لا
يوجد - حتى - نص متشابه يسوِّغ تركها وتعطيل حكمها، إنما عطلوا نصاً
قرآنياً صريحاً بوجوب إقامتها، لا يمكن تأويله أو صرفه عن دلالته، ولا ناسخ
له، ولا يوجد نص في القرآن كله عن أي صلاة أخرى يوازيه في صراحته وقوة
دلالته. واتبعوا في تعطيله شبهات، يمكن اتباعها لتعطيل أي حكم شرعي!
يقول
تعالى عن صلاة الجمعة بصراحة ووضوح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ومن عظمتها عنده سبحانه أطلق عليها اسم (ذكر
الله). فصلاة الجمعة خصوص ذكر الله. ومن أعرض عن (ذكر الله) فهو من
الخاسرين. كما أخبر تعالى في سورة (المنافقون) التي تلي سورة (الجمعة)
فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا
أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم...} [المنافقون:
9-10]
والمنافقون
يمتازون بصفتين: {لاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ
يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]. وأعظم الصلاة صلاة
الجمعة (ذكر الله). وإليها الإشارة والتمييز بقوله تعالى: {وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]. فالتثاقل عنها أو تركها
سهواً ولهواً عادة المنافقين. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً:
«من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه» (1). وقال: «لينتهين أقوام عن
ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» (2).
فكيف بمن يعطلها ويتركها ويدعي أن هذا (النفاق) من الشرع!
بل
وصل الأمر إلى حد تفسيق من يصليها. كما حصل عندنا مؤخراً عندما أفتى أحد
المجتهدين بوجوب إقامتها، وتفسيق تاركها. فقوبل بفتوى تساويها في المقدار
وتعاكسها في الاتجاه!
أما صلاة الجمعة في إيران اليوم فإنما هي على أساس الوجوب التخييري، وجود الإمام العادل عندهم!!
ولو سأل سائل عن دليل حرمة صلاة الجمعة، وتعطيل النص القرآني الصريح
الوارد في وجوب إقامتها؟ فالجواب هو:
إن (الإمام) غائب، والحاكم غير عادل. وعدالة الحاكم تتأتى إما من كونه (الإمام المعصوم) أو (نائبه).
وقال
بعضهم: يحتمل أن يكون المنادي المشار إليه في الآية (إذا نودي) هو
(الإمام)، وأن المقصود بهذا الإمام المحتمل هو (الإمام المعصوم)!
ولا
شك أن هذه شبهة لا تخطر إلا على بال النوادر من البشر! وذلك بعد طول تفكر
واعتصار للفكر. والدين لا يقوم على الوساوس والخطرات. ودعائمه لا تهدم
بالشبهات. إن المنادي للصلاة هو المؤذن. وجاء التعبير بالبناء للمجهول
(نودي) إشارة إلى عدم اعتبار من هو المنادي! بل إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ
مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] مجرد
نداء من أيٍ كان!
إن
شرط (الإمام) ثم استحداث شرط (النائب) مؤخراً أو ما يسمى (بالحاكم العادل)
غير موجود في كتاب الله، ولا جاء عن رسول الله، ولا عن علي، ولا غيره من
أئمة الدين. إنما هو اجتهاد متأخر لبعض العلماء، دون استناد إلى دليل (ولم
يعرف عن أحد من علماء القرن الثالث والرابع قولاً بمقاطعة صلاة الجمعة
باعتبار فقدانها لشرط وجود الامام أو إذنه الخاص).
وظل
الشيعة يصلون الجمعة إلى منتصف القرن الخامس الهجري. وتحديداً إلى عام
(451) هـ أي بعد ذهاب آخر (إمام) بحوالي قرنين من الزمان! وكان أئمة
الإسلام كالإمام جعفر بن محمد (رحمه الله)، وغيره من الأئمة يصلونها في
مساجد المسلمين الجامعة. مع أن الحاكم - حسب التفسير الإمامي - لم يكن
عادلاً! فما الفرق بين (الإمام الغائب) و(الإمام) المقهور غير المتصرف؟ وما
الفرق بينه وبين (الإمام) إذا كان في إقليم آخر، وهو مقهور غير متصرف؟ إذ
هو غائب - بكل ما في كلمة غائب من معنى- عن الأقاليم الأخرى. بل لا معنى
لوجوده في أي مكان يحل فيه إذا كان ممنوعاً من التصرف مقهوراً-كما يقولون-
فهل كانت الجمعة أيام (الأئمة) ساقطة عن الناس؟ ولماذا تأخروا قرنين من الزمان حتى يعطلوها؟!!
إن
هذه المدة المتطاولة ما هي إلا (فترة حضانة) لا بد منها لولادة الفكرة
ونضوجها! وإلا فلو كانت من الدين أصلاً لظهرت في حينها تواً ولم تتأخر طيلة
هذه المدة قطعاً. مثلها كمثل ولادة فكرة إعطاء خمس المكاسب إلى الفقيه،
ليتسلمه نيابة عن (الإمام). إذ لم تظهر إلا بعد قرون! والعجيب أنهم جعلوا
الفقيه ينوب عن (الإمام) في أخذ (الخمس)، ولم يجعلوه نائباً عنه في أداء
صلاة الجمعة!! مع أن (الخمس) - حسب اعتقادهم - حق خالص لـ(الإمام) - وحق
الإنسان لا يجوز التصرف فيه دون إذنه - وصلاة الجمعة حق خالص لله تعالى، لا
دخل لأحد من الخلق فيه!
وفي كلتا الحالتين أجازوا لأنفسهم التصرف فيما لا يحل لهم التصرف فيه!
فمن
ناحية أسقطوا حق الله سبحانه دون إذنه. وهو اعتداء عظيم وجرم كبير على حد
الشرك بالله. كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. ومن ناحية أخرى
تصرفوا في حق (الإمام) دون إذنه! ولا شك أن ذلك غير جائز، كما لا يجوز لأي
إنسان أن يتصرف في مال الغير في غيبته بحجة المصلحة دون إذنه الصريح.
ولأجل
هذا كانت الفتوى عند قدماء فقهاء الإمامية بعدم جواز التصرف في أموال
(الخمس) من قبل الفقهاء! يقول الشيخ المفيد (ت 413)هـ: إن الخمس حق لغائب
لم يرسم فيه قبل غيبته رسماً يجب الانتهاء إليه فوجب حفظه إلى وقت إيابه).
والسبب
في تعاكس الحكمين هو أن (الخمس) أمر نفعي، وصلاة الجمعة أمر عبادي. طبقاً
للقاعدة أو المنهج الذي ذكرناه عن الإمامية في أول الفصل، في تفسيرهم
للنصوص المتعلقة بالمسائل العملية. فما كان متعلقاً بالمال وسَّعوه، وما
كان متعلقاً بالعبادة ضيقوه. وكلا الأمرين سلكوا إليه سبيل الشبهة والظن
وما تهوى الأنفس
المصدر: المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل. د. طه الدليمي.
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).