0

التحدي الذي يفرضه التاريخ والنصوص الدينية والتربية الروحية والسلوك الأخلاقي على السنة والشيعة، يدفعهما لمواقف نفسية محددة، فيها تمايز واضح يمكن رصده وتشخيصه. ويؤثر في صياغة هذه الحالة النفسية مواقف الطرفين من آل البيت، ومواقفهما من بعضهما البعض.

هذه محاولة لتقصٍ توصيفي لتلك الحالات النفسية، والربط بين أسبابها ونتائجها وتداعياتها، وبالطبع لا يقصد بهذا التوصيف كل فرد بعينه، لكنه توجه عام يغلب أن يتجسّد فيمن ينتمي لهذا المذهب أو ذاك.

الأصل والاستثناء ونفسية الأقلية:

يرى السنة أنفسهم امتداداً طبيعياً لجيل الصحابة الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يعتبرون أنفسهم الاستمرار الأصيل للدعوة النبوية، والخط الأصلي الممتد لجماعة المسلمين. ثم إن المنظومة العقدية والفكرية والتربوية والفقهية لدى السنة تشكلت في عهد النبوة، وبفهم الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك فإن من جاء بعدهم من التابعين وأتباع التابعين يرون أنفسهم داخل هذه المنظومة وفي إطارها. هذا الشعور بالأصالة عند أهل السنة يطرد الهواجس، ويُطمئن النفس بالمنهج، ويرسخ الثقة بالأسلاف، ولذلك ترى الانتماء عند أهل السنة طبيعي على قاعدة (نحن نحن) بدون عقد نفسية من الانتماء.

الشيعة لا ينكرون أن الوجود الشيعي كان شبه معدوم من الناحية البشرية وقت النبوة والصحابة، ولم يتبنَ التشيع إلا عدد قليل جداً من الصحابة (أقل من عشرة) الذين يسمونهم المنتجبين(1). وحتى بعد الصحابة لم يتشكل الشيعة في مجتمعات ظاهرة ولا مؤسسات سياسية، بل إن بنيتهم الاجتماعية بقيت رهينة الجيوب الخاصة، ولم تجد طريقها لبناء سياسي وهيمنة سلطوية، إلا في حالات استثنائية في التاريخ، لا تمثل السياق العام زماناً ولا مكاناً ولا عدداً(2). وحتى على المستوى العقائدي الشرعي، يقر الشيعة بأن التشيع بمفهومه الاثنى عشري، لم يبدأ في التشكل كمذهب عقدي واضح إلا بعد قرن ونصف من الهجرة، ولم يكتمل إلا بعد ثلاثة قرون(3).

النتيجة: نفسية الأقلية والتعلق بالمهدي:

لهذا السبب يعترف الشيعة في أدبياتهم بأن السنة هم الأصل، وأن الشيعة استثناء إلى درجة أنهم يسمون السنة (العامّة)(4) أي عامة الناس، بمعنى أنهم هم الخاصة (الأقلية). ولذلك يعيش الشيعة هاجس السنة في كتاباتهم وفي نظرتهم للتاريخ، وفي حياتهم الاجتماعية وفي حياتهم السياسية وفي تربيتهم الشخصية.

وفي جولة سريعة في كتابات الشيعة الفقهية والعقدية والاجتماعية القديمة والحديثة، يلاحظ القارئ عمق الهاجس بالسنة أو "المخالفين"(5). ولأن التاريخ أثبت أن قَدَر الشيعة هو الأقلية، ولا يمكن بالمقاييس التاريخية الراهنة أن يسود الشيعة، فلا توجد وسيلة لتغيير هذا القدر المحتوم، إلا أن تكون قفزة فوق التاريخ، تحول الشيعة فجأة من أقلية مغمورة لأغلبية مهيمنة. ولا يحقق مثل هذه القفزة إلا شخصية خيالية، تخترق الثوابت التاريخية، وتمثل مخرجاً إعجازياً من المجتمع المحدود إلى الهيمنة الكاملة. وهذا ما يجعل إنجازات المهدي في أدبيات الشيعة مرتبطة بهذه العقدة، فهي معظمها تمكين للشيعة وتحويلهم لأغلبية، وسحق الأغلبية الحالية (السنة) لأنهم أعداء آل البيت، وليست لسلطة الإسلام في الأرض(6).

