أولاً: مبايعة علي لأبي بكر بالخلافة رضي الله عنهما:
وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي عن مبايعة الصديق، وكذا تأخر الزبير بن العوام، وجُلّ هذه الأخبار ليست بصحيحة، وقد جاءت روايات صحيحة السند تفيد بأن عليًا والزبير - رضي الله عنهما - بايعا الصديق في أول الأمر، فعن أبى سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار.. فذكر بيعة السقيفة[1]، ثم قال: ثم انطلقوا فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليًا، فسأل عنه، فقام أناس من الأنصار، فأتوا به، فقال أبو بكر: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعه، ثم لم ير الزبير بن العوام، فسأل عنه حتى جاءوا به، فقال: ابن عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال مثل قوله: لا تثريب يا خليفة رسول الله فبايعاه[2]. ومما يدل على أهمية حديث أبى سعيد الخدري الصحيح أن الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الجامع الصحيح - الذي هو أصح الكتب الحديثية بعد صحيح البخاري - ذهب إلى شيخة الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة - صاحب صحيح ابن خزيمة - فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن خزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: هذا الحديث يساوى بدنة، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوى بدنة[3]فقط، إنه يساوى بدرة مال[4]، وعلق على هذا الحديث ابن كثير - رحمه الله - فقال: هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة على بن أبى طالب، إما في أول يوم، أو في الثاني من الوفاة، وهذان حق، فإن على بن أبى طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع عن صلاة من الصلوات خلفه[5]، وفي رواية حبيب بن أبى ثابت، حيث قال: كان على بن أبى طالب في بيته، فأتاه رجل، فقال له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج علىّ إلى المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء، وهو متعجَّل، كراهة أن يبطئ عن البيعة، فبايع أبا بكر، ثم جلس، وبعث إلى ردائه فجاءوه به، فلبسه فوق قميصه[6]. وقد سأل عمرو بن حريث سيعد بن زيد، رضي الله عنه، فقال له: متى بويع أبو بكر؟ قال سعيد: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم، وليسوا في جماعة.
قال: هل خالف أحد أبا بكر؟ قال سعيد: لا. لم يخالف إلا مرتد، أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه. قال: هل قعد أحد من المهاجرين عن بيتعه؟ قال سعيد: لا لقد تتابع المهاجرون على بيعته[7]، وكان مما قال على - رضي الله عنه - لابن الكواء وقيس بن عباد حينما قدم البصرة وسألاه عن مسيره قال: «لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عند في ذلك ما تركت أخا بنى تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبره ولقاتلتهما ولو لم أجد إلا بردى هذا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل قتلاً ولم يمت فجأة، مكث في مرضه أيامًا وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلى بالناس، وهو يرى مكاني، ولقد أرادت امرأة من نسائه أن تصرفه عن أبى بكر فأبى وغضب وقال: «أنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس» فلما قبض الله نبيه ونظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله، وكانت الصلاة أصل الإسلام، وهي أعظم الأمور وقوام الدين، فبايعنا أبو بكر، وكان لذلك أهلاً، ولم يختلف عليه منا اثنان، ولم يشهد بعضنا على بعض، ولم نقطع منه البراءة، فأديت إلى أبى بكر حقه وعرفت له طاعته وغزوت معه في جنوده، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطى[8].
وكان مما قال في خطبته على منبر الكوفة في ثنائه على أبى بكر وعمر: «فأعطي المسلمون البيعة طائعين، فكان أول من سبق في ذلك من ولد عبد المطلب أنا»[9]، وجاءت روايات أشارت إلى مبايعة على لأبى بكر - رضي الله عنهما - في أول الأمر وإن لم تصرح بذلك، فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ثم قام أبو بكر فخطب الناس، واعتذر إليهم وقال: «والله ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغبًا، ولا سألتها الله عز وجل في سر ولا علانية، ولكنى أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمرًا عظيمًا ما لي به من طاقة ولابد إلا بتقوية الله عز وجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم»، فقل المهاجرون منه ما قال، وما اعتذر به. قال على رضي الله عنه والزبير: «ما غضبنا إلا لأنا قد أخرنا عن المشاورة، وأنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعلم بشرفه، وكبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي»[10]. وعن قيس العبدي قال: «شهدت خطبة على يوم البصرة قال: فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وما عالج من الناس، ثم قبضه الله عز وجل إليه، ثم رأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر - رضي الله عنه - فبايعوا وعاهدوا وسلموا، وبايعت وعاهدت وسلمت، ورضوا ورضيت، وفعل من الخير وجاهد حتى قبضه الله عز وجل، رحمة الله عليه»[11].
