0

وهذا ما حرصت الصوفية كل الحرص على إيجاده, إيجاد مسلم خارج عن دائرة الوجود, ليس له علاقة بالحياة إلا ما يخصه فقط لا يسعى لعمل ولا تغيير ايجابي نافع.



لم يعرف الإسلام يوما ولم يطلب من المسلم أن يكون منزويا قاعدا سلبيا لا يحرك ساكنا إزاء الأحداث التي تواجهه في الحياة، ولم يكن أبدا مفهوم العمل للآخرة مضادا ولا مصادما للعمل الجاد والمثمر في أعمال الدنيا.
فالمسلم يرى الأمل ويزرعه دائما في أنفس من حوله ويقاوم دوما الفشل والإحباط في نفسه فضلا عن تصديره لغيره، ففي الحديث الشريف عنه "من قال هلك الناس فهو أهلكهم". [1]( فهو أهلكهم أي أشدهم هلاكاً).
والمسلم يتحلى دوما بحالة في نفسه تجعله مهمومًا بأمر نفسه وما يصلحها وبأمر دينه وقضاياه، ويرى دوما أنه مسئول عن هذا الهم أمام رب العالمين ويستشعر مسئوليته تجاه الآخرين ولا يألو جهدًا في أن يعمل لبلوغ هدفه وغايته، وذلك في كل أمر من أمور الدنيا من مولده وحتى وفاته تحقيقا لأمره صلى الله عليه وسلم "إذَا قَامَتْ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا" [2]
وينمي الإسلام شخصية المسلم فتجعلها تحمل معاني التجاوب والتفاعل والعطاء وتجعله دوما شخصا إيجابيا حيا متحركا متفاعلا مع كل وسط يحيا فيه، وفي المقابل يرفض الإسلام منه أن يكون متقوقعا منزويا، بليدا منغلقا خاملا كسولا، فالشخصية السلبية تدور حول نفسها فقط، اهتماماتها شخصية أنانية لا تبتعد عن الشهوات لا تمد يدها للآخرين ولا تسعى للترقي ولا لمعالي الأمور.
وهذا ما حرصت الصوفية كل الحرص على إيجاده، إيجاد مسلم خارج عن دائرة الوجود، ليس له علاقة بالحياة إلا ما يخصه فقط لا يسعى لعمل ولا تغيير ايجابي نافع.
وربما يفهم هذا منهم إذا كانت فلسفة ذاتية تخرج من مجموعة من المنسحبين من الحياة، وربما يتبعهم أناس يحبون أن يتبعوهم في هذه الآراء العجيبة الهادمة، فما أكثر الدعوات والنعرات في العالم وما أعجبها، ولكن أن يربط هذا الفهم بالإسلام وان يدعي هؤلاء إن هذا هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الخطأ بعينه والذي يجب وان يبين للناس كذب وتدليس هؤلاء على الإسلام وعلى مفاهيمه الصحيحة.
ولعل اخطر ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع هو بدايته حيث ينطلقون في هذا الكذب والافتراء على الإسلام من تقعيد وتأصيل فكرتهم الباطلة بتفسيرات ليس لها صحة لآيات من كتاب الله ولأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن كلماتهم وافتراءاتهم:
- فمن تفسيراتهم الغريبة والشاذة ما نقله السهروردي ما روي عن داود بن صالح أنه قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت الآية: {اصبروا وصبروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}. قلت: لا، قال: يا ابن أخي لم يكن في زمن رسول الله غزو يربط فيه الخيل ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة فالرباط لجهاد النفس والمقيم في الرباط مرابط مجاهد نفسه". [3]
- تفسيرهم لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[4] أن معناه مجاهدة النفس والهوى وذلك هو حق الجهاد، وهو الجهاد الأكبر على ما روي في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حين رجع من بعض غزواته: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" [5].
ويقول شيخ الإسلام "ابن تيمية" تعليقا على استشهادهم بهذا الحديث: أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، بل الواضح جداً من القرآن والمتواتر من السنة أن جهاد الكفار من أعظم القربات إلى الله تعالى، وأن الصحابة والتابعين في العصور الزاهرة التي شهد لها الرسول الكريم بالخيرية كانوا يتهافتون على القتال في سبيل الله ليحصلوا على إحدى الحسنيين إما الموت فالجنة، وإما النصر فالعزة والرفعة" [6].
صرف الناس عن الجهاد في سبيل الله، فينقل السهروردي في كتابه فيقول عجبا "قيل إن بعض الصالحين كتب إلى أخ له يستدعيه إلى الغزو فكتب إليه يا أخي كل الثغور مجتمعة لي في بيت واحد والباب علي مردود فكتب إليه أخوه لو كان الناس كلهم لزموا ما لزمته لاختلت أمور المسلمين وغلب الكفار فلا بد من الغزو والجهاد فكتب إليه يا أخي لو لزم الناس ما أنا عليه وقالوا في زواياهم وعلى سجادتهم الله أكبر لانهدم سور القسطنطينية" [7]
وهذا بعيد تماما عما جاء به الإسلام وعن فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج وعمل وجاهد في سبيل الله بلسانه ويده ولم يكتف كما يدعي هؤلاء بهذه الأذكار ويدعي أنها هي التي ستأتي وحدها وبهذا القعود بالنصر ولا حاجة للأمة في الجهاد.

