ثلاثُ مِلل من كثيرٍ من الأُمم تكالبت على قصعةِ المسلمين، تنهَش في لحومهم، وتهزأ
بأعراضهم، وتحرِق قرآنهم، في حقْد دفين، وغلٍّ لعين، وإفكٍ مبين، قد يكون
للتسلية، وقد يكون للانتقام، وقد يكون لصَرْف المسلمين عن قضاياهم الكبرى.
لكن لا شكَّ أنَّه حقدٌ ممنهَج، وغلٌّ مبرمَج، وإفك مخطَّط ومهدف ومسْرج، من لدُن آدم - عليه السلام - وحتَّى قيام الساعة من (اليهود، والنَّصارى، والرافضة) ما صَنعوه بالأمس هو هو ما فَعلوه اليوم، وكل يوم، كيف؟!
لا يحبُّون لهَدْي الإسلام أن يصل، ولا يُريدون لصوت القرآن أن يُسمع؛ ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26].
لا يُحبُّون للمسلم أن يسعدَ، ولا يريدون للخير أن ينزل؛ ﴿ مَّا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ
أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105].
لا يُحبُّون للإسلام أن ينتشرَ، ولا يُريدون للحقِّ أن ينتصر؛ ﴿ وَمَا
نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا
آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ﴾ [الكهف: 56].
لا يُحبُّون للمسلِم أن يستقرَّ، ولا يريدون لعِرْضه أن يُحفظ، وما لاكُُوه علَى أمِّ المؤمنين اليوم، هو نفسه ما صَنعوه بالأمس؛ ﴿ إِنَّ
الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ
مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11].
وهم سيستمرُّون في ذلك؛ لاستمرارِ حِقْدهم وغلِّهم وإفْكهم، كيف؟!
يَقْلِبون الحقائق، بل ويَكرهون الخير؛ ﴿ وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا
إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ
قَدِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 11].
يَتطاولون على ربِّ العباد، ويوقدون الحروب، وينسجون الفساد؛ ﴿ وَقَالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا
بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64].
يستمرُّون في السَّفَه، ويُشكِّكون في الدِّين؛ ﴿ سَيَقُولُ
السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142].
كل هذا، والمسلمون ساهون
غافِلون، ساكنون لهؤلاء موالون، وعلى ما يَفْعلون ساكتون! إلاَّ ما رَحِم
ربي، وكان السكونُ والسُّكوت مرَضَي العصْر؛ لماذا؟! والله يقول: ﴿ وَقَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ
يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ
جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140]، فقط عُزْلتهم؛ هل هذه لا نَقدِر عليها؟! إنَّها أضعفُ الإيمان، وإلاَّ نكُنْ منهم.
لكن هل الإفساد يُباد؟ هل المفسِدون ينقلِبون مصلحِين؟ هل مصلحةُ المجموع تعْلو على مصلحة الفرْد؟!
إذا كانتِ الإجابةُ نَعَم، سيُصلح
الله حالنا، وسيحترمنا أعداؤنا، أمَّا إذا كانت الإجابة: لا فأُحيلكم إلى
آخرِ مقْطع في الآية السابقة، وأدْعوكم لمراجعةِ حديث النبي - صلَّى الله
عليه وسلَّم - عن ثوبانَ قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((يُوشِك أن تَداعَى عليكم الأُمم كما تداعى الأَكَلةُ إلى قصعتها))، فقال
قائل: ومِن قلَّة نحن يومئذٍ؟ قال: ((بلْ أنتم يومئذٍ كثير، ولكنَّكم غثاءٌ
كغثاءِ السَّيْل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابةَ منكم،
وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهنَ))، فقال قائل: يا رسولَ الله، وما الوهن؟
قال: ((حُبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت))؛ قال الشيخ الألباني: صحيح.
مُسلِمو اليوم - إلا مَن رحم
الله - راحوا ينظرون أمهاتِهم تُسَبُّ فيستكينون، وكِتَابهم يُحرق فيرضخون
ويَسْتسلمون، وأعراضَهم تُنتَهك فيضحَكون ويتسامرون ويلهون، لماذا؟!
(أحبُّوا الدنيا، وكَرِهوا الموت)،
أصابَهم حبُّ الدنيا، تُحاصِرهم شهواتُها كما يحاصر الوحشُ فريستَه،
ويدورون حولَها كما يدور الثَّوْرُ في ساقيته، وكراهية الموت تجعلهم
يُفضِّلون حياةً ذليلة يموتون خلالها كلَّ يوم موتات؛ ﴿ إَنَّ
الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا
وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7 – 8] على موتٍ كريم، يَحْيَون بعدَه حياةَ العزة والكرامة والخلود؛ ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 31 - 35].
