0

د. طه حامد الدليمي

يقول الأستاذ أحمد الكاتب: (لقد كانت نظرية- التقية والانتظار- تقول: "إن الخمس من حق الإمام المعصوم، وإنه في عصر غيبة الإمام المهدي مباح للشيعة". وقد تم الانسحاب من هذه النظرية في هذا المجال في وقت مبكر ولكن خطوة.. خطوة..

الخطوة الأولى:

وكانت الخطوة الأولى هي القول بوجوب الخمس في عصر الغيبة مع القول بدفنه، أو الاحتفاظ به حتى ظهور المهدي، أو الإيصاء به بعد الموت من واحد إلى واحد حتى يوم الظهور(1).

يلاحظ أن الجديد في الأمر هو انتقال حكم (الخمس) من الإباحة إلى الوجوب دون القول بصرفه إلى أحد لا فقيه ولاغيره، وإنما يعزل حق (الإمام الغائب) ليدفن أو يوصى به. وهذا لم يكن معروفاً من قبل!

 

وكانت الخطوة الثانية:

إيداعه عند أمين من إخوانه المؤمنين دون اشتراط كونه فقيهاً.

 

والخطوة الثالثة:

إيداعه عند أمين من فقهاء المذهب على سبيل الاستحباب والأولى.

وينبغي أن يلاحظ هنا أن القضية قضية إيداع لا أكثر. أي ان الفقيه لا يحق له التصرف فيه، وإنما يحتفظ به إلى حين ظهور (الإمام). ما عدا نصيب الاصناف الثلاثة فإنه يتولى عملية قسمته فيهم لا أكثر، لا سيما إذا كان المالك لا يحسن القسمة.

 

الخطوة الرابعة:

بعد أن كان إيداع (الخمس) عند الفقيه في الخطوة السابقةعلى سبيل الاستحباب جاءت الخطوة الرابعة لتنقله إلى الوجوب.

يقول أحمد الكاتب: (وكان القاضي ابن براج - المتوفى في منتصف القرن الخامس - أول من أشار إلى ضرورة ايداع سهم الإمام عند من يوثق بدينه وأمانته من فقهاء المذهب وإيصائه بدفع ذلك إلى الإمام (ع) إن أدرك ظهوره، وإن لم يدرك ظهوره وصى إلى غيره بذلك)(2).

وكان العلماء السابقون يوصون بإيداعه عند أمين، ولكنه (ابن براج) أضاف: (من فقهاء المذهب) دون أن يشير إلى مستنده في ذلك؛ وقد جاء العلماء المتأخرون عنه فطوروا هذه المسألة شيئاً فشيئاً(3).

ولنا أن نسأل هنا سؤالاً فنقول: هل رأى أحد - بعد أن تغير الزمان واختلفت الفتوى - اموالاً مدخرةً عند الفقهاء أو غيرهم كانت قد تراكمت نتيجة العمل بالفتوى القائلة بإيداعها عند أمين من فقهاء المذهب أو من المؤمنين؟! فأين مصير تلك الأموال التي أودعت عند أولئك الفقهاء (الأمناء)؟!!.

 

الخطوة الخامسة:

(جواز أو وجوب إعطاء الخمس إلى الفقهاء لكي يقسموه)(4).

يقول أحمد الكاتب: (وربما كان أول من مال إلى جواز أو وجوب إعطاء الخمس إلى الفقهاء لكي يقسموه هو ابن حمزة في القرن السادس في (الوسيلة إلى نيل الفضيلة)(5)، واعتبر ذلك أفضل من قيام صاحب الخمس بتوزيعه بنفسه خاصة إذا لم يكن يحسن القسمة)(6).

ويقول: (ولم يترسخ هذا القول بقوة في أوساط الشيعة حتى ان عالماً كبيراً هو الشهيد الأول (الذي جاء بعد ذلك بقرنين) تردد فقال بالتخيير بين القولين القديم: الدفن والإيصاء، والجديد: الصرف…

وكذلك فعل المحقق الكركي الذي استقدمته الدولة الصفوية التي قامت في بلاد فارس في القرن العاشر الهجري، وظل على الرأي القديم الذي يقول بالتخيير بين صرف سهم الإمام المهدي أو حفظه إلى حين ظهوره(7).

وظلت هذه الفتوى تتردد في أوساط الفقهاء عدة قرون. وظلت أقوالهم مضطربة ومختلفة إلى اليوم. حتى إن السيد محسن الحكيم (المتوفى في أواخر القرن الرابع عشر الهجري وزعيم الحوزة في زمانه) استشكل التصرف في سهم الإمام زمن الغيبة. ثم استثنى بعد ذلك ما إذا أحرز رضاه (ع) (أي الإمام الغائب) بصرفه في بعض الجهات التي يعلم رضاه بصرفه فيها.. ولم يشترط مراجعة الحاكم الشرعي (أي الفقيه)(8).

أي أنه لم يوجب على المقلد إذا أحرز رضا (الامام العائب) إعطاء (خمسه) إلى الفقيه، بل له أن يتولاه بنفسه.