النجاح والفشل والتعويض بالمهدوية:

تعتبر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عند السنة أنجح الدعوات في التاريخ، تربوياً وحضارياً واجتماعياً وسياسياً، وكل ما حصل فيها هو مما يقتدى به. وكذا سيرة الخلفاء الراشدين التي كانت نجاحاً في القضاء على الردة، وفي فتح الفتوح وتنظيم شؤون الدولة وغيرها من الإنجازات.

وحتى بعد الخلافة الراشدة ينظر السنة للجوانب الإيجابية في فترة الدولة الأموية والعباسية والعثمانية والمماليك، في علو شأن المسلمين وبسط هيمنة الإسلام على رقعة واسعة من العالم.

الشيعة من جهتهم لا يعترفون بهذه النجاحات؛ لأن النجاح عندهم مرتبط فقط بمدى تمكين الأئمة، وأول فشل عندهم هو فشل النبي عليه الصلاة والسلام (حاشاه) في التربية، حيث لم تنتج تربيته إلا مجتمعاً من المتآمرين على إقصاء حق الأئمة(7). وما دام الصحابة تمالؤا على إقصاء علي بن أبي طالب ثلاث مرات، فهذا فشل تاريخي آخر في حياة الخلفاء الراشدين. وحتى تولي علي الخلافة لم يكن نجاحاً بالطريقة التي يفترضونها، بل كان تمكيناً ناقصاً، ولم يحقق التخلص من الذين خذلوه.

أما ما حصل بعد ذلك من خلافة الأمويين والعباسيين، فقد كان فشلاً أعظم، بل كارثة حلت بالأمة طبقاً لحساباتهم، ولا قيمة لكل ما قدمه الخلفاء حتى العادلين منهم ما داموا لم يمكنوا لآل البيت(8).

النتيجة: اللجوء إلى حل خارق للسنن الكونية والنواميس التاريخية:

ما دامت التجربة التاريخية أثبتت أنه حتى القيادة والتربية النبوية لم تنجح، ولم يتحقق التمكين لآل البيت على مدى قرون طويلة فما هو المخرج؟

المخرج هو نفس مخرج إشكالية الأقلية، وذلك بتغيير قواعد التاريخ بقدرات خارقة وتصورات إعجازية، بشخصية المهدي الأسطورية، وطريقة خروجه التي تخالف قوانين الكون ونواميس الحياة. ولذلك تجد في أدبياتهم مبالغات في تمكين المهدي، وسيطرته المطلقة، وشفاء غليلهم في الصحابة بإحيائهم والانتقام منهم(9). هذه الحكايات التي لا تتفق مع سنن التاريخ، وتناقض مسيرة الحركة البشرية، لا يمكن تفسير اللجوء إليها إلا كبواعث نفسية، للتعويض عما يرونه فشلاً متتابعاً على مدى قرون طويلة في تمكين الأئمة، وحلاً إعجازياً في تحويل الفشل إلى نجاح.

التاريخ الإسلامي فخر السنة ومصائب الشيعة:

في نظرتهم للتاريخ، يعتقد أهل السنة أن البعثة والهجرة، وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفتح مكة، ثم ما حصل في حكم الخلفاء الراشدين، المثل الأعلى في التاريخ والنموذج الأمثل للافتخار. وشعور السنة بذلك طبيعي؛ لأن الصحابة رموزهم التي يفتخرون بها، ونماذجهم العظيمة التي لا يتفوق عليها أي نموذج في التاريخ. أما ما جرى بعد ذلك في التاريخ الإسلامي، خاصة في الدولة الأموية والعباسية والمماليك والعثمانيين، فيفتخرون بما فيه من الفتوحات والانتصارات، ولا يقرّون ما حصل من ظلم واستبداد وفساد، لكن لا يعيشون هاجسه، ومن ثم لا يعانون من عقدة في الانتماء.