مناضلات في أرْض الرِّباط،
أخوات في أرْض الإسراء، مجاهدات في أرْض الجِهاد - يتعرضْنَ لجرْح
حيائهنَّ، الذي هو مِن حياء الأُمَّة، وخدش كرامتهنَّ، التي هي مِن كرامة
الأمة.
أمَّهات المؤمنين يتعرضْنَ
للسبِّ، آيات الله يتعرضْنَ للحرْق، والإنكارُ باليد معدوم، والاستنكار
باللِّسان مكلوم، والرفْض بالقلْب مرصود، لكنَّه غيرُ معلوم، هل هذه أُمَّة القرآن؟! هل هذه أمَّة الإسلام؟! هل هذه أمَّة محمَّد - عليه الصلاة والسلام؟!
أين المسلِمون من غزوة بني قَيْنُقاع وما قامتْ من أجْله، وما نتَج عنها؟
كان سبب الغَزْوةِ ما حدَث لتلك المرأة المسلِمة - زَوْجة أحدِ المسلمين الأنصار - التي كانت في السُّوقِ، فقصدتْ أحدَ الصاغة اليهود لشراء
حُليٍّ لها، وأثناء وجودها في محلِّ ذلك الصائغ اليهودي، حاول بعضُ
المستهترين من شبابِ اليهود رفْعَ حِجابها والحديثَ إليها، فتمنَّعَتْ
ونهتْه، فقام صاحبُ المحلِّ الصائغ اليهودي بربْط طرَف ثَوبِها وعقده إلى
ظهْرها، فلمَّا وقفتِ ارتفع ثوبُها وانكشَف جسدُها.
فأخَذَ اليهودُ يضحكون منها،
ويتندَّرون عليها، فصاحتْ تستنجد بمَن يعينها عليهم، فتقدَّمَ رجلٌ مسلم
عزيز شهْم رأى ما حدَث لها، فهجَم على اليهودي فقتَلَه، ولَمَّا حاول منعهم
عنها وإخراجَها مِن بينهم، تكاثَر عليه اليهودُ وقتلوه، فلَقِيَ ربَّه
شهيدًا؛ لكن ماذا صنَع رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟ هل سَكَت؟! كلاَّ!
قام بحِصار اليهود خمسَ عشرةَ
ليلةً، حتى وافقوه على حُكْمه، وحاول أحدُ المنافقين التوسُّطَ، فغَضِب
الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأجْلاهم عن المدينة.
لقد غضِب النبيُّ - صلَّى الله
عليه وسلَّم - لما وقَع مِن يهود بني قينقاع، الذي يدلُّ على الخيانة
والغَدْر، ونقْض العهد، وخرَج ومعه المسلِمون لمعاقبتهم، فحاصروهم حتى
اضطرَّهم إلى الاستسلامِ والنزولِ على حُكْمه، الذي قضَى بإخراجِهم من
دِيارهم جزاءَ غَدْرهم وخيانتهم، وكان ذلك في منتصَف شوَّال من السَّنَة
الثانية للهِجرة.
أمام ما يَحدُث الآن، هل مِن غضْبة لله ولرسوله؟! للأسف فقدْنا الغضْبة - حتَّى ولو كانتْ سِلْميةً - لله ولرسوله!
أين المسلِمون من زمن المعتصِم وما ثار مِن أجْله، وما نتَج عن ذلك؟ وقصَّة الخليفة ثابتةٌ في كلِّ كتب السيرة تقريبًا.
قَدِم رجلٌ على الخليفة
المعتصِم، فقال: يا أميرَ المؤمنين، كنتُ بعَمُّوريَّة فرأيتُ بسوقها
امرأةً عربية مَهيبة جليلة، تساوم روميًّا في سلعة، وحاول أن يتغفَّلها
ففوَّتتْ عليه غرضَه، فأغْلَظ لها، فردَّتْ عدوانه بمثله، فلطَمَها على
وجْهِها لطمة، فصاحتْ في لهفة: وامعتصماه! فقال الرُّومي: وماذا يَقدِر عليه المعتصمُ وأنَّى له بي؟! - ورُومان اليوم يتغنَّون بذلك لضعْف المسلمين.
