0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

سبب اختيار الموضوع:

نعيش هذه الأيام على عتبات عام جديد، وقريبا سيحل علينا شهر محرم الحرام، وفي هذا الشهر يكثر الحديث والنزاع بين الناس حول أمور ثلاثة: عاشوراء - الحسين – كربلاء. علاقة جدلية مستمرة منذ قرون، وباعتباري أحد المنشغلين المتابعين بالبحث عن أبعاد هذه العلاقة، وما ترتب عليها من آثار ضارة بكيان الأمة؛ أحببت أن أدلي بدلوي في تناول هذا الموضوع بفك رموز هذه العلاقة من منطلق قوله تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً))[النساء:59]، رغبة في التوصل إلى مراد الله، وسعياً للفوز برضاه، والله أسأل أن يوفق ويعين على تحقيق هذا المراد. والله أعلم.

محتويات المموضوع:

- المقدمة.

- أولاً: جدلية عاشوراء.

- ثانياً: جدلية الحسين عليه السلام.

- ثالثا: جدلية كربلاء.

- الخلاصة.

المقدمة:

إن الله سبحانه وتعالى خلق الزمان والمكان والناس والأحداث، واقتضت حكمته أن يفاضل بينها: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [القصص:68]، "هذه الآية فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع البريات، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه من الأشخاص، والأوامر [والأزمان] والأماكن، وأن أحداً ليس له من الأمر والاختيار شيء" [تفسير السعدي (1/ 622)]، ومن مفهوم هذه الأية ننطلق للبحث عن تفسير منطقي لما جري وما يجري من أحداث كان لها أكبر الأثر في ضعف الأمة وهوانها وتفرقها وتمزقها، ولنبدأ بطرح هذا التفسير بشكل تسلسلي زمني على النحو الآتي:

أولاً: جدلية عاشوراء:

عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرم الأصم. هذا الشهر الذي اختاره الله ليكون من الأشهر الأربعة الحرم؛ ففي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حَجِّتِه، فقال: «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر بين جمادى وشعبان»، [متفق عليه] قال الإمام القرطبي: "خص الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل الزمان، كما قال تعالى: ((فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ))[البقرة:197]، وعلى هذا أكثر أهل التأويل..."؛ فمن هذا يعلم أن شهر محرم شهر معظم عند الله وقد أضافه الله إليه، كما جاء في حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»، فقوله صلى الله عليه وسلم: «شهر الله»، فيه إضافة تشريف وتعظيم لهذا الشهر.

قال ابن رجب: "وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل؟ فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرم، ورجحه طائفة من المتأخرين".

ومن ضمن أيام هذا الشهر يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرم، وهذا اليوم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه «يَوْم مِنْ أيام اللهِ ...» [صحيح مسلم برقم: (2698)].

وهو يوم معظم عند أهل الجاهلية وعند اليهود، وسبب تعظيم اليهود له تخبرنا به الأحاديث الصحيحة: جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله فنحن نصومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه»، ولأحمد عن أبي هريرة نحوه وزاد فيه: «وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح شكراً»، فكان العمل الشرعي من أنبياء الله مقابل هذه النعمة هي صيام هذا اليوم، وزاد النبي صلى الله عليه وسلم يوماً آخر مخالفة لليهود، وتمييزاً لأمته عن أفعالهم. وهذا هو الدليل:

من كتب السنة: في الحديث المذكور قبل قليل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه» [متفق عليه].

من كتب الرافضة: يروى عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه أن علياً عليه السلام قال: "صوموا العاشوراء -هكذا- التاسع والعاشر فإنه يكفر ذنوب سنة" [أخرج الطوسي هذه الرواية في تهذيب الأحكام (4/ 299)، وفي الاستبصار (2/ 134)، وأخرجها الفيض الكاشاني في الوافي (7/ 13)، والحر العاملي في وسائل الشيعة (7/ 337)]، فهذا هو المندوب في هذا اليوم، والذي دلت عليه النصوص الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في كتب السنة وعن أئمة الرافضة من كتب الرافضة.

والسؤال الذي يطرح نفسه وهو موجه للشيعة قبل غيرهم: عظم الله يوم عاشوراء وجعله يوماً من أيامه لما جرى فيه من إحقاق الحق، ونصرة أهله، وإزهاق الباطل والانتقام من أهله، وشرع في مقابلة هذه النعمة الصيام، فصام موسى وصام محمد صلى الله عليه وسلم، وندب إلى صيامه؛ فهل كان الله سبحانه يعلم أنه في هذا اليوم سيقتل الحسين بن علي رضي الله عنه أم كان لا يعلم؟! أكيد أن جوابكم أن تقولوا: نعم كان يعلم؛ لأن الجواب بخلاف ذلك كفر.

