0

براءة معاوية بن أبي سفيان من الأمر بلعن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنهما-

 

من أصول أهل السنة والجماعة سلامةُ قلوبهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مدحهم الله -عز وجل- بذلك في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].

ومن أصولهم كذلك: حِفظُ ألسنتهم والانتهاء عما نهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -تعريفًا بفضل الصحابة الكرام وإظهارًا لمكانتهم- في قوله: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ»([1]).

يقول قتادة: “إنما أُمِروا [يعني: المؤمنين] أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمَروا بسبِّهم”([2]).

بل إنَّ سبَّ الصحابة الكرام أو الانتقاصَ من أحدهم مِن المحرَّمات وكبائر الآثام، سواء مَن لابَسَ الفتنَ منهم أو غيره؛ لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأوِّلون([3])؛ يقول الإمام مالك: “مَن شتم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قُتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نُكِّل نكالًا شديدًا”([4]).

وهذا المسلك النبيل مع صحابة نبينا عليه الصلاة والسلام لأهل السنة والجماعة لا يُعجِبُ أهلَ الضلال وأربابَ البِدَع، الذين يحاولون إزاحةَ المؤمنين عن معتقدهم الحقِّ، وإفسادَ سلامة صدورهم وألسنتهم لمن اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فراحوا يدبِّرون المكائد، ويفترون الفِرى، ويخلقون الإفكَ والبهتان، ويجمعون كلَّ غثِّ وساقط من الروايات والأخبار للطعن في الصحابة والغضِّ من فضائلهم، ويلتقطون بعض أقوال الصحابة وأفعالهم -التي قد يساء فهمُها- رغبةً وطمعًا في ترويج باطِلهم، وإن لم يكن الأمر على الحقيقة كذلك.

وكان للصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- النصيبُ الأكبرُ والحظ الأوفر من هذا الكيد وذاك الافتراء، وما مثله ومثلهم إلا كما قال الأعشى:

كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا فَلَمْ يَضْرِهَا وأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ([5])

فما يضرُّ فعلُهم هذا إلا أنفسَهم، ويبقى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- شامخًا كريمًا، حائزًا للفضائل والمكارم، ومن أعظم ما حازه: دخوله في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا يَسْتَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [الحديد: 10].

يقول الطبريّ -رحمه الله-: “يقول تعالى ذكره: وكلّ هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله، وقتالهم أعداءه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل”([6]).

ومعاوية -رضي الله عنه- داخل في هذه الآية قطعًا، فقد أسلم وأنفق وقاتل بعد الفتح، سواء أقلنا: إن الفتح صُلح الحديبية أم فتح مكة، وهما قولان للمفسِّرين.

ثم إنَّه أمير المؤمنين، الموفَّق بدعوة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم له بقوله: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِ بِهِ»([7]).

فكان من الواجب الشرعيِّ ومن مقتضيات أصول أهل السنة الذبُّ عنه؛ بإيضاح الحجة وبيان المحجة على براءته من التُهَم الباطلة، ومن أشهرها: شبهة أمره بلعن عليٍّ -رضي الله عنه-، وهي من الشبهات التي يكررها الشيعة ليل نهار، ويستروح لها من وافقهم أو انخدع بهم؛ فلزم دراستها ونقدها بشيء من التفصيل والبيان، فنسُوق ما استدلوا به، ثم نُتبعُه بالرد والبيان:

استدلوا بحديث أخرجه مسلم من طريق: بُكَيْر بن مِسْمَار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه -رضي الله عنه- قال: أمرَ مُعاوية بْن أبي سُفْيَانَ سَعدًا فقال: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَنْ أَسُبَّهُ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ، خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟! إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي». وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»، قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا فَقَالَ: «ادْعُوا لِي عَلِيًّا»، فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ [آل عمران: 61] دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي»([8]).

موضع الشبهة ومحلّ الاستشكال في الحديث:

قال مدَّعو الشبهة: إن الحديث صحيح؛ فقد رواه مسلم في صحيحه، وكفى بهذا تصحيحًا.