إن عليًا رضي الله عنه لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين. ويرى ابن كثير ومجموعة من أهل العلم أن عليًا جدد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى أي بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، وجاءت في هذه البيعة روايات صحيحة[12]. ولكن لما وقعت البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن عليًا لم يبايع قبلها، فنفى ذلك والمثبت مقدم على النافي[13].
وهناك كتاب اسمه «الإمام على جدل الحقيقة والمسلمين الوصية والشورى» لمحمود محمد العلى زعم صاحبه بأنه يبحث وينشد الحقيقة، ولكن صاحبه لم يتخلص من المنهج الشيعي الرافضي في الطرح ووضع السمّ في العسل، ولذلك وجب التنبيه، وقد تعرض لبيعة على رضي الله عنه، وزعم بأن أحقية على رضي الله عنه بالخلافة قائمة على الوصية.
ثانيًا: علي رضي الله عنه ومساندته لأبى بكر في حروب الردة:
كان علي رضي الله عنه لأبى بكر رضي الله عنه عيبة[14]نصح له، مرجحًا لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شيء آخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبى بكر ونصحه للإسلام والمسلمين وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين ما جاء من موقفه من توجه أبى بكر رضي الله عنه بنفسه إلى ذي القصة، وعزمه على محاربة المرتدين، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه، وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي[15]، فعن ابن عمر، رضي الله عنه يقول: «أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا»، فرجع[16]فلو كان على رضي الله عنه - أعاذه الله من ذلك - لم ينشرح صدره لأبى بكر وقد بايعه على رغمًا من نفسه، فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها على، فيترك أبا بكر وشأنه، لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو الجو له، وإذا كان فوق ذلك - حشاه الله - من كراهته له، وحرصه على التخلص منه، أغرى به أحدًا يغتاله، كما يفعل الرجال السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم[17]، وقد كان رأي علي رضي الله عنه مقاتلة المرتدين، وقال لأبى بكر لما قال لعلي: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أقول: إنك إن تركت شيئًا مما كان أخذه منهم رسول الله فأنت على خلاف سنة الرسول، فقال: أما لئن قلت ذاك لأقاتلنهم وإن منعوني عقالاً[18].
ثالثًا: تقديم علي رضي الله عنه لأبى بكر:
تواترت الأخبار عن على رضي الله عنه في تفضيله وتقديمه لأبى بكر رضي الله عنه، فمن ذلك:
1 - عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبى: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين[19].
2 - عن على رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر. ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبى بكر: عمر[20].
3 - عن أبى وائل شقيق بن سلمة قال:قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرًا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم[21].
4 - وقال علي رضي الله عنه:لا يفضلنى أحد على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى[22].
5 - قول علي لأبى سفيان رضي الله عنهما:إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً.
وهناك آثار يستأنس بها في إيضاح العلاقة الطيبة بين على وأبى بكر منها:
(أ) عن عقبة بن الحارث قال:خرجت مع أبى بكر الصديق من صلاة العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال وعلى يمشى إلى جنبه، فمر بحسن بن على يلعب مع غلمان، فاحتملهن على رقبته وهو يقول:
بأبى يشبه النبي ♦♦♦ ليس شبيهًا بعلي
(ب) وعن على رضي الله عنه قال: «من فارق الجماعة شبرًا، فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه[24]» فهل كان على يفعل ذلك؟كان رضي الله عنه يكره الاختلاف ويحرص على الجماعة. قال القرطبي: من تأمل ما دار بين أبى بكر وعلى من المعاتبة ومن الاعتذار، وما تضمن ذلك من الاتفاق عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانًا، لكن الديانة ترد بذلك - والله الموفق - [25].
وأما ما قيل من تخلف الزبير بن العوام عن البيعة لأبى بكر، فإنه لم يرد من طريق صحيح، بل ورد ما ينفي هذا القول، ويثبت مبايعته في أول الأمر، وذلك في أثر أبى سعيد الصحيح وغيره من الآثار[26].