في المقابل لا يمثل هذا التاريخ للشيعة أي فخر؛ لأن هذه الأمجاد إنما هي إنجازات الذين ظلموا آل البيت، وأقصوهم، وقتلوا بعضهم، ومن ثم فالافتخار بهذه الإنجازات، هو بالضرورة افتخار بالأعداء(10). ولذلك يجد الشيعة أنفسهم أمام فراغ تاريخي كبير، يمتد لمئات السنين، لا تشكل فيه هذه الأمجاد شيئاً، والأمم بطبعها لا تقبل خلو تاريخها من الأمجاد(11)، خاصة إذا كانت تمتد لمئات السنين؛ فكيف حل الشيعة هذه المشكلة النفسية؟

النتيجة: تضخيم تاريخ آل البيت ومآثرهم وجرائم لخصومهم:

الحل هو في محاولة تعويضية لتعبئة هذا الفراغ في الانتماء التاريخي، وذلك بتضخيم وتهويل قصص أهل البيت، وما تعرضوا له من ابتلاء ومظالم، والإسهاب والإطناب في ذكر التفاصيل الدقيقة التي تكاد تشبه الروايات القصصية المعدة للتمثيل والأفلام(12). ولذا فإن المعالم الهامة في التاريخ، عندهم محدودة في قصة غدير خم، وحادثة السقيفة، ومعركة الجمل، وصفين، وذروة التاريخ كله هي فيما حصل للحسين رضي الله عنه. والوصف التفصيلي الدقيق لما حصل لآل البيت، يفوق تفاصيل السيرة النبوية والأحداث المفصلية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث عن مآثر وشجاعة وقدرات الأئمة الاثني عشر، يفوق مآثر أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وفي المقابل تمتلئ الأدبيات بحكايات الجرائم المنسوبة لخصومهم، التي تضاهي في حجمها ما يتداوله السنة عن مآثر نفس الشخصيات. ولأن هذه الروايات ناتجة عن حالة نفسية للتعويض وليست حقيقية، فبالطبع لن يكون لها إسناد أصلاً، أو يكون إسنادها متهالكاً، لا يُعتمد عليه في الرواية(13).

أداء حق آل البيت والتقصير في حقهم:

يتعامل السنة مع آل البيت تبعاً لما ورد لديهم، من وجوب مودتهم، والصلاة عليهم، وأداء حقهم من بيت المال، ولا يعتقدون أن لهم حقاً خاصاً في الولاية ولا الإمامة. ويقر أهل السنة بما حصل لبعض آل البيت من مظالم، لكنهم لا يعيشون هذا الهاجس، ولا يعتقدون أن آل البيت تم استهدافهم قصداً بالإقصاء والقتل أو الاغتيال؛ بل إن أهل السنة يعتقدون أن مظالم آل البيت كانت استثناء في التاريخ الإسلامي، وأنهم في الجملة كانوا مقدرين محترمين، قد أُمنّت حقوقهم من قبل الأمة ومن قبل الحكام.

أما الشيعة فيعتقدون أن الظلم والإقصاء والقتل والكيد والتآمر هو قدر آل البيت، وأن الشيعة ذاتهم قصروا في حقهم ولم يساهموا في تمكينهم في الإمامة بشكلها الكامل، ولم يحموهم كما ينبغي(14). وحتى علي بن أبي طالب وهو الإمام الوحيد الذي تمكن سياسياً بسلطة، لم يتمكن إلا بعد ثلاثة خلفاء، بل إن وصوله للحكم لم يكن بجهد من الشيعة، بل ببيعة الصحابة رضي الله عنهم(15)، لكن تقصيرهم الأعظم كان مع الحسين بن علي رضي الله عنه، والذي يعتبرون خذلانه أكبر خذلان في التاريخ.

النتيجة: تعذيب النفس والعيش بعقدة الذنب:

يعالج الشيعة هذه المشكلة بطقوس تعذيب النفس، بأشكال مختلفة ليس أقلها اللطم، وضرب الجسد بالحديد، وجرح الرؤوس بالسيوف، وتقطيع الجلد بالسكاكين ... إلخ. وهم يستمتعون بهذا التعذيب، ويجدون فيه إشباعاً بسبب قوة مشاعر المسؤولية بالتقصير التي تنتابهم تجاه الحسين.

كما أن أدبياتهم مليئة بعقدة الذنب، وتحميل أنفسهم مسؤولية ما أصاب الحسين، والتي توجد على شكل روايات كثيرة. ويجتهد الشيعة في مجالس العزاء الحسيني بالبكاء والنحيب، ويطيلون البقاء لاستماع التفاصيل الدقيقة عن اللحظات الأخيرة في حياة الحسين، حتى تكون بمثابة إخراج لما في الباطن من لوم للذات، وتقريع للنفس على الخذلان والتقصير في حق الحسين، بطريقة شبيهة في تعامل النصارى مع قصة صلب المسيح(16).