وإذا كان الله يعلم أن الحسين عليه السلام سيقتل في يوم عاشوراء؛ فهل أخبر نبيه بذلك أم لم يخبره؟

فإن قلتم: لم يخبره. فقد كفيتمونا الجهد في البحث عن هذه المسألة؛ لأن الله إن لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم به فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعلم الغيب من تلقاء نفسه، إنما يعلم الغيب بتعليم الله له. وهذا يعد إثباتاً قوياً على سقوط كل ما يتعلق بهذه الحادثة، لكونه أمراً مبتدعاً لم يشرعه الله، ولم يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم.

وإن قلتم: أخبره. فبينوا لنا الدليل على ذلك؟ فإن قالوا: الأحاديث الصحيحة في كتب السنة تدل على ذلك، ومنها: ما جاء في حديث أم الفضل بنت الحارث [كما هو في المستدرك وصححه الألباني كما في صحيح الجامع حديث رقم: 61]: «أتاني جبريل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا –يعني: الحسين- وأتاني بتربة من تربة حمراء». قلنا: اتفقنا بأن الله أطلع نبيه على ما سيحدث للحسين بن علي من مصيبة، وأن الله كان يعلم مكان الحادث وزمانه، ويعلم أيضاً أنه سيجتمع للناس في هذا اليوم يوم عاشوراء مناسبتان وحدثان عظيمان أحدهما: نعمة بنجاة موسى وقومه من فرعون، والثاني: مصيبة وابتلاء بمقتل الإمام الحسين عليه السلام.

وقد بينا سابقاً كيف أنه شُرع لنا الصيام تعبيراً عن الشكر لله على ما أنعم من نصرة الحق وهزيمة الباطل، فبينوا لنا: هل جاء في شرع الله وعلى لسان رسوله ما يوضح لنا كيفية مواجهة هذه المصيبة؟! هل بالبكاء والنحيب والصياح والصراخ والتعطش والحزن والتفجع، ولبس السواد وضرب القامات وشق الجيوب وإسالة الدماء، وزيارة قبر الحسين، وغير ذلك من الأمور المنكرة المحدثة، التي تفعلونها والتي لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا أحد من السلف، لا من أهل البيت ولا من غيرهم.. أليس الأولى بنا أن نتبع ما أمرنا به، ونحقق مراد الله في المصيبة كما حققناه في النعمة، فالله قضى وأراد أن يبتلي الأمة بهذه المصيبة، لينظر ماذا سنعمل في مقابلتها؟ والواجب أن تتلقى بما تتلقى به المصائب من الاسترجاع المشروع، والصبر الجميل، دون الجزع والتفجع، وتعذيب النفوس، وإحياء العدوات، وتهييج العامة للوقيعة بالصحابة الكرام، واستنفار عزائمهم لأخذ الثأر من كل أهل السنة.. وأموراً أخرى مما لا يريده الله ولا رسوله، ولم يأمر به الله ولا رسوله، بل كرهه ونهى عنه، كما تدل عليه النصوص الآتية:

يقول سبحانه وتعالى: ((وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ))[البقرة:155-157].

وذكر في نهج البلاغة: "وقال علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً إياه صلى الله عليه وسلم: "لولا أنك نهيت عن الجزع، وأمرت بالصبر لأنفدنا عليك ماء الشؤون" [نهج البلاغة: (ص576)].

وذكر أيضاً: "أن علياً عليه السلام قال: من ضرب يده عند مصيبة على فخذه فقد حبط عمله" [الخصال: للصدوق (ص621)، وسائل الشيعة: (3/ 270)].

وقد قال الحسين لأخته زينب في كربلاء [كما نقله صاحب (منتهى الآمال) بالفارسية، وترجمته بالعربية(1/ 248)]: "يا أختي! أحلفك بالله عليك أن تحافظي على هذا الحلف، إذا قتلت فلا تشقي عليّ الجيب، ولا تخمشي وجهك بأظفارك، ولا تنادي بالويل والثبور على شهادتي".

ونقل أبو جعفر القمي أن أمير المؤمنين عليه السلام قال فيما علم به أصحابه: "لا تلبسوا سواداً فإنه لباس فرعون" [من لا يحضره الفقيه: ابن بابويه القمي (1/ 232)، وسائل الشيعة للحر العاملي: (2/ 916)].

وقد ورد في (تفسير الصافي) في تفسير آية: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12]: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء على أن لا يسوِّدْن ثوباً، ولا يشققن جيباً، وأن لا ينادين بالويل".