(ج) قال ابن تيمية:وقد تواترت عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال: «خير الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر»، وقد روى هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقًا، وعنه أنه يقول: «لا أوتى بأحد يفضلني على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى»[27]. وقال أيضًا: ولم يقل قط أني أحق بهذا - أي الخلافة - من أبى بكر ولا قاله أحد من بعينه أن فلانًا أحق بهذا الأمر من أبى بكر، وإنما قال من فيه أثر لجاهلية عربية أو فارسية إن بيت الرسول أحق بالولاية لأن العرب في جاهليتها كانت تقدم أهل الرؤساء، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا[28].
(د) تسمية أبى بكر بالصديق وشهادة على له بالسبَّاق والشجاعة: عن يحيى بن حكيم ابن سعد قال: سمعت عليًا رضي الله عنه يحلف: لله أنزل اسم أبى بكر من السماء، الصديق[29]، وعن صلة بن زفر العبسى قال: كان أبو بكر إذا ذكر عند على قال: السبَّاق تذكرون والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر[30]، وعن محمد بن عقيل بن أبى طالب قال: خطبنا على فقال: أيها الناس من أشجع الناس؟ قلنا: أنت يا أمير المؤمنين. قال ذاك أبو بكر الصديق إنه لما كان في يوم بدر وضعنا لرسول الله العريش[31]فقلنا: من يقم عنده لا يدنو إليه أحد من المشركين؟ فما قام عليه إلا أبو بكر، وإنه كان شاهرًا السيف على رأسه كلما دنا إليه أحد هوى إليه أبو بكر بالسيف، ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش عند الكعبة فجعلوا يتعتعونه ويترترونه[32]ويقول: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فوالله ما دنا إليه إلا أبو بكر ولأبي بكر يومئذ ضفيرتان[33]، فأقبل يجأ[34]هذا، ويدفع هذا، ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم.. وقطعت إحدى ضفيرتي أبى بكر، فقال على لأصحابه: ناشدتكم الله أي الرجلين خير، مؤمن آل فرعون أم أبو بكر؟ فأمسك القوم، فقال على: والله ليوم من أبى بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذلك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه، وهذا أبو بكر بذل نفسه ودمه لله[35].
رابعًا: اقتداء على بالصديق في الصلوات وقبول الهدايا منه:
إن عليًا رضي الله عنه كان راضيًا بخلافة الصديق ومشاركًا له في معاملاته وقضاياه، قابلاً منه الهدايا رافعًا إليه الشكاوي، مصليًا خلفه، محبًا له، مبغضًا من بغضه[36]، وشهد بذلك أكبر خصوم الخلفاء الراشدين، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بهديهم، وسلك مسلكهم، ونهج منهجهم[37]، فهذا اليعقوبي الشيعي الغالي في تاريخه يذكر أيام خلافة الصديق فيقول: وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشاور جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا وأخروا فاستشار على بن أبى طالب فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت؟ فقال: بشرت بخير، فقام أبو بكر في الناس خطيبًا، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم، وفي رواية: سأل الصديق عليًا كيف ومن أين تبشر؟ قال: من النبي صلى الله عليه وسلم حيث سمعته يبشر بتلك البشارة، فقال أبو بكر: سررتني بما أسمعتني من رسول الله يا أبا الحسن، سرك الله[38].
ويقول اليعقوبي أيضًا: وكان ممن يؤخذ عنهم الفقه في أيام أبى بكر على بن أبى طالب وعمر ابن الخطاب ومعاذ بن جبل وأبى بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود[39]، فقدم عليًا على جميع أصحابه، وهذا دليل واضح على تعاملهم مع بعضهم وتقديمهم عليًا في المشورة[40]والقضاء، فعندما كتب خالد بن الوليد إلى أبى بكر بقوله له: أنه وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر لذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم على، فقال على: إن هذا ذنب لم يعمل به إلا أمة واحدة[41]، ففعل الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقه بالنار، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله أن يحرق بالنار، فأمر به أبو بكر أن يحرق بالنار[42]وكان على رضي الله عنه يمتثل أوامر الصديق؛ فعندما جاء وفد من الكفار إلى المدينة، ورأوا بالمسلمين ضعفًا وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين والبغاة الطغاة، وأحس منهم الصديق خطرًا على عاصمة الإسلام والمسلمين، أمر الصديق بحراسة المدينة وجعل الحرس على أنقابها يبيتون بالجيوش، وأمر عليًا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحراس، وبقوا كذلك حتى أمنوا منهم[43].