السنة والشيعة من يحتوي ومن يُقصي؟

ليس عند السنة مشكلة مع علي والحسن والحسين رضي الله عنهم، بل يعتبرونهم مشهود لهم بالجنة ومن كبار الصحابة، ويتعبدون الله بحبهم، ولذلك فإن موقف السنة من الشيعة لا يخضع لأي إسقاط مرتبط بالموقف من هؤلاء. وقد ثبت في التاريخ أن السنة الذين كان التمكين من نصيبهم في معظم فترات التاريخ الإسلامي، لديهم القدرة على استيعاب الشيعة؛ لأنهم لا يعيشون عقدة بغض للأئمة، ولا هاجس الشيعة، ومن ثم لا يستهدفونهم كطائفة إلا إذا في حالات الاستفزاز.

أما الشيعة فيعتبرون الصحابة متآمرين في استبعاد علي بن أبي طالب، وبما أن السنة يعظمون الخلفاء الثلاثة، فإن كل السنة ورثة لمسئولية هذه الجريمة. وعلى نفس المنوال لأن السنة يعترفون في الجملة بخلافة بني أمية وبني العباس، فإن كافة السنة في القديم والحديث يرثون مسئولية ما أصاب الأئمة الاثني عشر من أذى في العهدين الأموي والعباسي، خاصة الحسين رضي الله عنه.

النتيجة: حقد ورغبة بالانتقام، وعجز عن الاحتواء:

هذا الموقف يصنع نتيجة تلقائية، هي حقد الشيعة على كل من يعتبر نفسه امتداداً للصحابة والتابعين وخلفاء بني أمية وبني العباس، وبهذا لا يستطيع الشيعي من الناحية النفسية تفادي الحقد على السني؛ لأنه يرى فيه هذا الامتداد للمسئولية تجاه ما حصل لآل البيت.

هذا الحقد يترجم بنزعة طبيعية للانتقام من السنة، تفسر ما يصيب السنة من أذى كلما توفر للشيعة سلطة أو فرصة. ولهذا السبب لا يمكن أن تشتمل النفسية الشيعية على استيعاب السنة، ويصعب تصور سلطة تدار من قبل الشيعة قادرة على استيعاب السنة. ولذلك فإن استهداف السنة بالاعتقال والتعذيب والقتل والاغتصاب في العراق مثلاً، لم يكن تصرفاً متكلفاً أو مرتبطاً بثارات من آثار حكم صدام، بل هو تصرف طبيعي مرتبط بهذه الإسقاطات النفسية عندهم(17).

الصحابة وكتب الحديث والبديل:

يثق السنة بعدالة الصحابة ويثقون بمنهجية أهل الحديث في الرواية والتصحيح والتضعيف، ويتعامل السنة بطمأنينة وارتياح للكتب التي اتفق أئمة الحديث على صحتها مثل البخاري ومسلم، كما يتعاملون بثقة بالأسس التي يحكم بها على ما جاء في الكتب الأخرى، ويعتمدون عليها دون وساوس ولا شكوك.

أما الشيعة فحتى الذين يتحاشون تكفير وتخوين الصحابة، يقرون بعدم الاعتراف بعدالتهم ورفض رواياتهم، وتبعاً لذلك لا يقبلون بكتب الحديث السنية. وبدلاً من ذلك يعتمد الشيعة على (الكتب الثمانية)(18) المروية عن الأئمة، والتي نقلها عنهم أصحاب الأئمة، ولا يشكل فيها المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا نسبة لا تذكر.

هذه الكتب لم تكن خاضعة لقواعد محددة في التصحيح والتضعيف، ويكفي زعم المؤلف صحة رواياته كشهادة عن صحتها(19). ولم يبدأ النظر في الأسانيد وعلم الرجال، إلا بعد القرن التاسع الهجري، أي بعد آخر الأئمة بـ 650عام(20).