 

حيرة الفقهاء المتأخرين في الذريعة التي تبرر أخذهم (الخمس)

وهكذا نصل إلى القول متيقنين بأن نظرية إعطاء (الخمس) إلى الفقيه جاءت متأخرة ولم تكن معروفة عند المتقدمين، إلا أن بعض المتأخرين قالوا بها. وقد احتاروا في الذريعة أو المسوغ الشرعي الذي يبيح لهم ذلك. فمنهم من قال بإحراز رضا (الإمام) وذلك بصرفه في الوجوه الشرعية، أو بنية التصدق عنه. ومنهم من عكس هذا القول تماما فسلب من (الإمام الغائب) حقه من الخمس، وجعل علة استحقاقه له القيام بواجبات (الإمامة). وبما أن الإمام غائب عن القيام بهذه الواجبات، فليس له شيء من (الخمس)، وإنما الذي يستحقه القائم مقامه وهو الفقيه!.

يقول الشيخ حسن الفريد (ت1417هـ): (إن مقتضى القاعدة سقوط النصف الذي هو للإمام (ع). إذ لا ريب أنه إنما استحق ذلك بحق الرئاسة والإمامة. ولذا ينتقل هذا الحق إلى الذي يقوم بعده بالإمامة لا إلى ورثته. وإذا غاب عن الناس ولم يقم بالإمامة انتفت رئاسته خارجاً وينتفي حقه بانتفاء موضوعه)(9).

واحتاروا أيضاً في نيابة الفقيه وولايته هل هي مطلقة؟ أم أن نيابته عن (الإمام) تقتصر على القضاء والافتاء؟ فإن كانت نيابته قاصرة فكيف يمكن حساب حصته من (الخمس) على قدر مساحة نيابته؟!.

أما السيد محمود الهاشمي فينتقد المنهج الذي سلكه الفقهاء في مسألة (الخمس)، ويجعل أساس أقوالهم فيه الذوق والوجدان! ولذلك اختلفوا حسب اختلاف اذواقهم وسلائقهم ويصرح قائلا: (وهذا كله لا أساس له). ولا يُبقي إلا على قول واحد هو قول الشيخ حسن الفريد الذي يجعل من الخمس (ملكاً لمنصب الإمامة والولاية الشرعية فيكون الولي الشرعي في كل زمان هو المتولي على صرفه قانوناً وشرعاً)(10).

وفات السيد محمود الهاشمي أن قوله هذا (لاأساس له) كذلك إلا الذوق والوجدان.

 

شرعية الإنفاق لا تحلل حرمة المصدر (الكسب)

يقول الدكتور موسى الموسوي: (كم أتمنى أن يترفع الفقهاء والمجتهدون عن أموال الشيعة ولا يرتضوا أن يكونوا عالة عليهم بذريعة ما أنزل الله بها من سلطان.

إن بعض علماء الشيعة يدافع عن أخذهم الخمس من أموال الشيعة بأنها تصرف على المدارس الدينية والحوزات العلمية والشؤون المذهبية الأخرى.

ولكن المناقشة ليست في: أن تلك الأموال تصرف كيف؟ ولماذا؟ بل المناقشة أصولية وواقعية ومذهبية وهي أن تلك الأموال تؤخذ زوراً وبطلانا من الناس. وحتى إذا صرفت في سبيل الله فانها غير شرعية لا يجوز التصرف فيها)(11).

وهذا الكلام أو التأصيل لا غبار عليه فإن السارق لا ينقلب ماله حلالا وإن أنفقه في الوجوه المحللة شرعاً لأن أصله حرام.

وكذلك الخمس لا يصح أن نناقش شرعيته بالمقلوب فنقول: إنه يصرف في الوجوه الشرعية المذكورة إلا بعد اثبات شرعية مصدره وحلية أخذه من الناس من قبل الفقيه؛ وهما –أي الأخذ والإنفاق- أمران مختلفان تماماً. فكون أحدهما حلالاً لا يحلل الآخر(12) فقد يكسب الإنسان ماله من وجه حلال ويصرفه في وجه حرام فيتحمل إثم الصرف والانفاق. وقد يكسب ماله من حرام وينفقه في وجه حلال فيتحمل إثم كسبه، ولا أجر له في انفاقه إلا كما روي عن أحد اللصوص أنه قال: إنه يستطيع أن يسرق عشرة دنانير دون أن يكسب أثماً!! قيل له كيف؟ قال: الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها. فأنفق ديناراً واحداً على فقير فأكسب عشر حسنات أمحو بها السيئات العشر من جراء السرقة، ويصفو لي تسعة دنانير حلالاً زلالاً!!.

أليس هذا هو لسان حال الفقهاء في أخذهم (الخمس) من الناس بلا فرق!

يقول الدكتور موسى الموسوي: (لقد كان باستطاعة الفقهاء الشيعة أن يبنوا أنفسهم على الاكتفاء الذاتي وأن يكون الفقيه معتمداً على نفسه شأنه شأن أرباب الصناعات الأخرى، كما أن باستطاعتهم الحصول على أموال لتنمية العلم والعلماء ولكن باسم التبرعات والهبات لا باسم الواجب الشرعي وأوامر السماء).


(1) تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه ص352.
(2) المذهَّب 1/180.
(3) تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه ص352.
(4) أيضاً.
(5) ص682.
(6) تطور الفكر السياسي الشيعي ص352.
(7) المصدر السابق ص353.
(8) مستمسك العروة الوثقى/ كتاب الخمس 9/584 للسيد محسن الحكيم.
(9) رسالة في الخمس ص83، أنظر تطور الفكر السياسي الشيعي ص354.
(10) كتاب الخمس 2/239، انظر تطور الفكر السياسي الشيعي ص356.
(11) الشيعة والتصحيح ص68.
(12) ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن صاحب المال يسأل يوم القيامة عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟.

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top