0

مقام النبوة؛ بين السنة والشيعة والمتصوفة.

للرسول والنبي صفات لابد أن يتصف بها، قد صبغه الله بها، وفطره عليها، وهذه الصفات لازمة لمناسبة وظيفة النبي ومقام النبوة، حيث أنه المبلغ عن الله، والواسطة بين الله وخلقه في تلقي الشرائع وتعليمها الناس، وهذه الصفات منها ما هو واجب في حق النبي لازم لمقام النبوة، ومنها ما هو جائز في حق النبي، ومنها ما يستحيل في حقه.

بداية علينا أن نعرف بالنبي، مع بيان الفرق بين مقام النبوة ومقام الرسالة عند أهل السنة والجماعة:

تعريف النبي لغة:

النبي مشتق من النبأ، النَّبَأُ مُحَرَّكَةً: الخَبَرُ، والجمع: أنْبَاءٌ، وأَنْبَأَهُ إياه وبه: أخْبَرَهُ كَنَبَّأَهُ، واسْتَنْبَأَ النَّبَأَ: بَحَثَ عنه.. والنَّبِيءُ: المُخْبِرُ عن الله تعالى وتَرْكُ الهمزِ المختارُ، والجمع: أنْبِياءُ ونُبَآءُ وأنْبَاءٌ والنَّبِيؤُونَ والاسمُ: النُّبُوءَةُ، وتَنَبَّأَ: ادَّعاها(1)، وقيل النَّبيُّ مشتق من النَّبَاوةِ وهي الشيءُ المُرْتَفِعُ(2).

ثانيا: تعريف الرسول لغة:

مأخوذ من الإرسال وهو البعث والتوجيه والإطلاق، والاسم الرِّسالة والرَّسالة والرَّسُول والرَّسِيل.. والرَّسول بمعنى الرِّسالة يؤنث ويُذكَّر فمن أَنَّث جمعه أَرْسُلاً.. ويقال هي رَسُولك وتَراسَل القومُ أَرْسَل بعضُهم إِلى بعض والرَّسول الرِّسالة والمُرْسَل(3).

اختلف العلماء في التفريق بين النبي والرسول إلى آراء متعددة:

الرأي الأول: قال أصحابه بالترادف بين المعنيين، فلا فرق بين النبي والرسول، فكل رسول نبي وكل نبي رسول، وقال بهذا الرأي طائفة قليلة من أهل العلم، منهم ابن الهمام(4).

الرأي الثاني: أن النبي أفضل من الرسول، وبه قال نفر من الصوفية، منهم ابن عبد السلام، يقول الشيخ علي القاري: (مقام النبوّة يختص بالحق تعالى، ولذا فضله ابن عبد السلام على مقام الرسالة)(5)

الرأي الثالث: أن الفرق بين النبي والرسول في البلاغ، قالوا النبي من أوحي إليه ولم يؤمر بالبلاغ أما الرسول فمأمور بالبلاغ، وبه قالت طائفة من علماء أهل السنة(6).

الرأي الرابع: أصحاب هذا الرأي جعلوا الحد بين النبي والرسول البلاغ أيضا، ولكنهم قيدوا هذا البلاغ بقيد، فقالوا إن بلغ قوماً موافقين له في شريعته فهو نبي، وإن بلغ قوماً مخالفين له في شريعته كافرين بما جاء به فهو رسول(7).

والآراء السابقة كلها مردود عليها، وقد فصل العلماء الرد عليها، لكن الراجح في المسألة أن النبوة مقام دون مقام الرسالة، وأقل منه في الدرجة، وسابق له، يقول الله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ}(8) ، ويقول في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(9).

فهاتان الآيتان تشيران إلى أن النبوة تكون متحققة أولا، ثم يأتي بعدها الإرسال(10).

مقام النبوة عند أهل السنة:

للرسول والنبي صفات لابد أن يتصف بها، قد صبغه الله بها، وفطره عليها، وهذه الصفات لازمة لمناسبة وظيفة النبي ومقام النبوة، حيث أنه المبلغ عن الله، والواسطة بين الله وخلقه في تلقي الشرائع وتعليمها الناس، وهذه الصفات منها ما هو واجب في حق النبي لازم لمقام النبوة، ومنها ما هو جائز في حق النبي، ومنها ما يستحيل في حقه.

فعلى الجملة يجب في حقهم كل كمال بشري، كالعدل، والشجاعة، والصبر، والكرم...الخ، وعلى التفصيل يجب في حقهم: الفطانة، والصدق، التبليغ، والعصمة من الذنوب، والعصمة من الأمراض المنفرة، و يجب في حقهم البشرية (أي كونهم من البشر)، والذكورية.

وأما الجائز في حقهم فهو كل وصف لا يؤدي إلى نقص في مقاماتهم العلية وذواتهم الزكية، كالأكل، والشرب، والنوم، والمرض (غير المنفر)، والنسيان (في غير أمور الوحي والرسالة)، والخطأ (غير المتعمد، ولكنه ينبه من قِبل الله)، وقد يُظَلم من قِبل الخلق أو يُقتل، وغير ذلك من الأمور التي لا تتعارض مع شرف النبوة ومقاماتها.