النتيجة: الخيالات الجامحة بدلاً من المنطق والشمول:

عدم المبالاة بالأسانيد، وعدم التدقيق في موافقة المتن لصريح القرآن، والمنطق البشري الطبيعي، جعل تلاوة الروايات الصادرة من خيال المتحدث أو الكاتب، أمراً سهلاً ما دامت الروايات الأصلية التي بني عليها المذهب غير خاضعة للتدقيق. وهذا يفسر كثرة القصص الغارقة في الخرافة التي نراها قد ملأت اليوتيوب حالياً؛ لأنه لا توجد مقاييس تحكم على دقة هذا المتحدث فيسترخي في خيالاته. والحقيقة فإن هذه الخيالات الجامحة، حل مفيد لمشكلة خلو الروايات الشيعية من محتوى مقنع منطقاً وشمولاً، فيكون التحليق العاطفي بالجمهور بديلاً(21).

تعويض الروحانية بالطقوس الشكلية:

نظراً لأن الدين عند أهل السنة مرتبط بعلاقة العبد بربه دون أي هواجس أو قضايا جانبية؛ فإن القرب من الله والتلذذ بالعبادة والتمتع بالروحانية يتم بالحرص على النوافل التي تقرب إليه، وخاصة قراءة القرآن وقيام الليل. وكل سني يستطيع أداء ذلك كفرد أو جماعة، وليس بحاجة لطقوس معينة، أو وسائل خاصة يتقرب فيها لله.

أما عند الشيعة فلا تخلو كتبهم من الحث على قيام الليل وقراءة القرآن، لكن الزخم العام للتربية الروحية ليس مرتبطاً بالاهتمام بذلك، بل ملتصق جداً بما له علاقة بآل البيت. والنصوص في الكتب الشيعية تحشر آل البيت في كل شيء، سواء في مخاطبة الله سبحانه، أو في العلاقة مع بقية الكائنات الحية وغير الحية، أو مع الجن والملائكة، أو في تفسير الظواهر الطبيعية والأحاسيس البشرية.

النتيجة: طقوس الروحانية كلها مرتبطة بآل البيت:

لهذا السبب فإن البديل عند الشيعة في التلذذ بالعبادة هو حضور جلسات العزاء، سواء للحسين أو للائمة الآخرين، والتطويل في حكاية قتل الحسين وصياغتها بطريقة تفاعلية مع الجمهور، بطريقة تجعل لها متعة روحية هائلة عند الشيعة.

شكل آخر من أشكال المتعة الروحية، هو زيارة أضرحة الأئمة بطقوس ومراسيم معينة، ولكل ضريح زيارة خاصة وبرنامج وأدعية خاصة.

شكل ثالث من أشكال المتعة الروحية، هو الإكثار من المناسبات الدينية المرتبطة بآل البيت. ولهذا فميلاد كل إمام ووفاته وأربعينيته لها قدسية توفر أكثر من 30 فرصة سنوياً للشيعة، بالتمتع بشيء من الطقوس الروحية التي يتسابقون في اختراع الأساليب المناسبة للتعبير عنها(22).

الأخلاق بين المسؤولية والتقية:

يتعامل السنة مع الأمانة والصدق والوفاء تعاملاً مجرداً خاضعاً للخوف من الله، والمسئولية في الحذر من صفات المنافقين، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. ويؤمن السنة بوجود هامش للتورية، وهامش آخر للتقية، وهامش ثالث للتحايل الشرعي، ورابع للمكر بالأعداء، لكنهم يعتبرون هذه الهوامش استثناء، ويضعونها في سياقها المحدود والخاص.

الشيعة من طرفهم يتبنون التقية كأساس في التعامل لا كاستثناء، كما تدل على ذلك مروياتهم، التي تشير إلى كثير من مواقف الأئمة المبررة بالتقية، والمتعارضة مع شجاعتهم، ورباطة جأشهم. والتقية عند الشيعة ليست للاضطرار ولا للخوف، بل هي مستحبة على كل حال، حتى لو أمن الشيعي الضرر. الأخطر من ذلك أن كثيراً من المرويات ليس فيها دليل على اقتصار التقية مع الأعداء أو المخالفين، بل هي روايات عامة عن مشروعية التقية هكذا(23).