وفي (فروع الكافي) للكليني: "أنه صلى الله عليه وسلم وصى فاطمة رضي الله عنها فقال: "إذا أنا مت فلا تخمشي وجهاً، ولا ترخي عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليَّ نائحة" (5/527).

وهذا شيخ الشيعة محمد بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق يقول: "من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي لم يسبق إليها: «النياحة من عمل الجاهلية» [من لا يحضره الفقيه: (4/ 271)، وسائل الشيعة: (2/ 915)].

كما يروي علماؤهم المجلسي والنوري والبروجردي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "صوتان ملعونان يبغضهما الله: إعوال عند مصيبة، وصوت عند نغمة؛ يعني النوح والغناء" [بحار الأنوار للمجلسي: (82/ 103)، من لا يحضره الفقيه: (2/ 271)].

ويحق للقارئ بعد كل هذه الروايات أن يتعجب من اتباع الروافض لمرادتهم وأهوائهم حتى ولو كانت مخالفة لمراد الله ورسوله ومرادات أئمة أهل البيت.

ثانياً: جدلية الحسين بن علي رضي الله عنه:

لا يحتاج الحسين بن علي إلى تعريف، ويكفيه أنه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته من الدنيا، وأن رسول الله كان يحبه، فمحبته واجبة، والحزن على ما أصابه وبغض من قتلوه ونالوا منه دليل على المحبة.

اختاره الله ليكون من هذه السلالة الطاهرة، وأكرمه بهذا البلاء ليرفع من منزلته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أكرمه الله بالشهادة، وأهان بذلك من قتله، أو أعان على قتله، أو رضي بقتله، وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء، فإنه وأخوة سيدا شباب الجنة، وقد كانا قد تربيا في عز الاسلام لم ينالا من الهجرة والجهاد والصبر والأذى في الله ما ناله أهل بيته، فأكرمهما الله بالشهادة تكميلاً لكرامتهما، ورفعاً لدرجاتهما، وقتله مصيبة عظيمة، والله سبحانه وتعالى قد شرع الاسترجاع عند المصيبة بقوله تعالى: ((وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ))[البقرة:155-157] [مجموع الفتاوى (4/ 511)].

وقال أيضاً في رده على أسئلة الوزير المغولي: "وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضى بذلك، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صَرْفًا ولا عَدْلًا. قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت: محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغَدِير يدعى خمّا، بين مكة والمدينة فقال: «أيها الناس! إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه. فذكر كتاب اللّه وحض عليه، ثم قال: وعِتْرَتِي أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي». قلت لمقدم: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". قال مقدم: فمن يبغض أهل البيت؟ قلت: من أبغضهم فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صرفًا ولا عدلا. ثم قلت للوزير المغولي: لأي شىء قال عن يزيد وهذا تتريٌ؟ قال: قد قالوا له: إن أهل دمشق نواصب، قلت بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة اللّه، واللّه ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيًا، ولو تنقص أحد علياً بدمشق لقام المسلمون عليه، لكن كان قديمًا لما كان بنو أمية ولاة البلاد بعض بني أمية ينصب العداوة لعليّ ويسبه، وأما اليوم فما بقى من أولئك أحد" [مجموع الفتاوى (9/ 68)].

فهذا هو ملخص ما يعتقده أهل السنة في الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه، وهو موافق -إن شاء الله- لما أراده الله ورضيه، لكن الرافضة خالفوا مراد الله في هذا الأمر، ومن ذلك الكذب عليه.

وأما الحسين فلم يكن أسعد من أخيه وأمه وأبيه حظاً، مع إظهار مغالاة القوم ومبالغتهم في حبه وولائه، فأهانوه رضي الله عنه وأرضاه قولاً وفعلاً، فقالوا: إن أمه فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهت حمله، وردت بشارة ولادته عدة مرات كما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقبل بشارة ولادته، ووضعته فاطمة كرهاً، ولكراهة أمه لم يرضع الحسين من فاطمة رضي الله عنهما. وهذه الروايات من أهم كتب الحديث عند القوم، وأصحها مثل البخاري عند السنة، فيروي الكليني عن جعفر أنه قال: "جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن فاطمة عليها السلام ستلد غلاماً تقتله أمتك من بعدك"، فلما حملت فاطمة بالحسين عليه السلام كرهت حمله، وحين وضعته كرهت وضعه، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: "لم تر في الدنيا أماً تلد غلاماً تكرهه، ولكنها كرهته لما علمت أنه سيقتل، قال: وفيه نزلت هذه الآية: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا))[الأحقاف:15] [الأصول من الكافي، كتاب الحجة (1/ 464)، باب مولد الحسين].

