أيها العرب.. انتبهوا إلى ما يجري في ديالى
أثارت الأحداث الأخيرة التي
شهدتها محافظة ديالى موجة من الاستنكارات، كان آخرها استنكار مرجعية النجف
التي اعتبرتها (أعمالا إرهابية تهدد السلم الأهلي)، دون تسمية الجهة
المسؤولة، مع أن التسمية لن تزيد الأمر وضوحا، فالميليشيات الطائفية التي
تستظل بعباءة المرجعية هي وحدها من يقف خلف هذه الجرائم التي أحالت ديالى
والمقدادية بالذات إلى منطقة منكوبة، كما أن الضحية هي جهة واحدة أيضا وهم
العرب السنة الذين فُجّرت مساجدهم واستبيحت حرماتهم وأُجبروا على ترك
مساكنهم!
السيستاني الذي ظهر بمظهر العاجز
الذي ليس بيده إلا الاستنكار، لا يختلف موقفه كثيرا عن موقف العبادي
المتربّع على عرش السلطة التنفيذية، والذي اعترف بعجزه أمام سطوة
الميليشيات، حتى إنها منعته هو والجبوري شيخ السلطة التشريعية من دخول
المقدادية!
إذا جمعنا السيستاني مع العبادي
زائدا الجبوري، فنحن هنا نتكلم عن مراكز السلطة الرئيسة وفق التصميم الذي
أنتجه الاحتلال الأميركي للعراق، فبأي منطق يلوذ هؤلاء جميعا بالوعظ والنصح
والاستنكار؟ حتى القوات العسكرية والأمنية تم تحييدها واختفت من الساحة
تماما!
إذا استبعدنا التقية -وهي هنا
مستبعدة إلى حد ما- فإن هناك جوابا واحدا فقط يتلخّص في أن إيران قررت
احتلال هذه المحافظة احتلالا مباشرا وانتزاعها بالقوة، فالميليشيات وإن
كانت ترتبط نوع ارتباط بالمرجعيات الدينية وببعض الأحزاب والمؤسسات
التشريعية والتنفيذية، لكنها في الحقيقة تستمدّ قوّتها المباشرة من إيران،
ولا شك أن مئات الآلاف من الإيرانيين الذين اقتحموا الحدود مؤخرا -على مرأى
العالم ومسمعه- يشكّلون الجسد الأقوى والأكبر في هذه الميليشيات.
قصة إيران مع هذه المحافظة ليست
جديدة، فقبل سنوات، حينما أعلن محافظ ديالى -وهو من أبناء العشائر العربية
السنّية الأصيلة- عن تحويل المحافظة إلى إقليم، وكان معه أغلبية العشائر
والواجهات السياسية والثقافية على اختلاف مشاربها وعناوينها، تجنبا لهذا
المصير الذي وصلت إليه المحافظة، فوجئ بتدخل مباشر من قاسم سليماني يحذّره
من هذه الخطوة.
وبالفعل لما أصرّ المحافظ على
طلبه نفّذ سليماني وعيده في تلك الأيام، وطوّقت ميليشياته مبنى المحافظة،
حتى أبعد المحافظ عن محافظته بقوّة السلاح، رغم أن إعلان الإقليم هو حق
دستوري مثبّت بالنص الصريح في الدستور الحالي! ومن المفارقات الغريبة هنا،
أن بعض أهل السنة وحتى من علمائهم وواجهاتهم ما زالوا يعتقدون أن إعلان
الإقليم هو مخطط إيراني! وهذا وجه من أوجه المعضلة العراقية المستعصية على
الحل، والمستعصية على الفهم أيضا.
الشاهد هنا أن سليماني أعطى
لنفسه صلاحية الرد على طلب المحافظ، دون الحاجة للرجوع إلى المؤسسات
التشريعية والتنفيذية، حتى لو كانت هذه المؤسسات خاضعة بشكل أو بآخر
للهيمنة الإيرانية!
إن مشكلة ديالى بالأساس مشكلة
جيوبوليتيكية، إذ تقع في الخط المستقيم الأقرب بين الحدود الإيرانية
وبغداد، وقد كانت عبر التاريخ المنفذ الأقرب والأسهل لجيوش كسرى نحو الغرب،
ثم أصبحت بعد الفتح الإسلامي المنفذ الأقرب والأسهل لجيوش المسلمين نحو
الشرق!
في التاريخ القريب، حاول
الإيرانيون لثماني سنوات أن يجدوا ثغرة لهم في هذه المحافظة نحو بغداد،
لكنهم كانوا يصطدمون دائما بالجيش العراقي الذي كان الحارس الأمين على هذه
البوابة الخطيرة، واصطدموا أيضا بالمجتمع القبلي الأصيل الذي تتشكّل منه
هذه المحافظة، وهو في الأغلب مجتمع سني عربي، وللأمانة فإن القبائل العربية
الشيعية هناك كانت ترفض الغزو الإيراني بأي ثوب جاء، أقول هذا عن تجربة
ميدانية لقرابة السنتين أيام الخدمة الإلزامية على حدود تلك المحافظة، لكل
هذا بقيت ديالى كما كانت دائما الحصن المنيع والدرع الأقوى لبغداد.