النتيجة: القابلية للشك بالآخرين والتوسع في المعاذير:

من الطبيعي أن يستحضر الفرد الشيعي في معاملاته ممارسة الأئمة المعصومين للتقية باستمرار في تعاملاتهم، ويتذكر حثهم عليها، واعتبارها أصلاً عظيماً في الدين؛ فإذا كان الإمام المعصوم المؤيد من عند الله غارقاً في التقية إلى شحمة أذنيه؛ فما الذي يمنع الشيعي الضعيف غير المعصوم من استخدامها؟

هذا الاستحضار الذي يخترق اللاشعور، يدفع الشيعي لأن يلجأ للتقية حتى في حياته العادية ومع بني مذهبه، خاصة وأن المرويات لا تقصر استخدام التقية مع المخالفين. هذه الممارسة تفتح الباب بقوة لانتشار الشك وسوء الظن في المجتمعات الشيعية؛ لأن كل فرد يعتقد أن الثاني يفكر ويتعامل بنفس طريقته وفهمه. وفي بعض المجتمعات الشيعية تنتشر هذه الظاهرة لدرجة أنهم يثقون بالسنة أكثر من ثقتهم ببني مذهبهم، خاصة في قضايا الأموال والأعراض(24).

أخيراً:

فهذا جهد ذهني تقديري ليس فيه استقصاء ولا شمول، ويمكن بالعمل على غراره التعرف على حالات نفسية أخرى لدى الطائفتين. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الصحابة المنتجبون قيل 3 وقيل 4 وقيل 7 وقيل أكثر، جاء في كتب الشيعة أن كل الصحابة خانوا العهد وارتدوا إلا هؤلاء. والروايات الشيعية في تحديد عدد الصحابة المنتجبين كثيرة منها ما رواه الكليني عن الباقر قوله: " المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا - وأشار بيده - ثلاثة". (الكافي 2/244). وراجع كذلك الاختيار في معرفة الرجال للكشي (ص 5-10).

(2) تمكن الشيعة أيام الدولة الفاطمية في مصر والدولة الصفوية في فارس كسلطة كاملة، أما تمكنهم أيام بني بويه في خلافة العباسيين، فقد كانت أقرب للوزارة من السلطة الكاملة تحت ظلال الخليفة العباسي.

(3) لم يبدأ التشيع يأخذ مذهباً واضحاً مستقلاً إلا بعد ظهور جعفر الصادق المتوفي 148 هـ، ولم يكتمل تشكل المذهب فكرياً إلا بظهور الكتب الأربعة الأولى، وعلى رأسها الكافي الذي ألفه الكليني المتوفي 329 هـ.

(4) استخدام لفظة "العامة" في الإشارة لأهل السنة جاء مبكراً جداً، حيث ينسب في كتب الشيعة لجعفر الصادق في أحاديث الكليني.

وفيه عبارة "قال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد." الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - الصفحة 68.

(5) (6) عبارة تلخص ما ذكرناه عن نفسية الأقلية، وانتظار المهدي جاءت في كتاب بحار الأنوار للمجلسي حيث يقول "بل يظهر من كثير من الروايات أن المخالفين في حكم المشركين والكفار في جميع الأحكام، لكن أجرى الله في زمان الهدنة حكم المسلمين عليهم في الدنيا رحمة للشيعة، لعلمه باستيلاء المخالفين، واحتياج الشيعة إلى معاشرتهم، ومناكحتهم، ومؤاكلتهم، فإذا ظهر القائم عليه السلام، أجرى عليهم حكم المشركين والكفار في جميع الأمور" بحار الأنوار 16/66.

(7) اتهام النبي عليه الصلاة والسلام بالفشل (حاشاه)، مبثوب بشكل ضمني في كل كتب الشيعة، لكن لم أطلع على تصريح بكلمة فشل، إلا عند الخميني في خطبة ألقاها بمناسبة ذكرى مولد المهدي في 15/شعبان/1400 هـ قال: "لقد جاء الأنبياء جميعاً من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم، لكنهم لم ينجحوا، حتى النبي محمد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية وتنفيذ العدالة، لم ينجح في ذلك" (نهج خميني ص46).

(8) نموذج لتعامل الشيعة مع العهد الأموي والعباسي كتاب: (أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم، تأليف: آية الله جعفر السبحاني).

(9) من نماذج ذلك: ما ينقله المجلسي عن جعفر الصادق زعمه تفاصيل خروج المهدي، ونبش قبري أبي بكر وعمر وإحيائهما، ثم يحاكمهما على ما يزعم من الجرائم فيقول: "كل ذلك يعدده عليهما ويلزمهما إياه فيعترفان به، ثم يأمر بهما فيقتص منهما في ذلك الوقت بمظالم من حضر، ثم يصلبهما على الشجرة، و يأمر ناراً تخرج من الأرض فتحرقهما والشجرة، ثم يأمر ريحاً فتنسفهما فِي الْيَمِّ نَسْفاً" بحار الأنوار ج: 53 ص: 12.