وادَّعوا أن قوله: “أمرَ مُعاوية بْن أبي سُفْيَانَ سَعدًا فقال: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟” نصٌّ قطعيٌّ صريح الدلالة في أن معاوية -رضي الله عنه- كان يأمر بلعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

الجواب عن هذه الشبهة:

ارتكز المروِّجون لهذه الشبهة في وسائل الإعلام المختَلفة وفي وسائل التواصل الاجتماعي المتنوّعة على موضعين من الحديث:

الأول: قول الراوي: “أمر معاوية سعدًا”.

الثاني: قول الراوي: “ما منعك أن تسبَّ أبا التراب”.

ومن المعلوم عند أهل العلم والإنصاف: أن كلَّ مسألةٍ إذا دقَّقتَ النظرَ فيها تبيَّنَ لك وجه الصواب؛ لذا فإن النظر في هذين الموضعين كلّ على حدة، وطرحهما على بساط البحث العلميِّ المجرَّد عن الأهواء والعصبية، والمحلَّى بالبرهان والإنصاف، هذا وحده الكفيل ببيان ثبوت تلك الشبهة من عدمه؛ لذا ستتمّ مناقشة هذا الحديث الذي رواه مسلم من هاتين الجهتين.

وقبل البدء في المناقشة نُبَيِّنُ أن مذهب أهل السنة والجماعة عدالةُ من ثبَتَت صُحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والعدالة لا تعني العِصمة من المعصية والخطأ؛ لكنها تعني التديُّن ومخافةَ الله تعالى والرجوع إليه والصيانة من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالخطأ والمعصية وإن كانا مُتَصَوَّرَين فيهم -رضي الله عنهم- باعتبار بشريتهم، إلا أن ذلك منهم نادرٌ قليل بالنسبة لمن بعدهم؛ لِمَا ثبت في الكتاب والسنة من تزكيتِهم والثناء عليهم ووعد الله تعالى لهم بالجنة في كثير من الآيات والأحاديث التي ليس هذَا موضعَ سردِها.

وعلي ومعاوية -رضي الله عنهما- يجري عليهما هذا الحكم، فالمعصية والخطأ متصوَّر منهما؛ ومع ذلك فعليٌّ -رضي الله عنه- قطعًا خيرٌ من معاوية بكثير، وله عليه فضل السابقة في الإسلام والبشارة الخاصَّة بالجنة والجهاد مع رسول الله والقرابة والصهر له صلى الله عليه وسلم؛ ومعاوية -رضي الله عنه- وإن كان أقلَّ منه في الفضل في ذلك كلِّه، إلا أنه يبقى له فضل الصحبة وشرفها، ويدخل في عموم الآيات المزكِّية للصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-.

فإذا نُقِل لنا عن صحابيّ من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطأٌ أو معصيةٌ فليس منَ الدِّين ولا من الإيمان ولا العقل ولا المروءة أن نحمِّلها فوقَ ما تحتمل، ونقدِّرها فوق تقديرها، فنرفع عنه ما حكَم الله له به من العدالة والتزكية، فإن ذلك من الإفراط الذي لا يجوز، ولسنا مأمورين به، فالمعصية على حالها معصيةٌ، تمحوها التوبة، ويتدارك الله تعالى صاحبها بفضله ولطفه، في جميع عباده فكيف بمن اختصَّهم الله لصحبة نبيه وزكاهم في كتابه؟!

فأولئك الذين إذا نقلوا عن صحابيٍّ خطأً أو زلَّةً ضخَّموها وجعلوه مستحِقًّا للتفسيق والتكفير واللعن والتشهير ليسوا إلا بغاةً جناةً ظلمةً ضعفاءَ دينٍ وصغارَ عقولٍ؛ وإلا فكيف لمؤمنٍ عادلٍ عاقلٍ أن يجعل خطأَ أحدٍ -أيّ أحدٍ- أو معصيته مدعاةً للعنهِ وتكفيره؟! هذا ليس من أفعال أهل الإيمان والصيانة مع عموم الناس، فكيف مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

هذا لو ثبتت المعصية في حق هذا الصحابي، فكيف وهي لم تثبت، وإنما هي افتراء وتَقَوُّل؟!