فأمَر المعتصم بأن يستعدَّ
الجيش لمحاصرةِ عمُّوريَّة، فمضى إليها، فلمَّا استعصتْ عليه قال: اجْعلوا
النار في المجانيق وارْموا الحصونَ رميًا متتابعًا، ففعلوا فاستسلمتْ ودخَل
المعتصم عمُّوريَّة، فبحَث عنِ المرأة فلمَّا حضرتْ قال لها: هل أجابَك المعتصم؟ قالت: نعم، فلمَّا استقدم الرجل، قالت له: هذا هو المعتصمُ قد جاء وأخزاك، قال: قولي فيه قولَك.
قالتْ: أعزَّ الله مُلْكَ أمير
المؤمنين، بحسبي من المجد أنَّك ثأرتَ لي، بحسبي مِن الفخر أنَّك انتصرتَ،
فهل يأذن لي أميرُ المؤمنين في أن أعفوَ عنه وأدَع ما لي له، فأُعْجِب
المعتصم بمقالها، وقال لها: لأنتِ جديرةٌ حقًّا بأنْ حاربتُ الروم ثأرًا
لك، ولتعلم الرُّوم أنَّنا نعفو حينما نقْدِر.
هذا هو مجدُ أُمَّتنا، هذا هو فخرُ أمَّتنا؛ أمَّة الإسلام، أمَّة القرآن، أمَّة لا إله إلا الله، أمَّة محمَّد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
كم مِن مستغيث يستغيث: واإسلاماه!، هل يغاث؟! كم مِن منادٍ ينادي: وامعتصماه! هل يُلبَّى؟! أين معتصمُ اليوم؟! هلعقرتْ نساءُ العرَب والمسلمين أن يلدْنَ أمثال المعتصم؟!
لَقَدْ أَسمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا
وَلَكِنْ لاَ حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
|
وهذا الذي يُدْمي القلْب، ويَجْرَح المشاعر، ويُوخز الضمير، لكن قلب مَن ومشاعِر وضمير مَن؟!
لِمِثْلِ هَذَا يَذُوبُ القَلْبُ مِنْ كَمَدٍ
إِنْ كَانَ فِي القَلْبِ إِيمَانٌ وَإِسْلاَمُ
|
ما العمل؟
﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57].
﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ
يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء
مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].
فلِمَ هذا التقاعُس؟ ولِمَ هذا السُّكون؟! ولِمَ هذا التخاذُل؟ ولِمَ هذا الخُمول؟! وقد أصبح الأعداءُ يُحاربون كلَّ أرْض فيها إسلام، ماذا ننتظر؟! ﴿ وَمَا
لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ
لَنَا مِنْ لَدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنكَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 75].
فالأعداءُ يُخطِّطون للقضاء على
الأمَّة، ويُنفِّذون هذا المخططَ أمام أعين العالَم الإسلامي كلِّه،
ومَسْمَع أحرار الدنيا كلِّهم، ولا يفعل العالَمُ الإسلامي شيئًا غير
الشجْب والتنديد، والنحيب والصراخ، والاستنكار والرُّضوخ!
بعضهم وإنْ كان يُظهر المحبَّةَ للإسلام وأهْله، فإنَّه يَكْمُن في داخله غيظٌ وحقدٌ وكُره (أصيل وعقدي)،
ولا يَظهَر ذلك إلا عندما يكون المسلمون في ضَعْف وهوان، واستسلام وخذلان،
كما هو حالُ الأمَّة الآن، تكالبوا على قصعتِها، وانقضُّوا على أعراضِها؛
ليفترسوها كما يفترس الذئبُ فريستَه المستسلِمة في خنوع وخضوع.
الاستهزاء من قديم؛ ﴿ وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام:10]، وَمَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الحجر: 11].
لكنَّ المستهزئين كانوا يَحْذَرون الفضيحة؛ ﴿ يَحْذَرُ
الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا
فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 64]، وكانوا إذا سُئِلوا قالوا: نخوض ونلعب؛ ﴿ وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65]، أمَّا أعداءُ اليوم فيَهْزَؤون علنًا، ويسبُّون نهارًا جِهارًا؛ لماذا؟!
لِمَا حدَث للأمَّة من
هوان، وأصبحت غثاءً كغثاء السيل بتفرُّقها، وتشرذُمها، وتشتُّتها، وعدم
نُصْرتها لبعضها البعض، حتى استفردَ بنا الأعداءُ واحدًا تلوَ الآخَر - لقد
أُكلْنا يومَ أُكِلَ الثَّوْرُ الأبيض.