(10) روايات الشيعة المعتبرة تتعامل مع أبي بكر وعمر وعثمان كأعداء، ومن يزعم غير ذلك من الشيعة مضطر لأن ينكر الإمامة، لأن من يؤمن بالإمامة بصدق لا بد أن يعتبرهم أعداء وخونة ومرتدين، كونهم تآمروا على إنكار تعهدهم للنبي صلى الله عليه وسلم بإمامة علي. أما خلفاء بني أمية وبني العباس فعدائهم صريح ولا يبذل الشيعة أي جهد في إخفائه.

(11) الافتخار بأمجاد الأسلاف طبع بشري شائع في كل المجتمعات حتى البدائية منها، ويتشكل ذلك إما في الأغاني والفلكلور، أو في الكتابات والأعياد، أو في أي مظهر آخر.

(12) يروي الشيعة كل ما دار في موقعة كربلاء بتفاصيلها المزعومة، والتي تملأ مئات الصفحات من الحوار المسهب، وعادة ما يجري تمثيله حقيقة في مجالس العزاء أمام الجمهور. والتفاصيل في هذا الفيلم المصور ليست خيالات كاتب سيناريو، بل هي مدونة في كتبهم يزعمون أنها حدثت هكذا بتفاصيلها.

(13) لا يثبت من تفاصيل موقعة كربلاء بأسانيد صحيحة إلا أقل من 5 من الروايات مما هو ثابت في كتب السنة، وأما الباقي فهو إما بأسانيد متهافتة، أو بدون أسانيد، هكذا يروى معلقاً.

(14) مظلومية آل البيت لم تكن قضية رصدت عن طريق الملاحظة بعد مرور الزمن، بل إن روايات الشيعة تتحدث عنها كقدر محتوم قبل ظهور المهدي، حيث ينقل نهج البلاغة عن الباقر قوله في حديث طويل: "ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا … إلخ".

(15) روي عن الباقر إجابته عن سؤال: لماذا لم يتحرك جده علي بن أبي طالب، فكان مما قال: "فما بال أمير المؤمنين عليه السلام قعد عن حقّه حيث لم يجد ناصراً، أو لم تسمع الله تعالى يقول في قصّة لوط عليه السلام: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود:80]، وفي حكاية عن نوح: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر:10]، ويقول في قصة موسى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة:25]، فإذا كان النبي هكذا فالوصي أعذر. يا جابر مثل الإمام مثل الكعبة يؤتى ولا يأتي".

كفاية الأثر/ الخزاز: 247 وبحار الأنوار ج 36 ص 357.

(16) التشابه بين الشيعة والنصارى لا يقف عند تشبيه قتل الحسين بصلب المسيح، بل هناك تشابه في أمور كثيرة، مثل تشابه تراتيب الحوزة مع سلم الكرادلة، وتشابه تقديس مريم وتقديس فاطمة، و 12 إماماً مع 12 حواري، وتشابه في كثرة المناسبات الدينية، وتشابه في تصوير المسيح والحواريين في الكنائس، مقابل تصوير علي والحسين في الحسينيات، وتشابه في تقسيم الناس لمجتهد ومقلد عند الشيعة، مع تقسيمهم لقسيس وعامي عند المسيحيين. كل هذه التشابهات ليست موجودة عند السنة.

(17) هذا الإسقاط يفسر قدرة السنة على استيعاب الشيعة على مدى قرون كثيرة في العراق، حين كانوا هم المسيطرين على الوضع، وفي المقابل عجز الشيعة أن يستوعبوا السنة ولو لسنوات محدودة. والخطف والاعتقال والتعذيب والاغتيالات والمذابح التي تعرض لها السنة قبل وخلال الحرب الأخيرة، تصرف متوقع بسبب هذا الإسقاط.

(18) عمدة المذهب الشيعي على ثمانية كتب منها الأربعة القديمة والأربعة المتأخرة.

الأربعة القديمة هي:

- "الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليني توفي 329هـ.

- "من لا يحضره الفقيه" للصدوق محمد بن بابويه القمي توفي 381هـ.

- "تهذيب الأحكام" لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي توفي 360 هـ.

- "الاستبصار" للطوسي أيضاً.