مناقشة الحديث من جهة الدراية:

اعتمد المذيعون لهذه الشبهة على عبارتين:

الأولى: “أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا”.

الثانية: “ما منعك أن تسبَّ أبا التراب؟”.

أوَّلًا: مناقشة عبارة: “أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا”:

هذه العبارة غير صريحةٍ في الأمر بالسبِّ، فضلًا عن أن تدلَّ على اللعن؛ إذ لفظ: “أمر معاوية سعدًا” مبهمٌ ليس فيه ذكر الشيء المأمور به، فيتبادر إلى الذهن سؤال: بماذا أمره؟! ولم يذكر في الرواية -محلّ البحث- ولا في غيرها أنه أمره بسبِّ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أو لعنه، على أنه قد يفسِّره ما جاء في بعض الروايات: “مرَّ معاوية”، و”مرَّ رجل بسعد”، وكلاهما ليس فيه لا “الأمر”، ولا “السبّ”، ولا “اللعن”.

فمعاوية -رضي الله عنه- أراد أن يستفسر من سعدٍ عن امتناعه من سب عليّ -رضي الله عنه- وهو بين أناس انتشرت فيهم هذه العادة السيِّئة، فلما أجابه سعد بالسبب قنِع به معاوية ورضي، ولم يغضب منه ولا اعترض عليه، وهذا تصويبٌ منه لصنيع سعد وموقفه، فلو أن معاوية كان يأمر بلعن عليٍّ -كما يدَّعي أعداء الصحابة وأشياعهم- لسأله عن اللَّعن ولم يسأله عن السبِّ، وسيأتي الفرق بين العبارتين، وأيضا لناقش معاويةُ سعدًا واعترض عليه وما سكت عنه، وكل ذلك لم يحصل.

ثانيا: مناقشة عبارة: “ما منعك أن تسبَّ أبا التراب؟”:

هذه الشبهةُ مبنيةٌ على أنَّ السبَّ في اللغة بمعنى اللَّعن، وبالرجوع إلى معاجم اللغة العربية نجد أن هذا الأمر غير صحيح، فقد قال الصاحب بن عباد: “السَّب: الشتْمُ، والسِّبَابُ: المشَاتَمَةُ… وأصْلُ السبِّ: العَيْبُ”([9])، وذكر الجوهري أن السَّبَّ: الشتمُ، والتَّسابّ: التشاتمُ([10])، وقال في لسان العرب: “الشتم: قبيح الكلام، وليس فيه قذف”([11])، وقال أبو العباس اللبلي: “الشتم: رمي أعراض الناس بالمعايب، وثلبُهم، وذكرُهم بقبيح القول، حضرًا أو غيبًا”([12]).

فعلى فرض ثبوت السبِّ من معاوية لعليٍّ، فهو -كما تقول المعاجم- بمعنى: عابه وانتقصه، ونحن نُثْبِت بين الرجلين ما هو أعظمُ من العيب والانتقاص، فنحن نُثْبِتُ أن الرجلين تقاتلَا، والاقتتال أعظم بكثير من العيب والانتقاص، ومع إثباتنا الاقتتالَ بينهما لم نجعل ذلك مسوغًا لنا لتكفير أحدهما أو تفسيقه أو لعنه أو الحكم بسقوط عدالته أو الانتقاص منه.

بل إن الاقتتال متضمِّن للعيب، فلا يقاتل أحد أحدًا إلا وهو يعيبه، ولو لم يعبه لما قاتله، فلو ثَبَت سبُّ معاوية عليًّا بمعنى أنه عابه وانتقصه، فلا ينبغي أن يجعلنَا ذلك نُفَسِّر السب بغير معناه اللغوي فنقول: إنه اللعن؛ لأن ذلك افتراء وكذب، ولا أن نجعل السبَّ مدعاةً لإسقاط معاوية -رضي الله عنه-.