وللتعامل الموجود بينهم وللتعاطف والتواد والوئام الكامل كان على وهو سيد أهل البيت ووالد سبطي الرسول صلى الله عليه وسلم يتقبل الهدايا والتحف، دأب الإخوة المتساوين فيما بينهم والمتحابين كما قبل الصهباء الجارية التي سبيت في معركة عين التمر، وولدت له عمر ورقية[44]، وأيضًا منحه الصديق خولة بنت جعفر بن قيس التي أسرت مع من أسر في حرب اليمامة وولدت له أفضل أولاده بعد الحسن والحسين وهو محمد ابن الحنفية، وكانت خولة من سبى أهل الردة وبها يعرف ابنها ونسب إليها محمد ابن الحنفية[45]، يقول الإمام الجوينى عن بيعة الصحابة لأبى بكر: وقد اندرجوا تحت الطاعة عن بكرة أبيهم لأبى بكر - رضي الله عنه - وكان على رضي الله عنه سامعًا لأمره، وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد، ونهض إلى غزو بنى حنيفة[46].
ووردت روايات عديدة في قبوله هو وأولاده الهدايا المالية، والخمس، وأموال الفئ من الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وكان على هو القاسم والمتولى في عهده على الخمس والفئ، وكانت هذه الأموال بيد على، ثم كانت بيد الحسن ثم بيد الحسين، ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن[47]، وكان على رضي الله عنه يؤدي الصلوات الخمس في المسجد خلف الصديق، راضيًا بإمامته، ومظهرًا للناس اتفاقه ووئامه معه[48]، وكان على رضي الله عنه يروى عن أبى بكر بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أسماء بنت الحكم الفزاري قالت: سمعت عليًا رضي الله عنه يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله علمًا نفعني الله به، وكان إذا حدثني عنه غيري استحلفته فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلى ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له»[49]ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف أصحابه فقالوا: ادفنوه في البقيع[50]، وقال آخرون: ادفنوه في موضع الجنائز، وقال آخرون: ادفنوه في مقابل أصحابه، فقال أبو بكر: أخروا فإنه لا ينبغي رفع الصوت عند النبي حيًا ولا ميتًا، فقال على رضي الله عنه: «أبو بكر مؤتمن على ما جاء به». قال أبو بكر: «عهد إلىَّ رسول أنه ليس من نبي يموت إلا دفن حيث يُقبض»[51]، وشهد على رضي الله عنه للصديق عن عظيم أجره في المصاحف، فعن عبد خير قال: سمعت عليًا يقول: «أعظم الناس أجرًا في المصاحف: أبو بكر الصديق، هو أول من جمع بين اللوحين»[52].
خامسًا: الصديق والسيدة فاطمة وميراث النبي صلى الله عليه وسلم:
قالت عائشة رضي الله عنها: إن فاطمة والعباس - رضي الله عنهما - أتيا أبا بكر - رضي الله عنه - يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم من هذا المال»[53]وفي رواية قال أبو بكر رضي الله عنه....لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ[54]. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حين توفى الرسول الله، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أبى بكر، ليسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة رضي الله عنها لهن: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث، ما تركناه صدقة»[55]وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتسم ورثتى دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملي فهو صدقة»[56].
وهذا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع فاطمة رضي الله عنها امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم، لذلك قال الصديق: «لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به»[57]وقال: «والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته»[58].
وقد تركت فاطمة رضي الله عنه منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله صلى الله عليه وسلم، قال ابن قتيبة[59]: وأما منازعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنها في ميراث النبيصلى الله عليه وسلم فليس بمنكر، لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم، فلمان أخبرها بقوله كفت[60]، وقد غلا الرافضة في قصة ميراث النبي غلوًا مفرطًا مجانبين الحق والصواب، معرضين متجاهلين ما ورد من نصوص صحيحة في أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث، وجعلوا ذلك من أصول الخلاف بين الصحابة وآل البيت - رضي الله عنهم أجمعين - وامتدادًا لأمر الخلافة، فاتهموا الصحابة - رضوان الله عليهم - بإيقاع الظلم والجور على آل البيت، ولا سيما أبو بكر الصديق وعمر الفاروق - رضي الله عنهما - الذين غصبا الخلافة من آل البيت كما في زعمهم، وأضافوا إلى ذلك غصب أموال آل البيت، وغصب ما فرض الله لهم من حقوق مالية، ويعتبر الرافضة قضية فدك، ومنع فاطمة من إرثها من أهم القضايا، التي تواطأ عليها الصحابة بعد غصب الصديق رضي الله عنه للخلافة منهم على حد تعبيرهم، وذلك حتى لا يميل الناس إلى آل البيت بسبب هذا المال فيجتمعوا عليه ويخلعوه من الخلافة[61].