أما المستحيل من الصفات، فهي التي لا يجوز لنبي الاتصاف بها، ككل صفة تضاد ما يجب في حقهم من الصفات سالفة الذكر(11).

وأهل السنة وسط في كل شيء، فعلى الرغم من حفظهم لمقامات النبوة- واعتبار مقام النبوة وبعده مقام الرسالة أرفع مقامين يمكن أن يصل إليهما بشر- هم أبعد الناس عن الغلو فيهما، كما يفعل بعض المتصوفة وغيرهم ممن يرفعون الأنبياء إلى مقام الألوهية، فينسبون للأنبياء صفات وأموراً وأفعالاً لا تجوز إلا لله عز ووجل، كما أنهم لا ينزلون بمقامهم كما ينزل الشيعة- وفريق آخر من المتصوفة- أو أصحاب الملل الأخرى كاليهود والنصارى.

مقام النبوة عند الصوفية:

المعتدلون من المتصوفة يسوون بين النبي والولي ويفرقون بينهما في أشياء، يقول لسان الدين بن الخطيب: ( يفارق الولي النبي في المخاطبة الإلهية والمعارج, فإنهما يجتمعان في الأصول وهي المقامات, إلا أن النبي يعرج بالنور الأصلي, والولي يعرج بما يفيض من ذلك النور الأصلي, وإن جمعهما مقام اختلفا بالوحدة في كل مقام, من فناء وبقاء, وجمع وفرق)(12).

أما الغلاة فيرفعون مقام الولاية فوق مقام النبوة، يقول أبو يزيد البسطامي: (خضنا بحورًا وقفت الأنبياء بسواحلها)(13).

وقال في موضع آخر: "تالله إن لوائي أعظم من لواء محمد صلى الله عليه وسلم, لوائي من نور تحته الجان والجن والإنس, كلهم من النبيين(14).

كما ينقل عن أئمة الصوفية قولهم: (معاشر الأنبياء، أوتيتم اللقب, وأوتينا ما لم تؤتوه)(15).

مقام النبوة عند الشيعة:

يرفع الشيعة من مقام الأئمة ليصير عندهم أعلى وأرقى من مقام النبوة، فيقولون إن الأئمة عليهم السلام أفضل من الأنبياء (عدا النبي محمد صلى الله عليه وسلم)، لكن الناظر في كتبهم ومروياتهم يعلم أن استثناء مقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم استثناء كاذب، فالإمامة عندهم هي رأس الدين وقاعدة الأولى بل إن مقامها يعلو مقام شهادة التوحيد.

ومن أدلة تقديمهم مقام الإمامة على النبوة، ما جاء في كتبهم على لسان أحد أئمتهم: (والله ما استوجب آدم أن يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه إلا بولاية علي عليه السلام، وما كلم الله موسى تكليما إلا بولاية علي عليه السلام، ولا أقام الله عيسى ابن مريم آية للعالمين إلا بالخضوع لعلي عليه السلام، ثم قال: أجمل الأمر ما استأهل خلق من الله النظر إليه إلا بالعبودية لنا) (16).

ابن تيمية يلخص موقف المتصوفة والشيعة من النبوة:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: (فلهذا جعلوا الولاية فوق النبوة، وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة، لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقق والتأله، وأولئك ظهروا في قالب التشيع والمولاة، فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء، وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة، وهؤلاء يعظمون أمر الإمامة حتى يجعلوا الأئمة أعظم من الأنبياء والإمام أعظم من النبي، كما يقوله الإسماعيلية، وكلاهما أساطين الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفًا، ويقولون إنه يختص بقوة قدسية، ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف، ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي، ويزعمون أن النبوة مكتسبة)(17).

ــــــــــــــ
الهوامش:
(1) القاموس المحيط– الفيروزآبادي– مادة: (نبأ): (1/67).
(2) لسان العرب– لابن منظور– مادة: (نبأ): (1/162).
(3) لسان العرب لابن منظور: (مادة رسل): (11/283).
(4) ينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح- علي بن سلطان محمد القاري: (5/621)- تحقيق: جمال عيتاني- دار الكتب العلمية – لبنان- بيروت- ط1- 1422هـ- 2001م.
(5) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعلي القاري: (5/621-622).
(6) شرح العقيدة الطحاوية- ابن أبي العز الحنفي: (ص:167).
(7) النبوات، لابن تيمية:(ص:184)- المطبعة السلفية- القاهرة– 1386هـ.
(8) سورة الزخرف الآية:(6).
(9) الأحزاب، الآية: (45).
(10) العقيدة الإسلامية وأسسها– لعبد الرحمن حسن حبنكة: (ص:299)– دار القلم– دمشق– ط2- 1399هـ، 1979م.
(11) الإسرائيليات والموضوعات وأثرهما في قضايا العقيدة- رمضان الغنام- رسالة ماجستير- جامعة طنطا: (ص:284).
(12) روضة التعريف- للسان الدين بن الخطيب: (ص: 519).
(13) الإبريز للدباغ: (ص:276).
(14) لطائف المنن والأخلاق للشعراني:(1/125).
(15) الإنسان الكامل للجيلي: (1/124).
(16) الاختصاص-للشيخ المفيد: (ص:250).
(17) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، (8/23).
المصدر مواقع البرهان

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top