وقد حصل السبُّ من الصحابة الكرام في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان موقفه -صلى الله عليه وسلم- موقف النبي المصلح الناصح الموجِّه لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، المطفئ لنار الفتن، ولم يحطَّ من أقدار أصحابه الذين فَلَتَ منهم ذلك بطبيعة بشريَّتهم، فعن المعرور قال: لقيتُ أبا ذرٍّ بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال إني ساببتُ رجلًا فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا ذرٍّ، أعيَّرته بأمِّه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية. إخوانكم خولَكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»([13]).

بل وحصل التسابُّ بين فريقين كبيرين فاضلين من الصحابة الكرام بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي مسجده الشريف، وذلك في حادثة الإفك لما قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فوالله، ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمتُ عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي»، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقَه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج -وكان رجلا صالحا، ولكن اجتهلته الحمية- فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنَّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيَّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفِّضهم حتى سكتوا وسكت([14]).

وبذلك يتأكَّد أن هذا اللفظ لا تقومُ به الحجَّة ولا تثبت به الشبهة؛ ولذا اتفق شراح الحديث على أنه يحتمل أمورًا ليس منها السبّ بمعنى اللعن، ودونك بيان ذلك من أقوالهم([15]):

1- أنها قيلت على سبيل الاستفهام:

من المحتمل أن يكون معاوية أراد أن يستفسر عن المانع الذي جعل سعدًا لا يسبّ عليًّا -رضي الله عنهم-، فأجابه سعد عن السبب، وهذا الاحتمال قريب؛ إذ ليس هناك ما يدعو إلى تحميل الكلام أكثر مما يحتمل، ولهذا يقول الإمام النووي: “فقول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعدًا بسبِّه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السبِّ، كأنه يقول: هل امتنعت تورعًا أو خوفًا أو غير ذلك؟”([16]).

2- قد يكون معاوية رأى سعدًا بين قوم يسبونه:

من المحتمل أن يكون معاوية رأى سعدًا بين أقوام يسبون علي بن أبي طالب، ولا يمكن الإنكار عليهم، فأراد أن يستخرج من سعد إنكاره؛ فيكون له حجة على من يسب عليًّا من غوغاء جنده، فيحصل المراد على لسان غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

3- أن يكون المراد بالسب تفنيد المذهب والرأي:

قد يكون قصد معاوية بهذا اللّفظ سؤال سعد: لماذا لم تفنِّد رأي علي بن أبي طالب وتبيِّن الرأي الصحيح له؟ وفي هذا يقول المازري: “وقد يسمّى ذلك في العرف سبًّا، ويقال في فرقة: إنها تسبّ أخرى إذا سمع منهم أنهم أخطؤوا في مذاهبهم، وحادوا عن الصواب، وأكثروا من التشنيع عليهم، فمن الممكن أن يريد معاوية من سعد بقوله: ما منعك أن تسبَّ أبا تراب؟ أي: تظهر للناس خطأه في رأيه، وأن رأينا وما نحن عليه أسد وأصوب”([17]).

ولهذا المعنى شاهد صحيح رواه البخاري: من دخول علي والعباس على عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير؛ وفيه: “فَاسْتَبَّ عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ“([18])، وفي لفظ: “قال العباس: يَا أَمِيرَ المؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ الظَّالِمِ اسْتَبَّا“([19])، وهو ما لا يمكن للشيعة ولا من وافقهم أن يحملوه على السباب الذي هو بمعنى الشتم؛ يقول الحافظ ابن حجر: “واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث، وقال: لعل بعض الرواة وهم فيها، وإن كانت محفوظة فأجود ما تحمل عليه: أن العباس قالها دلالًا على عليّ؛ لأنه كان عنده بمنزلة الولد، فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه، وأن هذه الأوصاف يتَّصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن عمد”([20]).

