منهج أهل السنة في العصمة 1
أحمد بن عبدالرحمن الصويان
بعد
هذا العرض لمنهج الرافضة في التلقي عن أئمتهم وأشياخهم، أنتقل إلى عرض
منهج أهل السُّنَّة في هذا الباب؛ حتى تتبين سلامة منهجهم واستقامته:
أولاً:
الطاعة المطلقة لا تكون لمخلوق إلا للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -:
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (والرسول صلى الله عليه وسلم
هو المبلِّغ عن الله أمره ونهيه، فلا يُطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو، فإذا
جُعل الإمام والشيخ كأنَّه إله يُدعى مع مغيبه وبعد موته، ويستغاث به،
ويطلب منه الحوائج - والطاعة إنَّما هي لشخص حاضر يأمر بما يُريد وينهى
عمَّا يُريد - كان الميت مُشبَّها بالله - تعالى -، والحيُّ مُشبَّها برسول
الله صلى الله عليه وسلم، فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا
إله إلا الله وشهادة أنَّ محمداً رسول الله)(1).
وقال
ابن تيمية في موضع آخر: (.. الإمام الذي شهد له بالنجاة: إمَّا أن يكون هو
المطاع في كلِّ شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين، وإمَّا هو مطاع فيما يأمر
به من طاعة الله ورسوله، وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أنَّ غيره أولى
منه، ونحو ذلك فإن كان الإمام هو الأول، فلا إمام لأهل السُّنَّة بهذا
الاعتبار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه ليس عندهم من يجب أن
يُطاع في كلِّ شيء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون كما قال
مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم: (كلُّ أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله
صلى الله عليه وسلم)، وهم يشهدون لإمامهم أنَّه خير الخلائق، ويشهدون بأنَّ
كل من ائتمَّ به، ففعل ما أمر به وترك كل ما نهى عنه، دخل الجنَّة...
وإن
أرادوا بالإمام الإمام المقيَّد، فذاك لا يوجب أهل السُّنَّة طاعته، إن لم
يكن ما أمر به موافقاً لأمر الإمام المطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه، فإنَّما هم مطيعون لله
ورسوله..)(2).
وقال أيضاً: (المعصوم تجب طاعته مطلقاً بلا قيد، ومخالفه يستحق الوعيد، والقرآن إنَّما أثبت هذا في حق الرسول خاصة، قال - تعالى -: {وَمَن
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِـحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]،
فدلَّ القرآن في غير موضع على أنَّ من أطاع الرسول كان من أهل السعادة،
ولم يشترط في ذلك معصوماً آخر، ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد، وإن
قُدِّر أنَّه أطاع من ظنّ أنَّه معصوم، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي
فرَّق الله به بين أهل الجنَّة وأهل النَّار، وبين الأبرار والفجار، وبين
الحق والباطل، وبين الغي والرشاد، والهدى والضلال، وجعله القسيم الذي قسَّم
الله به عباده إلى شقي وسعيد، فمن اتبعه فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقي،
وليست هذه المرتبة لغيره.
ولهذا
اتفق أهل العلم - أهل الكتاب و السُّنَّة - على أنَّ كلَّ شخص سوى الرسول
فإنَّه يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه يجب
تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، فإنَّه المعصوم الذي لا ينطق
عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو الذي يُسأل الناس عن يوم القيامة، كما
قال - تعالى -: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْـمُرْسَلِينَ} [الأعراف: ٦)..)(3).
ثانياً: أهل السُّنَّة لا ينتصرون إلا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال
ابن تيمية: (فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمَّة أكثر منه في
الرافضة، كما أنَّ الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمَّة
أكثر منه في أهل الحديث والسُّنَّة المحضة، الذين لا ينتصرون إلا لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم خاصته، وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون
لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله، ومقصودهم: نصر الله ورسوله)(4).
وذكر
في موضع آخر أنَّ الصواب مع أهل السُّنَّة والحديث دائماً، ولهذا فإن: (من
وافقهم كان الصواب معه دائماً لموافقته إيَّاهم، ومن خالفهم فإنَّ الصواب
معهم دونه في جميع أمور الدين، فإن الحق مع الرسول، فمن كان أعلم بسنته
وأتبع لها كان الصواب معه، وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله، ولا
يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته وأتبع لها، وأكثر سلف الأمَّة كذلك،
لكن التفرّق والاختلاف كثير في المتأخرين، والذين رفع الله قدرهم في الأمة
هو بما أحيوه من سنته ونصرته، وهكذا سائر طوائف الأمَّة، بل سائر طوائف
الخلق، كلّ خير معهم فيما جاءت به الرسل عن الله، وما كان معهم من خطأ أو
ذنب فليس من جهة الرسل)(5).