وإهانته وأية إهانة؟ وإساءة وأية إساءة؟ وكذب وما أكبره؟ "ولم يرضع الحسين من فاطمة عليها السلام، ولا من أنثى كان يؤتى بها النبي، فيضع إبهامه في فيه فيمص منها ما يكفيه اليومين والثلاث" [الأصول من الكافي (ص465)].

المغالاة فيه: حيث جعلوا مقامه أعلى من مقام أبيه وأخيه الحسن، حيث أنّ من سبق قتلوا أيضاً، فالإمام علي قتله الخوارج، والإمام الحسن يزعمون أنه قتل بالسم بمؤامرة من معاوية، فلماذا لا يبكون عليهما.. بل إن الإمام الحسن، وإن كانوا يعدونه الإمام الثاني، ويعد معصوماً عندهم وأمره من أمر الله، إلا أنهم خالفوا أمره، وأهانوه، وخذلوه، وحاولوا قتله، وهذه شهادة كتب الرافضة بذلك: "فقد طعنه رجل من بني أسد الجراح بن سنان في فخذه، فشقه حتى بلغ العظم ... وحمل الحسن على سرير إلى المدائن ... اشتغل بمعالجة جرحه، وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة سراً، واستحثوه على سرعة المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن إليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به، وبلغ الحسين عليه السلام ذلك ... فازدادت بصيرة الحسن عليه السلام بخذلانهم له، وفساد نيات المحكمة فيه وما أظهروه له من سبه وتكفيره، واستحلال دمه، ونهب أمواله" [كشف الغمة (ص:540، 541)، واللفظ له، الإرشاد (ص:190)، الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة (ص:162) ط طهران].

ويثبت هذه الواقعة شيخهم المفيد فيقول: "شدوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله الجعال الأزدي، فنزع مطرفة عن عاتقه، فبقى جالساً متقلداً السيف بغير رداء" [الإرشاد (ص:190)].

هذا وكانوا يهينونه بلسانهم كما كانوا يؤذونه بأيديهم، ولقد ذكر الكشي عن أبي جعفر أنه قال: "جاء رجل من أصحاب الحسن عليه السلام يقال له سفيان بن أبي ليلى وهو على راحلة له، فدخل على الحسن عليه السلام وهو مختب في فناء داره، فقال له: السلام عليك يا مذل المؤمنين! قال: وما علمك بذلك؟ قال: عمدت إلى أمر الأمة فخلعته من عنقك وقلدته هذه الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله" [رجال الكشي (ص:103)].

"ولما بايَع الحسَن معاويه: جاء الشيعه للحسن فقالوا له: أذللت رقابنا لما سلّمت الأمر لطاغيَه" [الاحتجاج للطبرسي (2/ 10)].

ثم بين الحسن وأوضح ما فعلت به شيعته وشيعة أبيه، وما قدمت إليه من الإساءات والإهانات، وأظهر القول وجهر به، فقال: أرى والله معاوية خير إلي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وأخذوا مالي. والله! لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي! والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلماً! والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، ويمن عليّ فيكون سنة على بني هاشم آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحى منا والميت" [الاحتجاج للطبرسي (ص:148)].

وأهانوه أيضاً حيث قطعوا الإمامة من عقبه وأولاده، بل أفتوا بكفر كل من يدعي الإمامة من ولده بعده، ولا يستغرب منهم أن يفضلوه على أخيه وأبيه، فقد بلغ بهم غلوهم إلى تفضيله على سائر الأنبياء والمرسلين عدا النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يبرر تقديم مناسبة مصيبة، على مناسبة نجاة موسى عليه السلام، كما يعتقدون فيه بأنه يعلم الغيب، وأنّ أمور الخلق بيده وأنه وجه الله، ولن أتعرض بالتفصيل لهذه القضايا بل سأذكر مثالاً واحداً على هذا الغلو:

الغلو في ثواب زيارة قبره: حيث تقول روايتهم: "كان الحسين عليه السلام ذات يوم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلاعبه ويضاحكه، وإن عائشة قالت: يا رسول الله ما أشد إعجابك بهذا الصبي! فقال لها: وكيف لا أحبه وأعجب به وهو ثمرة فؤادي، وقرة عيني، أما إن أمتي ستقتله؛ فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حجة من حججي، قالت: يا رسول الله حجة من حججك؟! قال: نعم وحجتين، قالت: حجتين؟ قال: نعم وأربعًا. فلم تزل تزاده وهو يزيد حتى بلغ سبعين حجة من حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعمارها" [وسائل الشيعة: (10/ 351-352)].