هذه تخريجات بعض العلماء، مع أننا نرى أن المسألة ليست في حاجة إلى مثل هذه التخريجات حين نضع السبَّ في معناه الذي أرادته العرب وهو العيب والتنقص؛ فليس معاوية -رضي الله عنه- ولا غيره من الصحابة بمعصوم، ونحن نثبت قِتاله لعليّ وهذا أعظم من عيبه لعليٍّ، بل هو متضمّن له؛ لأنه لو لم يعبه ما قاتله، كما أن هذا السب لم يثبت من قول معاوية بل من سؤاله سعدًا. فمعلوم أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لم يشارك أيَّ الفئتين في الفتنة، فسأله معاوية عن سبب عدم مشاركته معه وأنه لم يسب عليًّا، أي: لم يعب عليه ما ذهب إليه من عدم تسليم قَتَلَةِ عثمان، وهو محل الخلاف بين علي ومعاوية.

بطلان الروايات التاريخية التي فيها سنُّ معاوية لسبِّ عليٍّ:

وكذلك الشأن في الروايات والأخبار التي يتناقلها المؤرِّخون وأهل الأدب ممن ينقلون الخبيث والطيب والغثَّ والسمين، والتي فيها أن معاوية هو من سنَّ سنَّة لعن عليٍّ وسبِّه على منابر المسلمين، وكلُّ ذلك لا خطام له ولا زمام، وإنما يروِّجه أهل الرفض والبهتان، والمغفَّلون من أهل السنة.

قال الألوسي -رحمه الله-: “وما يذكره المؤرخون من أن معاوية -رضي الله تعالى عنه- كان يقع في الأمير -كرم الله تعالى وجهه- بعد وفاته، ويظهر ما يظهر في حقه، ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يعوَّل عليه أو يلتفت إليه؛ لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب، ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف، وأكثرهم حاطب ليل، لا يدري ما يجمع، فالاعتماد على مثل ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمَهمَه الذي تضل فيه القطا ويقصر دونه الخطا مما لا يليق بشأن عاقل، فضلا عن فاضل”([21]).

وقال الشيخ محمد العربي التُّبَّاني رادًّا هذه التّهمة: “أقول: لم يثبت عن معاوية -رضي الله عنه- أنه سبَّ عليًّا أو لعنه مرةً واحدةً، فضلًا عن الاهتمام به والتشهير به على المنابر، وقد تقدَّم ثناؤه وترحُّمه عليه في أثر ضمرة بن حمزة الكناني وغيره، فكلامه -أي: الخضري- هذا باطل لا أصل له عنه رضي الله عنه”([22]).

مقابلة الدعوى بما هو أقوى منها:

إن صحَّت هذه الشبهة فإنها معارضة بما هو أقوى منها في الحجة والبيان، وتلخيص ذلك في أمور:

الأول: دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بقوله: «اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِ بِهِ»([23])، وفيها أبلغ الرد على تلك الشبهة.

الثاني: ثناء معاوية على علي -رضي الله عنهما-، يقول الحافظ ابن كثير: “وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية، فقالوا له: أنت تنازع عليًّا أم أنت مثله؟ فقال: والله، إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني”([24]).

وقال جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟! فقال: ويحك! إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم([25]).

الثالث: ثناء سعد بن أبي وقاص على معاوية -رضي الله عنهما- حيث يقول: “ما رأيت أحدًا بعد عثمان أقضى بحقّ من صاحب هذا الباب -يعني: معاوية”([26]).

وبهذا يتَّضح جليًّا وهاءَ تلك الشبهات، بأن معاوية سبَّ عليًّا -رضي الله عنهما- أو أمر بهذا؛ فإن معاوية كان موصوفًا بين الصحابة بالفقه والعلم، والفضل والدين والحلم، وكرم الأخلاق([27]).