وهكذا كان فعل زعماء الصوفية في كل وقت، فكانوا لا يلتفون للعمل والجهاد وانشغلوا فقط بما هم عليه وتركوا الأمة تصارع وحدها أزماتها ومشكلاتها وعظائم أمورها.
فأبو حامد الغزالي كتب في "إحياء علوم الدين" كل شئ عن التصوف وقرر أن طريقتهم من أنجح الطرق وأصلحها للوصول إلى ولاية الله ومرضاته وتكلم بإسهاب شديد عن طقوس المتصوفة المبتدعة ومع ذلك فإنه لم يتطرق ولو بسطر واحد للكلام على المصيبة التي أصيبت بها الأمة الإسلامية ألا وهو سقوط بيت المقدس في يد الصليبية فيقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمة الله عليه: (سقط بيت المقدس في يد الصليبيين عام (542 هـ) والغزالي الزعيم الصوفي الكبير على قيد الحياة فلم يحرك منه هذا الحادث الجلل شعوراً واحد ولم يجر قلمه بشيء ما عنه في كتبه لقد عاش الغزالي بعد ذلك (13) عاماً إذ مات سنة (505هـ) فما ذرف دمعه واحدة ولا استنهض همة مسلم ليذود عن الكعبة الأولى"[8]
وهذا ما قاله الدكتور زكي مبارك حيث قال بعد أن تحدث قليلاً عن الحروب الصليبية: "أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصليبية لتعرف أنه ما كان "بطرس الناسك" يقضي ليله ونهاره في إعداد الخطب، وتحبير الرسائل، يحث أهل أوروبا فيها على احتلال أقطار المسلمين، كان الغزالي حجة الإسلام غارقاً في خلوته منكباً على أوردة المبتدعة لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى" [9].
أما الدكتور عمر فروخ فقد التمس العذر في سكوته عما جرى في القدس قائلاً: "كان الصوفية يعتقدون بأن الحروب الصليبية كانت عقاباً للمسلمين على ما سلف لهم من الذنوب والمعاصي، ولعل الغزالي قد شارك سائر الصوفية في هذا الاعتقاد" [10]
ولم يختلف حال ابن عربي وابن الفارض وهما الزعيمان الكبيران للصوفية  عن حال الغزالي" فقد عاشا في عهد الحروب الصليبية فلم يسمع أحد عن واحد منهما أنه شارك في قتال أو دعا إلى قتال أو سجلا في شعرهما أو نثرهما آهة حسرة على الفواجع التي نزلت بالمسلمين، لقد كانا يقرران للناس أن الله هو عين كل شيء فليدع المسلمون الصليبيين فما هم إلا الذات الإلهية متجسدة في تلك الصور هذا حال أكبر زعماء التصوف وموقفهم من أعداء الله فهل كافحوا غاصباً أو طاغياً" [11]
"ولهذا لم يكن غريبا أبدا أن يجتمع زعماء الصوفية حين أقدم الفرنج على احتلال المنصورة لا لإعداد العدة وإعلان كلمة الجهاد ولكن لقراءة رسالة القشيري والمناقشة في كرامات الأولياء" [12]، وهذا ما فعلوه أيضا إبان غزو نابليون بونابرت لمصر عندما هرع الشيوخ إلى كتاب البخاري يلتمسون منه العون والمدد أمام مدافع الفرنسيين اقتحم الفرنسيون الأزهر بخيولهم عليهم جميعا.
ولقد علم المستعمر في كل وقت أن هذه البقايا من هذا الفكر الغريب على الإسلام هم أمله الوحيد في إبقاء المسلم مخدرا بعيدا عن واقعه وقضايا أمته، فدعموه بكل ما يمكنهم دعمه، فهذا القائم بالأعمال الأمريكي في السودان يرتدي زي أولاد الشيخ الكباشي ويقوم بعدة زيارات لعدد من الطرق الصوفية رافقه خلال أكثرها مسئولون سودانيون بارزون، وكذلك كان فرانسيس ريتشاردوني السفير الأسبق للولايات المتحدة بالقاهرة يواظب على حضور مولد الصوفي السيد أحمد البدوي بمدينة طنطا في وسط الدلتا بشمال مصر لمدة تسع سنوات متتالية، وغيرهم في كل بلد لعلمهم اليقيني أن بقاء هؤلاء هدم للشخصية للمسلمة وتحريف لها ودافعا لها على استمرار الخنوع والخضوع والسلبية والانعزال.
ـــــــــــــــــ
[1] (رواه مسلم عن أبي هريرة).
[2] صححه الألباني
[3] عوارف المعارف "2/55 الملحق بالإحياء ( ص82).لشهاب الدين عمر السهروردي
[4] [الحج: 78]
[5] أورَدَه أبو حامدٍ الغزالي في "الإحياء" 3/7، وقال الحافظ العراقي: أورَدَه البيهقي في "الزهد" من حديث جابرٍ وقال: هذا إسنادٌ فيه ضعف.وهو موضوع كما قرَّر شيخُ الإسلام
[6] انظر: "مجموع الفتاوى" 11/198.
[7] -( عوارف المعارف ص82) .
[8] كتاب هذه هي الصوفية للشيخ عبدالرحمن الوكيل
[9] الأخلاق عند الغزالي، ص 25.
[10] أبو حامد الغزالي والتصوف، للشيخ عبد الرحمن دمشقية، ص 352.
[11] هذه هي الصوفية للشيخ عبدالرحمن الوكيل ص 170".
[12] طبقات الشعراني (1/11)

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top