وتذهب رواية أخرى إلى أن: "من زار قبر أبي عبد الله كتب الله له ثمانين حجة مبرورة" [ثواب الأعمال (ص:52)، كامل الزيارات (ص:162)، وسائل الشيعة (10/ 350)].

وتزيد رواية أخرى على ذلك فتقول: "من أتى قبر الحسين عليه السّلام عارفًا بحقّه كان كمن حجّ مائة حجّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" [ثواب الأعمال (ص:52)، وسائل الشّيعة (10/ 350)].

وتتنافس رواياتهم في المبالغة في الأعداد لتتجاوز المئات إلى مرحلة الآلاف، وتتجاوز ذلك إلى ذكر أصناف من الثواب والأجر، وكأن الدين هو مجرد زيارة قبر، والوقوف على ضريح، فقد جاء في (وسائل الشيعة) وغيره عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر قال: "لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقًا، وتقطعت أنفسهم عليه حسرات، قلت: وما فيه؟ قال: من زاره تشوقًا إليه كتب الله له ألف حجّة متقبّلة، وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظًا سنته من كلّ آفة أهونها الشيطان، ووكل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدمه، فإن مات سنته حضرته ملائكة الرّحمن يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويؤمنه الله من ضغطة القبر، ومن منكر ونكير يروعانه، ويفتح له باب إلى الجنة، ويعطى كتابه بيمينه ويعطى له يوم القيامة نور يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي مناد هذا من زار الحسين شوقًا إليه، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنّى يومئذ أنّه كان من زوّار الحسين عليه السّلام" [كامل الزّيارات (ص:143)، وسائل الشّيعة (1/ 353)، بحار الأنوار (101/ 18)].

وفي رواية أخرى: "إن الرجل منكم ليغتسل في الفرات، ثم يأتي قبر الحسين عارفًا بحقه فيعطيه الله بكل قدم يرفعها أو يضعها مائة حجة مقبولة، ومائة عمرة مبرورة، مائة غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل" [وسائل الشيعة (10/379)، كامل الزيارات (ص:185)].

"من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء حتى يظل عنده باكيًا لقي الله عز وجل يوم القيامة بثواب ألفي ألف حجة، وألفي ألف عمرة، وألفي ألف غزوة، وثواب كل حجة وعمرة وغزوة كثواب من حج واعتمر وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع الأئمة الراشدين صلوات الله عليهم.." [بحار الأنوار (101/290)، كامل الزيارات (ص:176) ما بعدها].

ثم ذكرت الرواية: أن هذا الفضل كله يحصل أيضًا لمن لم يستطع زيارة قبره في هذا اليوم، ولكن صعد على سطح داره، وأومأ إليه بالسلام، ثم دعا على قاتله، وندب الحسين وبكاه ولم ينتشر في يومه هذا في حاجة [بحار الأنوار (101/ 290)، كامل الزيارات (ص:176)].

تناقض: وكما هي عادة القوم يرون الأمر وضده، فقد ثبت في كتبهم ما ينقض هذه الروايات، ومن ذلك على سبيل المثال ما ثبت في بحار الأنوار (35/101)، عن حنَّان: قلتُ لأبي عبد الله: "ما تقول في زيارة قبر الحسين صلوات الله عليه؛ فإنه بلغنا عن بعضكم أنه قال: تعدل حجة وعمرة؟ قال فقال: ما أضعف هذا الحديث, ما تعدل هذا كلَّه, ولكن زوروه ولا تجفوه, فإنه سَيِّدُ شباب أهل الجنة".

عداوتهم له: هذا ومع زعمهم محبته إلا أنهم أظهروا له من الكيد والخذلان ما أقرت به كتبهم فضلاً عن كتب غيرهم، وسقوه من نفس الكأس الذي أسقوه لأخيه الحسن، وأبيه الإمام علي رضي الله عنهم أجمعين من قبل، فلقد ذكر جميع مؤرخي الشيعة أن أهل الكوفة، التي كان مركزاً للشيعة، والتي قالوا فيها ما قالوا، وإن جعفراً ذكرها بقوله: "إن ولايتنا عرضت على السموات والأرض والجبال والأمصار، ما قبلها قبول أهل الكوفة" بصائر الدرجات للصفار" الجزء الثاني الباب العاشر. والتي قالوا فيها: إن الله قد اختار من البلدان أربعة فقال: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ *وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ))[التين:1-3]، فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سيناء الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة" [مقدمة البرهان (ص:223)].