ولو فرضنا حصول مثل هذا السب أو غيره من معاوية أو غيره من الصحابة الكرام فلا يضرهم ذلك ولا ينقص مرتبتهم، فقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهو مغمور في بحار فضائلهم وحسناتهم. وقد وقع بين الصحابة -رضي الله عنهم- القتال وهو أعظم من السب، فهذا لا ينقص من قدرهم رضي الله عن الجميع.

والصحبة لا تقتضي العصمة، فالصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بشر من البشر، يرضون ويغضبون، ويقوون ويضعفون، ويصدر منهم في حال الغضب في حقِّ بعضهم ما يصدر من غيرهم، ولكنهم سبقوا باكتحال أعينهم برؤية خير البرية وأزكى البشرية، وسعدوا بصحبته ونصرته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وأما ما ذكره -أي: الرافضي- من لعن علي فإنَّ التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة، وكان هؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم، وهؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم، وقيل: إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى، والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان، وهذا كله -سواء كان ذنبًا أو اجتهادًا، مخطئًا أو مصيبًا- فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك؛ بالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك”([28]).

وما أجمل عبارة الأعمش حيث قال: “حدَّثناهم بغضب أصحاب محمد الله صلى عليه وسلم فاتخذوه دينًا”([29]).

فليتق اللهَ أصحابُ الأهواء وأشياعهم.

ولعل من فوائد تلك الهجمة الشرسة على الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- تعريف الناس ببعض صفاته، وكريم خصاله، كما قال حبيب الطائي:

وإذَا أرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيلَة طُوِيَتْ أتَاحَ لهَا لِسانَ حَسُودِ

لَولَا اشْتِعالُ النَّار فِيمَا جَاوَرتْ مَا كانَ يُعرف طِيبُ عَرْفِ الُعودِ

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه البخاري (3673) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومسلم (2540) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([2]) أسنده الطبري في تفسيره (23/ 288).
([3]) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 93).
([4]) ينظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (2/ 308).
([5]) ديوان الأعشى (46)، وينظر: الزاهر في معاني كلمات الناس للأنباري (2/ 164).
([6]) تفسير الطبري (22/ 395).
([7]) أخرجه أحمد (29/ 426)، والترمذي (3842)، من حديث عبد الرحمن بن أبي عُمَيرة -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 615).
([8]) أخرجه مسلم (2404)، والترمذي (3724)، واللفظ لمسلم.
([9]) المحيط في اللغة (2/ 245).
([10]) الصحاح (1/ 144) مادة: (سبب). وينظر: مقاييس اللغة (3/ 63)، والنهاية في غريب الحديث (2/ 330).
([11]) لسان العرب (12/ 318).
([12]) ينظر: المطلع على ألفاظ المقنع، للبعلي (ص: 187).
([13]) أخرجه البخاري (30).
([14]) أخرجه البخاري (4141)، ومسلم (2770).
([15]) ينظر: المعلم بفوائد مسلم (3/ 246-247)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 415)، والإفصاح عن معاني الصحاح (1/ 348)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 278-279)، وشرح النووي على صحيح مسلم (15/ 175).
([16]) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 175).
([17]) المعلم بفوائد مسلم (3/ 247).
([18]) صحيح البخاري (4033).
([19]) أخرجه البخاري (7305).
([20]) فتح الباري (6/ 205).
([21]) صب العذاب على من سب الأصحاب (ص: 421).
([22]) تحذير العبقري من محاضرات الخضري (2/ 198).
([23]) تقدم تخريجه.
([24]) البداية والنهاية (11/ 425).
([25]) المرجع نفسه (11/ 428).
([26]) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 160-161)، وأورده الذهبي في تاريخ الإسلام (2/ 544)، وسير أعلام النبلاء (3/ 150).
([27]) ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 278).
([28]) منهاج السنة النبوية (4/ 468).
([29]) ينظر: سير أعلام النبلاء (2/ 394).
 المصدر مواقع سنة وشيعة

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top