اليوم
أتيحت للإيرانيين فرصة قد لا تتكرر لإزالة هذه العقبة عن طريقهم، ولضرب
أكثر من عصفور بحجر واحد -كما يقال- ومن ذلك: أولا: تأمين التدفّق الإيراني
(المليوني) نحو بغداد وسامراء وكربلاء والنجف تحت لافتة (الحج إلى العتبات
المقدسة)، هذا الحج الذي يمكن أن يتكرر في السنة الواحدة عدة مرّات بحسب
تاريخ الولادة والوفاة لكل إمام من الأئمة! ما يعني تغييرا جذريا في هوية
هذه المجتمعات وعاداتها وتقاليدها، إضافة إلى الاستثمار المفتوح والتسهيلات
الكبيرة التي ستقدّمها حكومة بغداد لهؤلاء الحجّاج أو المستثمرين، والتي
تصل بكل تأكيد إلى منحهم الجنسية العراقية. ثانيا: الوصول إلى هذه المناطق
يعني تقطيع أوصال السنّة العرب، والتخلّص مما عُرف بالمثلث السنّي أو
المحافظات الست التي شكّلت موقفا موحّدا ومناهضا للاحتلالين، الأميركي
والإيراني، من 2003 إلى اليوم. ثالثا: وضع اليد على حقول كركوك النفطية،
وعدم السماح للكرد بتحقيق حلمهم في (قدس كردستان)، والتي تمثل الآن نقطة
النزاع الأخطر بين أربيل وبغداد، حيث إن الإيرانيين سيكونون عن كركوك مرمى
حجر -كما يقال- في حالة استيلائهم على ديالى. رابعا: التحكم بالطرق التي
تربط إيران بسوريا عبر الأراضي العراقية، وهذا الهدف تحدده نتائج المعارك
المحتدمة اليوم بين النظام الموالي لإيران وبين الشعب السوري الذي يخوض
معركة وجود بامتياز لم يسبق لها مثيل. خامسا: ربما يفكر الإيرانيون أيضا
بتحقيق نصر سريع تعويضا لهم عن تراجع مشروعهم في اليمن منذ انطلاق عاصفة
الحزم، فالمشروع الإيراني اليوم بحاجة إلى جرعة من المعنويات، خاصة بعد
شعور الأقليات الشيعية الموالية لإيران في أكثر من بلد عربي وإسلامي بأن
إيران قد تخلّت عنهم وأسلمتهم للطوفان. للوصول إلى هذه الأهداف، تسعى إيران
لتغيير المحافظة تغييرا ديمغرافيا شاملا، بحيث تتحول ديالى إلى كيان آخر
أرضا وشعبا وهوية، حتى إن هادي العامري القيادي في (فيلق بدر) الذي كان
يقاتل العراقيين تحت راية الفرس أيام (القادسية الثانية) نُقل عنه قوله في
أكثر من مناسبة: (انسوا أن ديالى في يوم من الأيام كانت سنّية)! لكل هذه
المعطيات، يبدو أن ما قامت به الميليشيات الإيرانية فور سيطرتها على مدينة
المقدادية بتفجير جميع مساجدها المعروفة لا يحتاج إلى تفسير، وانحدار
المليشيات إلى هذا الأسلوب الذي لم تجرؤ عليه حتى العصابات الصهيونية في
فلسطين يكشف حقيقة تلك الشعارات والأقنعة الدينية والعاطفية التي تتمسّح
بحب آل البيت، وآل البيت -رضي الله عنهم- أبعد ما يكونون عن هذا الشذوذ
والانحراف. إن وقوع محافظة بهذا الحجم وبهذا الموقع في قلب التقاطعات
الإيرانية سيحمل نتائج كارثية على المستوى الإنساني أولا، والذي سيتعرّض
فيه أكثر من مليون إنسان إلى حملات القتل والتهجير القسري، والذين ربما لن
يجدوا لهم منفذا إلا إقليم كردستان المثقل أصلا بكثرة اللاجئين من الأنبار
والموصل وصلاح الدين، وعلى مستوى الأمن القومي العربي والإقليمي، فإن
التغيير الديمغرافي لهذه المحافظة سيكون مفتاحا لتغيير العراق كله وتحويله
إلى عراق آخر غريب عن هذه الأرض وتاريخها وهويتها. لقد آن للعرب ولتركيا
ولكل الدول الإسلامية أن يلتفتوا إلى العراق، فالذي يجري على أرضه سينعكس
بالضرورة على أرضهم، والذي يجري على شعبه سينعكس بالضرورة على شعوبهم، وإذا
كان العراق بوابة العرب، فديالى هي بوابة العراق.
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).