والمتتبع لكتب الرافضة في هذه المسألة يجد أنها تنصب على إنكار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»[62]واستقطاب الأدلة لمحاولة إبطاله، فمن ذلك:
1 - زعمهم أن هذا الحديث وضعه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -:وفي ذلك يقول الحلى: إن فاطمة لم تقبل بحديث اخترعه أبو بكر من قوله: ما تركناه صدقة. وقال أيضًا: والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها[63]. وقال المجلسى بعد أن نص على أن أبا بكر وعمر أخذا فدكًا: ولأجل ذلك وضعوا تلك الرواية الخبيثة المفتراة: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة[64]ويقول الخميني في ذلك: نقول إن الحديث المنسوب إلى النبي لا صحة له، وأنه قيل من أجل استئصال ذرية النبي[65].
ويجاب على ذلك: بأن هذا القول كذب محض وافتراء واضح، إذ هذه الرواية لم ينفرد بها أبو بكر رضي الله عنه بل إن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركناه فهو صدقة»، رواه عنه أبو بكر وعثمان وعلى وطلحة، والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أجمعين[66] وفي ذلك يقول ابن تيمية: والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، ومشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث، فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب[67].
وقال ابن كثير بعد ذكره لمن روى الحديث: «وأن هذا الزعم من الرافضة باطل، ولو تفرد بروايته الصديق - رضي الله عنه - لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك»[68]، وقد قال الدكتور سليمان بن رجاء السحيمي صاحب الكتاب القيم «العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط»: ويؤيد هذا ما جاء من كتب الرافضة عن الإمام جعفر الصادق الإمام الخامس المعصوم عندهم فيما رواه الكليني والصفار والمفيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يطلب منه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، والعلماء أمناء، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر[69]وفي رواية: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك ان الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم»[70]. وما أرث منك يا رسول الله؟ قال: «ما أورث النبيون».
2 - زعمهم أن هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ﴾ [النساء:11] وقالوا: ولم يجعل الله ذلك خاصًا بالأمة دونه صلى الله عليه وسلم؟[71].
والحقيقة أن الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب، وليس فيه ما يوجب كون النبي صلى الله عليه وسلم من المخاطبين بها[72]، فهو صلى الله عليه وسلم لا يقاس بأحد من البشر، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولأن الله حرم عليه صدقة الفرض والتطوع، وخُص بأشياء لم يُخص بها أحد غيره صلى الله عليه وسلم، ومما خصه الله به، هو وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام كونهم لا يورثون، وذلك صيانة من الله لهم لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلفوها لورثتهم، أما بقية البشر فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبة وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة[73].
وقال ابن كثير في رده على استدلال الرافضة بالآية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خُص من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها..فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون، وليس الأمر كذلك، لكان ما رواه الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر، مبينًا لتخصصه بهذا الحكم دون من سواه[74]. وبهذا يتبين بطلان استدلالهم بمخالفة الحديث.
3 - زعمهم أن منع الإرث والاستدلال بهذا الحديث مخالف لقوله تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ﴾ [النمل:16]، ومخالف لما حكاه الله عن نبيه زكريا عليه السلام: ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6].
حيث قالوا: إن الميراث يقتضي الأموال وما في معناه، وليس لأحد أن يقول إن المراد بالآية العلم دون المال[75].
ويجاب على ذلك بما يلي: إن الإرث اسم جنس يدخل تحته أنواع، فيستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال. قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [فاطر:32]، وقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون:10، 11] وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا الشان، وإذا كان كذلك فقوله تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [النمل: 16] وقوله: ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ [مريم: 6] إنما يدل على جنس الإرث، ولا يدل على إرث المال، وذلك أن داود عليه السلام كان له أولاد كثيرون غير سليمان فلا يختص سليمان بماله فدل على أن المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك، لا إرث المال، والآية سيقت في بيان مدح سليمان وما خصه الله به من النعمة، وحصر الإرث في المال لا مدح فيه، إذ إن إرث المال من الأمور العادية المشتركة بين الناس، وكذلك قوله تعالى: ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ [مريم: 6] ليس المراد به إرث المال لأنه لا يرث آل يعقوب شيئًا من أموالهم، وإنما يرث ذلك منهم أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا[76].