فبعد موت الإمام الحسن رضي الله عنه كتب شيعة الكوفة كتباً إلى الحسين نحواً من مائة وخمسين كتاباً، كتبوا فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم! للحسين بن عليّ أمير المؤمنين من شيعته وشيعة أبيه عليّ أمير المؤمنين. سلام الله عليك، أما بعد: فإن الناس منتظروك، ولا رأي لهم غيرك فالعجل! العجل! يا ابن رسول الله! والسلام عليكم ورحمة الله" [كشف الغمة (2/ 32)، واللفظ له، الإرشاد (ص:203)، الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة (ص:182)].

وكتاباً آخر: "أما بعد: فقد اخضرت الجنات، وأينعت الثمار، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة، والسلام" [الإرشاد للمفيد (ص:203)، أيضاً إعلام الورى للطبرسي (ص:223) واللفظ له].

ولما تتابعت إليه كتب الشيعة، وتوالى الرسل أرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، فانثل عليه أهل الكوفة "واجتمعوا حوله، فبايعوه وهم يبكون، وتجاوز عددهم من ثمانية عشر ألف" [الإرشاد للمفيد (ص:205)].

وبعد أيام كتب إليه مسلم بن عقيل: "إن لك مائة ألف سيف ولا تتأخر" [الإرشاد للمفيد (ص:220)].

فكتب رداً عليه وعليهم: "قد شخصت من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم، وجدوا فإنى قادم إليكم" [الإرشاد للمفيد (ص:220)].

ولكن انقلبت الأمور وتقلبت الشيعة كشأنهم ودأبهم سابقاً، وقتل مسلم بن عقيل بدون ناصر ومعين، ولما بلغ الحسين نعيه وواجهه عسكر بن زياد من الكوفة، و"خرج إليهم في إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إني لم آتكم حتى أتتنى كتبكم أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق؛ فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا، وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذى جئت منه إليكم" [الإرشاد (ص:224)].

ثم خذلوه، وأعرضوا عنه، وأسلموه للعدو حتى قتل في نفر من أهل بيته ورفاقه، كما يذكر محسن الأمين: "ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه. وبيعته في أعناقهم، وقتلوه" [أعيان الشيعة - القسم الأول (ص:34)].

والمعروف تاريخياً أنّ من تولى قتل الإمام الحسين وكان من أشد الناس تحريضاً على قتله هو "الشّمر بن ذي الجوشن"، وهذا الخبيث كان شيعياً يقاتل مع علي في صفّين، كما تحكي كتب التاريخ [تاريخ الطبري (3/ 91)، وسفينة البحار للقمّي (4/ 492)].

ويكتب اليعقوبي الشيعي: أن أهل الكوفة لما قتلوه: "انتهبوا مضاربه، وابتزوا حرمه، وحملوهن إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا، فمن قتلنا؟!" [تاريخ اليعقوبي (1/ 235)].

فهؤلاء هم الشيعة، وأولئك أهل البيت، وهذه معاملاتهم وأحوالهم مع أهل البيت الذين يدعون أنهم محبون وموالون لهم.

ثالثاً: جدلية كربلاء:

وكما قلنا -سابقاً- وعلى نفس المنوال؛ فإن الله بمطلق مشيئته جعل مكة المكرمة هي أفضل بقاع الأرض، قبلة المسلمين، وأقدس مقدساتهم، مهوى أفئدة المسلمين، الذي لا يشرع الطواف إلا به، والذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، ملتقى المسلمين العام، وقبلتهم التي يتجهون إليها جميعًا، وواجب على أهله والوافدين إليه أن يعرفوا قدره، وأن يعرفوا فضله، حتى لا يقعوا فيما حرم الله. قال الله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتِ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وهدى للعالمين * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً))[آل عمران:96-97]، والحمد لله الذي قال أيضاً في كتابه: ((جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ))[المائدة:97]، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منكِ ما خرجت» [المستدرك وقال على شرط البخاري ومسلم ووافقه الذهبي].

فهذا هو مراد الله في اختيار مكة وجعلها أفضل بقاع الأرض، وبين الواجب نحوها فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ))[الحج:25]، لكن الرافضة خالفوا مراد الله في هذا الأمر -كما هي عادتهم- فزعموا أن كربلاء هي أفضل من الكعبة المشرفة، بل زعموا ذلك في جميع قبور أئمتهم، فجعلوا كربلاء حرمًا مقدسًا؛ والكوفة حرم، وقُمّ حرم، وغيرها، جاء في رواياتهم: "إنّ الكوفة حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أمير المؤمنين، وإنّ الصّلاة فيها بألف صلاة والدّرهم بألف درهم" [الوافي - باب فضل الكوفة ومساجدها، المجلّد الثّاني (8/ 215)]. وقال علي بن الحسن -كما يفترون عليه-: "اتّخذ الله أرض كربلاء حرمًا آمنًا مباركًا قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرمًا بأربعة وعشرين ألف عام، وقدّسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدّسة مباركة ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنّة، وأفضل منزل ومسكن يسكن فيه أولياءه في الجنّة" [بحار الأنوار (101/107)]، وتقديسهم لأرض كربلاء لأنه ضمت جسد الحسين فاستمدت قداستها بوجوده فيها؛ فهل كان الحسين مدفونًا فيها قبل خلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، أو هي معدة لاستقباله منذ غابر الأزمان؟! وإذا كان كل هذا الفضل بوجود جسد الحسين فلماذا لم تفضل المدينة وفيها جسد رسول الله؟! إن هذا تناقض في بنية المذهب، وهو يكشف أنه ليس الهدف تقديس الحسين، ولكن الكيد للأمة ودينها.