ثالثاً: ليس أحدٌ من البشر واسطة بين الله وخلقه في الخلق والرزق:
قال
ابن تيمية: (ليس أحد من البشر واسطة بين الله وخلقه في رزقه وخلقه، وهداه
ونصره، وإنَّما الرسل وسائط في تبليغ رسالاته، لا سبيل لأحد إلى السعادة
إلا بطاعة الرسل، وأما خلقه ورزقه، وهداه ونصره: فلا يقدر عليه إلا الله
تعالى، فهذا لا يتوقف على حياة الرسل وبقائهم؛ بل ولا يتوقف نصر الخلق
ورزقهم على وجود الرسل أصلاً، بل قد يخلق الله ذلك بما شاء من الأسباب
بواسطة الملائكة أو غيرهم وقد يكون لبعض البشر في ذلك من الأسباب ما هو
معروف في البشر، وأما كون ذلك لا يكون إلا بواسطة البشر، أو أنَّ أحداً من
البشر يتولى ذلك كله، ونحو ذلك: فهذا كله باطل)(6).
رابعاً: الردُّ عند التنازع لا يكون إلا لله وللرسول صلى الله عليه وسلم:
ذكر ابن تيمية قول الله - تعالى -: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، ثم قال: (فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالردِّ إليه، فدلَّ القرآن على أنَّه لا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم)(7).
وقال
في موضع آخر بعد ذكره للآية السابقة: (فلم يأمرنا بالردِّ عند التنازع إلا
إلى الله والرسول، فمن أثبت شخصاً معصوماً غير الرسول: أوجب ردّ ما
تنازعوا فيه إليه، لأنَّه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول. وهذا خلاف
القرآن)(8).
خامساً: مقالة أهل السُّنَّة في العصمة:
ذكر
ابن تيمية بأنَّ أهل السُّنَّة: (متفقون على أنَّ الأنبياء معصومون فيما
يبلِّغونه عن الله - تعالى -، وهذا هو مقصود الرسالة، فإنَّ الرسول هو الذي
يبلغ عن الله أمره ونهيه وخبره، وهم معصومون في تبليغ الرسالة باتفاق
المسلمين، بحيث لا يجوز أن يستقرَّ في ذلك شيء من الخطأ)(9).
ولهذا:
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم: (معصوم في التبليغ بالاتفاق، والعصمة
المتفق عليها: أنَّه لا يُقرّ على خطأ في التبليغ بالإجماع)(10).
فالرسول
صلى الله عليه وسلم هو المعصوم: (الذي لا ريب في عصمته، وهو رسول الله صلى
الله عليه وسلم الذي أرسله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى
الله بإذنه وسراجاً منيراً، الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور،
وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد، الذي فرق بين الحق والباطل، والهدى
والضلال، والغي والرشاد، والنور والظلمة، وأهل السعادة وأهل
الشقاوة..)(11).
من
أجل ذلك: فإنَّ أهل الحديث: (جعلوا الرسول الذي بعثه الله إلى الخلق هو
إمامهم المعصوم، عنه يأخذون دينهم، فالحلال ما حللّه، والحرام ما حرَّمه،
والدين ما شرعه، وكلّ قول يُخالف قوله فهو مردود عندهم، وإن كان الذي قاله
من خيار المسلمين وأعلمهم، وهو مأجور فيه على اجتهاده، لكنهم لا يُعارضون
قول الله وقول رسوله بشيء أصلاً: لا نقل نُقل عن غيره، ولا رأي رآه غيره.
ومن
سواه من أهل العلم فإنَّما هم وسائط في التبليغ عنه: إمَّا للفظ حديثه،
وإمَّا لمعناه، فقوم بلَّغوا ما سمعوا منه من قرآن وحديث، وقوم تفقَّهوا في
ذلك وعرفوا معناه، وما تنازعوا فيه ردُّوه إلى الله والرسول)(12).
سادساً: لا عصمة لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال
ابن تيمية: (والقاعدة الكلية في هذا: ألَّا نعتقد أنَّ أحداً معصوم بعد
النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ)(13).