كما أن قوله: ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي ﴾ [مريم:5] لا يدل على أن الإرث إرث مال، لأن زكريا لم يخف أن يأخذوا ماله من بعده إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف، وزكريا عليه السلام لم يعرف له مال، بل كان تجارًا يأكل من كسب يده كما في صحيح مسلم[77]، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتى يسأل الله ولدًا يرث عنه ماله، قدل على أن المراد بالوراثة في هاتين الآيتين وراثة النبوة، والقيام مقامه[78].
يقول القرطبي في تفسيره للآية: وعليه فلم يسل من يرث ماله، لأن الأنبياء لا تورث، وهذ هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة»[79]، وهذا الحديث يدخل في التفسير المسند لقوله تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [النمل: 16] وعبارة عن قول زكريا ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6] وتخصيص للعموم في ذلك، وإن سليمان لم يرث من داود مالاً خلفه داود بعده. وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب، وهكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض[80].
ومما تجدر الإشارة إليه أن الرافضة خالفوا ما استدلوا به على وجوب الميراث، وذلك أنهم حصروا ميراثه صلى الله عليه وسلم في فاطمة - رضي الله عنه - فزعموا أنه لم يرث النبي صلى الله عليه وسلم إلا هي، فأخرجوا أزواجه وعصبته مخالفين عموم الآيات التي استدلوا بها، فقد روى الصدوق بسنده عن أبى جعفر الباقر قوله: لا والله ما ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس ولا على، ولا ورثته إلا فاطمة عليها السلام، وما كان آخذ على عليه السلام السلاح وغيره إلا إنه قضى عنه دينه[81]. وروى الكليني والصدوق والطوسى بأسانيدهم إلى الباقر أيضًا قوله: وورث على عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه، وورثت فاطمة عليها السلام تركته[82]، بل وأخرجوا فاطمة من ذلك، حيث زعموا أن النساء لا يرثن العقار، فقد بوب الكليني في كتابه الكافي بابًا بعنوان: إن النساء لا يرثن من العقار شيئًا، وساق تحته روايات منها: عن أبي جعفر الصادق إنه قال: النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئًا[83].
روى الصدوق بسنده إلى ميسر قال:سألته - يقصد الصادق - عن النساء ما لهن في الميراث، فقال: أما الأرض والعقارات فلا ميراث فيه[84]، وبهذا يتبين عدم استحقاق فاطمة - رضي الله عنها - شيئًا من الميراث، بدون الاستدلال بحديث: نحن معاشر الأنبياء لا نورث[85]، فما دامت المرأة لا ترث العقار والأرض، فكيف كان لفاطمة أن تسأل فدك - على حسب قولهم - وهي عقار لا ريب فيه[86]، وهذا دليل كذبهم وتناقضهم فضلاً عن جهلهم[87].
وأما ما زعموه من كون الصديق - رضي الله عنه - سأل فاطمة أن تحضر شهودًا، فأحضرت عليًا وأم أيمن فلم يقبل شهادتهما، فهو من الكذب البين الواضح، قال حماد بن إسحاق: فأما ما يحكيه قوم أن فاطمة عليها السلام طلبت فدك، وذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعها إياها، وشهد لها على عليه السلام فلم يقبل أبو بكر شهادته لأنه زوجها، فهذا أمر لا أصل له ولا تثبت به رواية أنها ادعت ذلك، وإنما هو أمر مفتعل لا ثبت فيه[88].
4 - أن السنة والإجماع قد دلا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث: قال ابن تيمية: كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها، وبإجماع الصحابة، وكل منها دليل قطعي، فلا يعارض ذلك بما يظن أنه عموم، وإن كان عمومًا فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنيًا فلا يعارض القطعي، إذ الظنى لا يعارض القطعي، وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقاه بالقبول والتصديق، ولهذا لم يصر أحد من أزواجه على طلب الميراث، ولا أصرّ العمّ على طلب الميراث، بل لما طلب من ذلك شيئًا فأخبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم رجع عن طلبه، واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى على، فلم يغير شيئًا ولا قسم له تركة[89]. قال ابن تيمية: قد تولى الخلافة (علىّ) بعد ذي النورين عثمان، وصار فدك وغيرها تحت حكمه، ولم يعط منها شيئًا لأحد من أولاد فاطمة ولا من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس، فلو كان ظلمًا وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه، أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال، وأمره أهون بكثير[90].