وقد جاءت روايات كثيرة عندهم تفضل كربلاء على بيت الله. فتتحدث بعض هذه الأساطير عن محاورة جرت بين كربلاء والكعبة يتبين منها أن هؤلاء الوضاعين لا عقل عندهم فضلاً عن الدين، فيرون عن جعفر الصادق -كذبا عليه-: "إن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بني بيت الله على ظهري يأتيني الناس من كل فجر عميق وجعلت حرم الله وأمنه. فأوحى الله إليها - كما يفترون- أن كفي وقرّي ما فضل ما فضّلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من تضمنه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقرِّي واستقري وكوني ذنبًا متواضعًا ذليلاً مهينًا غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم" [كامل الزيارات (ص270)، بحار الأنوار (101/ 109)].

ولكن الكعبة لم تأخذ بالنصيحة كما تقول روايات الشيعة!! فلم تتواضع لأرض كربلاء، وتصبح كالذنب الذليل المهين لها، فحلت بها العقوبة، بل إن العقوبة - كما يقولون - وقعت على كل ماء وأرض ما عدا كربلاء، قالوا في رواياتهم: ".. فما من ماء ولا أرض إلا عوقبت لترك التواضع لله، حتى سلط الله على الكعبة المشركين، وأرسل إلى زمزم ماء مالحًا حتى أفسد طعمه.." [كامل الزيارات (ص:270)، بحار الأنوار (101/ 109)].

أما كربلاء فقد نجت من العقوبة على الرغم أنها افتخرت وقالت: "أنا أرض الله المقدسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي ولا فخر.." [كامل الزيارات (ص:270)، بحار الأنوار (101/ 109)]. هذا الغلو حملهم على تأويل القرآن على غير مراد الله.. بل وفقاً لمراداتهم، فقالوا في قوله سبحانه: ((فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ))[القصص:30] هي كربلاء [ابن قولويه: كامل الزيارات (ص:48-49)، البرهان (3/ 336)، مرآة الأنوار (ص:99)].

ومن غلوهم في كربلاء وقبر الحسين فيها، فقد زعموا أن زوار قبر الحسين تأتيهم الملائكة ويناجيهم الله، فرووا كذباً عن جعفر الصادق أنه قال: "من خرج من منزله يريد زيارة الحسين كتب الله له بكلّ خطوة حسنة.. إلى أن قال: وإذا قضى مناسكه أتاه ملك فقال له: أنا رسول الله! ربّك يقرئك السّلام، ويقول لك: استأنف فقد غفر لك ما مضى" [الطّوسي: تهذيب التّهذيب (2/ 14)، ابن قولويه: كامل الزّيارات (ص:132)، ثواب الأعمال (ص:51)، وسائل الشّيعة (10/ 341-342)].

فالملائكة تقابل زوار القبر، وتبلغهم سلام الله، وتوزع عليهم صكوك الغفران!! هذه دعاوى فوق الجنون بدرجات، وأعظم منها وأكبر جرأتهم على القول بأن الله يناجي زوار الحسين، قالت رواياتهم: ".. فإذا أتاه (يعني: أتى الزّائر قبر الحسين) ناجاه الله فقال: عبدي، سلني أعطك، ادعني أجبك" [كامل الزّيارات (ص:132)، وسائل الشّيعة (10/ 342)].

وهكذا يفترون الكذب على الله، ولم يكتفوا بذلك كعادتهم في الغلو والمبالغة، بل زعموا أن الله - تعالى عما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا - يزور قبور الأئمة مع الشيعة، ففي البحار للمجلسي: "إنّ قبر أمير المؤمنين يزوره الله مع الملائكة ويزوره الأنبياء ويزوره المؤمنون" [بحار الأنوار (100/ 258)]، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وتسطرها أقلامهم، إن يقولون إلا كذبًا.