والأربعة المتأخرة هي:

- "الوافي" لمحمد بن مرتضى الكاشاني توفي 1091 هـ.

- "بحار الأنوار الجامعة لددر أخبار الأئمة الأطهار" لمحمد بن باقر المجلسي توفي 1111هـ.

- "وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة" لمحمد بن الحسن الحر العاملي توفي 1104هـ.

- "مستدرك الوسائل" لحسين النوري الطبرسي توفي 1320هـ.

(19) لو طبق منهج التصحيح والتضعيف عند أهل السنة على الروايات الشيعية بكل تجرد، لن يصمد أكثر من واحد بالمئة من روايات الكتب الثمانية، وهذا الاعتقاد يحمله كثير من علماء الشيعة:

ويقول شيخ الطائفة الطوسي: "إن أحاديث أصحابنا فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد، حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا، وتطرقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا" تهذيب الأحكام 1\2. وينقل صاحب رجال الكشي، عن جعفر الصادق في ترجمة جابر بن يزيد الجعفي، الذي روى 70 ألف حديث عن الباقر، 140 ألف حديث عن غيره، معظمها عن جعفر نفسه؟ يقول: "والله ما رأيته عند أبي قط إلا مرة واحدة وما دخل علي قط". رجال الكشي الجزء 3 صفحة 191.. ومع ذلك يوثقه الكشي ويثق برواياته.

(20) أول من بدأ النظر في التصحيح والتضعيف وعلم الرجال، هو زين الدين العاملي المتوفي 965هـ، ومع ذلك فهو لا يقترب فضلاً عن أن يشبه طريقة أهل السنة. وبعد ذلك ظهرت المدرسة الأصولية بعد 1200هـ، وتوسعت أكثر من التدقيق في الإسناد إلى استخدام المنطق كبديل عن كثير من الروايات التي يستحيل تصديقها للعقل السليم.

(21) من ضرورات نجاح التحليق العاطفي بالجمهور: أن يكون لدى المتحدث صوت جيد وقدرة على الإلقاء الملحن بما يشبه المقامات الحزينة، ولا يكفي أن يكون عالماً وقادراً على الحديث.

(22) مناسبات الشيعة لا يكفي فيها التعبد الفردي بل لا بد من حضور نشاط ديني محدد بقيادة أحد المجتهدين، أو "الرادودين" لإحيائها وتحويلها لنشاط احتفالي بمهرجان حزن أو بكاء حسب الحالة. كما أن الأضرحة لها سدنتها ومطوفوها، ولكل ضريح مطبوعات بأدعية خاصة لكل ضريح.

(23) المرويات عن التقية عند الشيعة، ترفع التقية إلى جعلها ركناً من أركان الدين، وليس مجرد رخصة تنفعه عند الضرورة، تأمل هذه الأقوال المنسوبة للأئمة:

"التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له".

"لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً".

"ليس منا من لم يلزم التقية ويصوننا عن سفلة الرعية".

"التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين".

وقد نص ابن بابويه القمي، على أنها واجبة فقال "والتقيَّةُ واجبة، لا يجوز رفعها إلى أن يَخْرج القائم، فمن تركها قبل خروجه، فقد خرج عن دين الله تعالى، وعن دين الإماميَّة، وخالف الله ورسوله والأئمة" الاعتقادات 114.

راجع كتاب التقية في الفكر الإسلامي، إصدار مؤسسة الرسالة ص 74 وما بعدها.

(24) يتوسع مفهوم التقية عند الشيعة بسبب مرونته الفائقة، حتى يصل لمرحلة الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة)، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. وهذا ما جعل إيران مثلاً تتعامل مع التحديات الإقليمية والعالمية في كثير من الأحيان بطريقة فيها تغليب للمصلحة على المبادئ، والسبب هو أن المبدأ نفسه يجيز تغليب المصلحة اعتماداً على مبدأ التقية. وهذا هو نفس تفسير طريقة تصرف القيادة العراقية الملتزمة شيعياً، وذلك بالرضا بالتعامل مع الاحتلال إلى آخر مدى ضد السنة، واعتبار من يقاتل الاحتلال إرهابيين. وقد أشرت إلى هذه النقطة في مقال سابق في صحيفة التقرير (إيران الثورة.. مع أو ضد أمريكا؟)

المصدر: المختصر للأخبار

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top