وبإجماع الخلفاء الراشدين على ذلك احتج الخليفة العباسي أبو العباس السفاح على بعض مناظريه في هذه المسألة على ما نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس قال: وقد روينا عن السفاح أنه خطب يومًا فقام رجل من آل على - رضي الله عنه - قال: إنا من أولاد على - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين أعنى على من ظلمني. قال: ومن ظلمك؟ قال: أنا من أولاد على - رضي الله عنه - والذي ظلمني أبو بكر - رضي الله عنه - حين أخذ فدك من فاطمة، وقال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام عبده؟ قال: عمر - رضي الله عنه - قال: ودام على ظلمكم. قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال عثمان - رضي الله عنه - قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكانًا يهرب منه[91].
وبتصويب أبي بكر - رضي الله عنه - في اجتهاده صرَّح بعض أولاد على من فاطمة - رضي الله عنهما - على ما روى البيهقي بسنده عن فضيل بن مرزوق قال: قال زيد بن على ابن الحسين بن على بن أبى طالب: أما لو كنت مكان أبي بكر، لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك[92]، كما نقل أبو العباس القرطبي اتفاق أهل البيت بدءًا بعلي - رضي الله عنه - ومن جاء بعده من أولاده، ثم أولاد العباس الذين كانت بأيديهم صدقة رسول الله، إنهم ما كانوا يرون تملكها، إنما كانوا ينفقونها في سبيل الله، قال - رحمه الله -: إن عليًا لما ولى الخلافة ولم يغيرها عما عمل فيها في عهد أبي بكر وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها، ثم كانت بيد حسن بن على، ثم بيد حسين بن على، ثم بيد على بن الحسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسين، ثم بيد عبد الله بن الحسين، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في صحيحه، وهؤلاء كبراء أهل البيت -ر ضي الله عنهم - وهم معتمدون عند الشيعة وأئمتهم، لم يرو عن واحد منهم أنه تملكها ولا ورثها ولا ورثت عنه، فلو كان ما يقوله الشيعة حقًا لأخذها على أو أحد من أهل بيته لما ظفروا بها[93].
وقال ابن تيمية: قد تولى (علىّ) الخلافة بعد ذى النورين عثمان، وصارت فدك وغيرها تحت حكمه، ولم يعط منها شيئًا لأحد من أولاد فاطمة، ولا من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ولد العباس، فلو كان ظلمًا وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه، أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم، ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال، وأمره أهون بكثير؟[94].
وقال ابن كثير: وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل، وتكلفوا ما لاعلم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم[95]، فلو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابهة، ويتركون الأمور المقررة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين من بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين[96].
5 - تسامح السيدة فاطمة مع أبي بكر: وقد ثبت عن فاطمة - رضي الله عنها - أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ما روى البيهقي بسنده عن الشعبي أنه قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال على: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضَّاها حتى رضيت[97]قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد قوى والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من على، أو ممن سمعه من على[98].
وبهذا تندحض مطاعن الرافضة على أبي بكر التي يعلقونها على غضب فاطمة عليه، فلئن كانت غضبت على أبى بكر في بداية الأمر فقد رضيت عنه بعد ذلك وماتت وهى راضية عنه، ولا يسع أحدًا صادقًا في محبته لها، إلا أن يرضي عمن رضيت عنه[99]، ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة: إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم من هذا المال، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبي أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئًا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت[100]. فإن هذا بحسب علم عائشة - رضي الله عنها - رواية الحديث، وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيارة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه، فعائشة - رضي الله عنها - نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي، لأن احتمال الثبوت حصل بغير علم النافي، خصوصًا في مثل هذه المسألة، فإن عيادة أبي بكر لفاطمة - رضي الله عنها - ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي تخفي على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها، على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة - رضي الله عنها - لم تتعمد هجر أبي بكر - رضي الله عنه - أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك[101]، ق
المصدر قناة البرهان
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).