هذا جزء مما يدعونه حول كربلاء، وجمعه كله وتحليله يستغرق مؤلفًا خاصًا، وهي كلمة لا يمكن أن تخضع للمناقشة بالعقل والمنطق؛ فهي من جنس هذيان المحمومين وكلمات المجانين، ولو لم أجدها في كتبهم المعتمدة، وبروايات عديدة لما أثبتها، فلماذا هذا الغلو وما الهدف منه؟ تكاد بعض رواياتهم تصرح بالهدف، فهذا جعفرهم يقول: "لو أنّي حدّثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره لتركتم الحجّ رأسًا وما حجّ منكم أحد، ويحك أما علمت أنّ الله اتّخذ كربلاء حرمًا آمنًا مباركًا قبل أن يتّخذ مكّة حرمًا.." [بحار الأنوار (101/ 33)، كامل الزّيارات (ص:266)].

وقال: "إنّ الله يبدأ بالنّظر إلى زوّار قبر الحسين بن علي عشيّة عرفة قبل نظره إلى أهل الموقف"، (قال الراوي: وكيف ذلك؟) قال أبو عبد الله -كما يزعمون-: لأنّ في أولئك أولاد زنا وليس في هؤلاء أولاد زنا [الفيض الكاشاني – الوافي - المجلّد الثّاني (8/ 222)].

أليس في هذه الروايات مخالفات صريحة لمراد الله، فالله عظم شأن مكة، وأمر الناس بتعظيمها والحج إليها، فأبى الروافض ذلك وعظموا كربلاء، وعظموها أعظم من تعظيمهم لمكة، وأرادوا صرف الناس إلى الحج إليها.

الخلاصة:

رأينا من خلال هذا البحث المتواضع: أن جدلية العلاقة بين محاور (الحسين - عاشوراء – كربلاء) هي جدلية فرضها على واقع الأمة، حالة نفسية متأزمة، يحملها روافض فارس ضد كل ما هو إسلامي، فعبروا عن هذه الحالة بعقائد فاسدة يبنون بعضها على بعض، ويربطون بعضها ببعض ثم ينفثون عليها كثيراً من غلوهم وكذبهم وبهتانهم وتزويرهم، يغلب عليه عدم الترابط وعدم التناسق، مما يسهل فك عقده بأبسط جهد، ذلك أن حبل الكذب قصير كما يقولون؛ فأنت ترى كيف أنهم بدأوا بالغلو بالإمام الحسين بشخصه حتى قدموه على أبيه وأخيه وهما خير منه.. بل وعلى جميع الأنبياء، وخلعوا له من الأوصاف ما لا يليق إلا بالله. وجرهم غلوهم بشخصه أن غلو في اليوم الذي قتل فيه والتربة التي ضمت جسده بصورة تظهر مدى مخالفتهم لأوامر الله وتوجيهات رسوله، بل وحتى ما ورد عندهم من أقوال أئمتهم، بل ومخالفين في ذلك أمة محمد قاطبة فما وجدنا أحداً من هذه الأمة يفعل كفعلهم في أيام موت أو قتل من هو أعظم وأفضل منه، ولا يعظمون تربته كما يفعلون، فقد قتل أنبياء وقتل كبار الصحابة كحمزة وعمر وغيرهم بل قتل إمامهم الأول وسمّ أمامهم الثاني وقتل كثير من أولاد الإمام علي وأولاد الحسين في كربلاء، فلماذا إلا الحسين؟ لقد اتضح من خلال البحث أن الهدف من اختيار الحسين هو الاستفادة من الحدث التاريخي الذي ابتلى الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كشعار إعلامي يستعطفون به عوام الناس وجهالهم، بدعوى التكليف بالثأر ممن قتلوه، ويرسمون في مخيلة من يسلمون لهم عقولهم أطراف النزاع على أساس قاعدة كاذبة ظالمة "كل شيعي حسين، وكل سني يزيد بن معاوية".

والحقيقة كما بدت من خلال أسطر هذا البحث: أن الروافض اتخذوا من دعوى محبة الحسين رضي الله عنه وسيلة للحرب على الإسلام وأهله، أثبتنا ذلك من خلال مثالين تطبيقين:

عاشوراء وطقوسهم فيه وعن كربلاء، والأذان في الناس بالحج إليه. توصلنا من خلال هذين المثالين إلى الأهداف الحقيقية للقوم وهي الطعن في الإسلام والعداوة للمسلمين؛ فهل يفهم ذلك من لا يزالون معجبون بمثل هذه الشعارات، ويدركوا واقعهم ويفطنوا لمؤامرات أعدائهم؟! أسأل الله أن يكون ذلك. والله الموفق.

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top