إنَّ غلامين مِن مسلمي الأمس سمعَا أنَّ رأس الكفر أبا جهل يسبُّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فغضبَا وثارَا، ثم ماذا؟
غلامان نجيبانِ من أبناء
الصحابة - رضي الله عنهم - سمعَا أنَّ أبا جهل يسبُّ رسولَ الله - صلَّى
الله عليه وسلَّم - فمَا استطاع واحدٌ منهما أن يصبرَ لحظة واحدة على هذا
الخبيثِ الذي يسبُّ الحبيب - عليه الصلاة والسلام - فعزمَا في التوِّ
واللحظة أن يذهبَا إليه ليقتلاَه؛ كيف؟
قال عبدالرحمن بن عوف - رضي
الله عنه -: إنِّي لفي الصفِّ يومَ بدرٍ إذ التفتُّ فإذا عن يميني وعن
يَساري فتيانِ حديثَا السِّنِّ، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدُهما
سرًّا مِن صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلتُ: يا ابن أخي، فما تصنع به؟
قال: سمعتُ أمِّي تقول: إنَّه يسبُّ رسولَ الله، قال: والذي نفسي بيده، لئن رأيتُه لا يُفارق سوادي سوادَه
حتى يموتَ الأعجلُ منَّا، فتعجبتُ لذلك! قال: وغمزني الآخر، فقال لي
مثلها، فلم أنشبْ أن نظرتُ إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألاَ تريانِ،
هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه.
قال: فابتدرَاه بسيفهما فضربَاه، حتى قتلاَه، ثم انصرفَا إلى رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((أيُّكما قتلَه؟))، فقال كلُّ واحد منهما: أنا قتلتُه، قال: ((هل مَسحتُما سيفَيْكما؟))، فقالا: لا، فنظَر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى السيفين، فقال: ((كِلاكما قتلَه))،
قال ابنُ إسحاق: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعتُ القوم وأبو جهل في
مِثْل الحرجة - وهي الشجر الملتف لا يوصل إليها، شبَّه رِماحَ المشركين
وسيوفهم التي كانتْ حولَ أبي جهل لحِفْظه بهذه الشجرة - وهم يقولون: أبو
الحكم لا يُخلَص إليه، قال: فلما سمعتُها جعلته مِن شأني، فصمدتُ نحوه،
فلمَّا أمْكنني حملتُ عليه فضربتُه ضربةً أطنَّت قدمَه - أطارتْها - بنِصْف
ساقه، قال: فضربَني ابنُه عِكرمة على عاتِقي فطرَح يدي، فتعلقتْ بجلدةٍ
مِن جنبي، وأجهضني القتالُ عنه، فلقد قاتلتُ عامَّة يومي وإني لأَسْحَبها
خلْفي، فلمَّا آذتْنِي وضعتُ عليها قَدمِي ثم تمطيتُ بها عليها حتى
طرحتُها.
إنَّه لمشهدٌ مهيب، يجعل المؤمنَ يراجع نفسه مرَّة أخرى، ويتساءل: كيف أستطيع أنْ أُربِّي أولادي ليكونوا أشباه هؤلاء العمالقة الأفذاذ الأطهار؟!
غلمان الأمس ورِجال اليوم، مَن الأجدر ومَن الأفْضَل ومَن الأجمل؟! مَن لأخوات المسلمين؟! ومَن لأمهات المؤمنين؟! ومَن لآيات القرآنِ كتابِ الموحِّدين؟!
إنَّ ما تمرُّ
به الأمَّة الإسلامية الآن من مِحْنة عظيمة، وشدَّة كبيرة، جعلها كالغنم
في الليلة المطيرة، لا تعرف إلى مَن تركن ومع مَن تَقِف، لا تدري مَن
تُوالي ومَن تُعادي، وذلك بعدَ الغزو الفِكري الذي يبثُّه أعداءُ الإسلام،
ويسوقُه منافقو المسلمين في حملتِهم القَذِرة لتشويهِ الإسلام والمسلمين، فهل مِن معتصم جديد، يُعيد المجدَ السليب؟ هل مِن مُعوِّذ جديد يُعيد الكرامةَ المُهْدَرة؟ هل مِن جيل جديد يبعث الحياءَ، ويُعيد البناءَ، ويُرْضي ربَّ الأرض والسماء؟
هل مِن بعْثٍ جديد يُخرِج
العبادَ مِن عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومِن جَوْر الأديان إلى
عدْل الإسلام، ومِن ضِيق الدنيا إلى سَعةِ الدنيا والآخِرَة؟
اللهمَّ أكرمْنا بطاعتك، ولا
تُذلَّنا بمعصيتك، اللهمَّ ارزقْنا الإخلاص في القوْل والعمل، ولا تجعلِ
الدنيا أكْبر همِّنا، ولا مبلغَ عِلمنا، وصلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمد
وعلى أهله وصحبه وسلِّمْ، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).