وقال
أيضاً: (أهل السُّنَّة عندهم أن أهل بدر كلُّهم في الجنة، وكذلك أمهات
المؤمنين: عائشة وغيرها، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير: هم
سادات أهل الجنَّة بعد الأنبياء، وأهل السُّنَّة يقولون: إنَّ أهل الجنَّة
ليس من شرطهم سلامتهم من الخطأ، بل ولا عن الذنب؛ بل يجوز أن يذنب الرجل
منهم ذنباً صغيراً أو كبيراً ويتوب منه، وهذا متفق عليه بين المسلمين، ولو
لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم؛ بل وعند
الأكثرين منهم أنَّ الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها، وبالمصائب
المكفرة وغير ذلك)(14).
سابعاً: العصمة لمجموع الأمَّة:
بعد
أن تبين أنَّ العصمة لا تكون لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
يبين هنا ابن تيمية أن من فضل الله - تعالى - على هذه الأمة أنْ ضَمن
لمجموعها العصمة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، فقال: (والله - تعالى - قد ضمن
العصمة للأمَّة، فمن تمام العصمة أن يجعل عدداً من العلماء وإن أخطأ
الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق، ولهذا لما كان
في قول بعضهم من الخطأ في مسائل، كبعض المسائل التي أوردها، كان الصواب في
قول الآخر، فلم يتفق أهل السُّنَّة على ضلالة أصلاً)(15).
وقال
أيضاً: (.. فلهذا لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قوله في كلمة واحدة،
والحق لا يخرج عنهم قط، وكل ما اجتمعوا عليه فهو مـمَّا جاء به الرسول، وكل
ما خالفهم من خارجي ورافضي ومعتزلي وجهمي وغيرهم من أهل البدع، فإنَّما
يُخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من خالف مذاهبهم في الشرائع
العملية كان مخالفاً للسنَّة الثابتة..».
إلى
أن قال: (أهل الحديث لا يتفقون إلا على ما جاء عن الله ورسوله وما هو
منقول عن الصحابة، فيكون الاستدلال بالكتاب والسُّنَّة وبإجماع الصحابة
مغنياً عن دعوى إجماع ينازع في كونه حجة بعض الناس، وهذا بخلاف من يدَّعي
إجماع المتأخرين من أهل المدينة إجماعاً، فإنَّهم يذكرون ذلك في مسائل لا
نص فيها؛ بل النص على خلافها، وكذلك المدّعون إجماع العترة يدَّعون من
الإجماع الذي يزعمون أنَّه حجَّة.
وأمَّا
أهل الحديث: فالنصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عمدتهم،
عليها يُجمعون إذا أجمعوا، خاصة وأئمتهم يقولون: لا يكون قط إجماع صحيح على
خلاف نصٍّ إلا ومع الإجماع نصٌّ ظاهر معلوم، يُعرف أنَّه معارض لذلك
النصِّ الآخر، فإذا كانوا لا يُسوِّغون أن تعارض النصوص بما يُدَّعى من
إجماع الأمَّة، لبطلان تعارض النص والإجماع عندهم، فكيف إذا عورضت النصوص
بما يُدَّعى من إجماع العترة أو أهل المدينة؟!)(16).
وقال
أيضاً في بيان الواجب على المسلم: (.. ويعلم أنَّ أفضل الخلق بعد الأنبياء
هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً عامَّاً، إلا لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولا لطائفة انتصاراً مطلقاً عامَّاً، إلا للصحابة - رضي
الله عنهم أجمعين - فإنَّ الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه
دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يُجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب
عالم من العلماء، فإنَّهم قد يُجمعون على خطأ؛ بل كلّ قول قالوه وليقله
غيرهم من الأئمة لا يكون إلا خطأ، فإنَّ الدين الذي بعث الله به رسوله ليس
مُسلَّماً إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيراً
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام
المعصوم..)(17).
- منهج أهل السُّنَّة في العصمة 1-2
- منهج أهل السُّنَّة في العصمة 2-2
[1] (3/490).
[2] (3/503 - 504).
[3] (6/190 - 191)، وانظر: (4/182) و (6/452).
[4] (6/368).
[5] (5/182)، وانظر (4/241).
[6] (1/97).
[7] (3/381).
[8] (6/190).
[9] (1/470 - 471)، وانظر: (2/396) و (3/372).
[10] (2/410).
[11] (6/417)، وانظر: (6/384).
[12] (5/165 - 166).
[13] (6/196).
[14] (4/310).
[15] (3/408 - 409).
[16] (5/166 - 167).
[17] (5/262)، وانظر: (6/409 و 461).
المصدر: مجلة البيان.
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).