجم حتى صار كاللغة) ومما جاء فيه قوله:...فمما أخذوه من
الفارسية البستان والبهرجان إلخ... وعلى هذا، فاشتمال القرآن على ألفاظ
مأخوذة من اللغات الأخرى؛ كاشتماله على لفظ ( المشكاة) وهي لفظة هندية،
ومعناها: الكوة، وعلى لفظ ( القسطاس) وهي رومية، ومعناها: الميزان، وعلى
لفظ ( الإستبرق) وهي فارسية، ومعناها: الديباج الغليظ، وعلى لفظ ( سجيل)
وهي فارسية، ومعناها: الحجر من الطين، وغير ذلك من الكلمات؛ نقول: إن
اشتمال القرآن على أمثال هذه الكلمات، لا يخرجه عن كونه نزل {بلسان عربي
مبين} لأن هذه الألفاظ قد عُرِّبت، فصارت كلمات عربية، فيكون القرآن
مشتملاً على ألفاظ معربة، لا على ألفاظ غير عربية؛ فاللفظ المعرَّب عربي،
كاللفظ الذي وضعته العرب، سواءً بسواء.
الوجه
الثاني: أنَّ التوافق والتداخل والاشتراك بين اللغات في بعض الكلمات، أمر
شائع ومعروف ومألوف، وهو أمر قد قرره دارسو علم اللغات أنفسهم قديمًا
وحديثًا؛ فاللغة العبرية تشتمل على عدد غير قليل من الكلمات التي أصلها
عربي، ومع ذلك لا يقال عن الناطق بتلك اللغة: إنه لا يتكلم العبرية؛ وكذلك
الشأن في سائر وبقية اللغات.
ويقال لمن يشبه على أهل الإسلام بوجود مثل هذه الكلمات الأعجمية:
الوجه الثالث: واقع الشعر الجاهلي نفسه؛ فقد اشتمل هذا الشعر على ألفاظ معربة من قبل أن ينزل القرآن، مثل:
كلمة ( الجُمان) وهي الدرة المصوغة من الفضة، وأصل هذا اللفظ فارسي، ثم عُرِّب، وقد جاء في قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
وتضيء في وجه الظلام منيرة *** كجمانة البحري سلَّ نظامها
ومن
هذا القبيل أيضًا كلمة ( المهارق) جمع مهرق، وهي الخرقة المطلية المصقولة
للكتابة، وهو لفظ فارسي معرب، وقد جاء في قول الحارث بن حِلِّزة في معلقته:
حَذَرَ الجَوْرِ والتعدي وهل ينـ *** قض ما في المهارق الأهواء؟
ووجهٌ
رابعٌ: أن العرب الذين عاصروا نزول القرآن، وعارضوا دعوة الإسلام، لم
يُعرف منهم، ولم ينقل عنهم أنهم نفوا عن تلك الألفاظ أن تكون ألفاظًا
عربية، وهم كانوا أولى من غيرهم في نفي ذلك لو كان، وهم أجدر أن يعلموا ما
فيه من كلمات أعجمية لا يفهمونها، أو ليست من نسيج لسانهم العربي المبين.
وقد
أطلتُ في هذه الفائدة، لكثرة ما نسمعه من المسلمين من الأسئلة التي
يسألونها لأهل العلم، بسبب سماع شبهات أعداء الملة والدين، وبسببٍ آخر وهو:
عدم تعلم هذا الدين، وبسبب ثالث وهو: مجالسة ومخالطة الكفار. [6]
فعلى المسلم: أن يتعلم دينه، وهذا أمرٌ واجب لاسيما ما يتعلق بأمر عقيدته وعبادته ومعاملته من بيعٍ وشراء مما يتعامل بها.
[6]
- للاستزادة حول هذا الموضوع: معالم في أصول الفقه عند أهل السنة
والجماعة، للجيزاني صـ 103، بحث في الألفاظ الأعجمية في القرآن، للباحث:
عبد الأمير خادم علىزاده، مقدمات كتب التفسير، وكتب علوم القرآن.
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).