0

على ضوء نقول وتفاسير المصادر الإمامية ذات الجذر التاريخي في تناول عقائد القوم، تبرز من سمات النقل والوضع والدس علامة بارزة عند تناول النصوص، وهذه السمة هي (التأويل) وهي قاسم مشترك بين كل المصادر الإمامية, وهذا التأويل في تناول النصوص الدينية له جذر يهودي عندما اضطروا إليه لتمرير أخطاء العهد القديم امتد فيما بعد إلى معظم العقائد الباطنية، وكان في مقدمتهما: المنهج الإمامي في تناول النصوص الدينية. وأسبابه ودواعيه- كما يذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي- عديدة، لكن من أهمها كما تقوم الشواهد على ذلك:
التحرر من قيد النص المقدس ابتغاء التوفيق بينه وبين الرأي الذي يذهب إليه صاحب التأويل.
التحرر من قيد النص المقدس ابتغاء التوفيق بين ما يفهم من صريح اللفظ وبين ما يقتضيه العقل.
الرغبة في تعميق صريح النص المقدس ابتغاء مزيد من العمق في الآراء التي يحتويها, ومن هذه الدواعي يتبين أن ما يلجئ إلى التأويل هو الاضطرار إلى الأخذ بنص يعد مقدساً أو مقيداً، ولولا هذا لما كان ثم أي داع إلى التأويل .
وهذه الدواعي تصدق على كل من قال بالتأويل بالباطن، سواء لدى اليهود أو المسيحيين أو غيرهم، أما حجة الباطنية فإنهم قالوا: لكل ظاهر باطن ولكل تنزيل تأويل ، فلظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صوراً جلية، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها مسارعاً إلى الاغترار بما كان تحت الأواصر والأغلال، وأرادوا بالأغلال التكليفات الشرعية، فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه وهم المرادون بقوله تعالى
(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [ الأعراف:157]
وربما موهوا بالاستشهاد عليه بقولهم: إن الجهال المنكرين للباطن هم الذين أريدوا بقوله تعالى:
(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ[ الحديد:13] .
ولقد عرف التأويل الرمزي أو الباطني لدى اليهود وانتقل إليهم من الفلسفة اليونانية. يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: (انتقل التأويل الرمزي إلى اليهود على يد فيلون اليهودي في القرن الأول الميلادي الذي يعد من أكبر ممثلي النزعة إلى التأويل في العصر القديم وإن كان قد سبقه في اليهودية كثيرون أولوا الكتب المقدسة في العهد القديم تأويلاً رمزياً، وهو نفسه يشير إليها لكن فيلون ذرف عليهم بأن جعل من التأويل مذهباً قائماً برأسه ومنهجاً في الفهم) .
والذين قالوا بالتأويل قبل فيلون هم (يهود الإسكندرية، إذ كانوا يشرحون التوراة شرحاً رمزيا على غرار شرح الفيثاغوريين والأفلاطونيين والرواقيين لقصص الميثولوجيا وعبادات الأسرار) ، وكان هذا هو الطريق الوحيد أمامهم لجعلها مقبولة لدى اليونان، ويوجد في نسخة التوراة السبعينية آثار من هذا الاتجاه الرمزي الذي انتشر بين يهود الإسكندرية .
ولذلك فإن بعض اليهود كانوا لا يقرءون التوراة إلا في هذه الترجمة اليونانية ومن تأويلاتهم أنهم قالوا عن التوراة التي هي في جملتها تاريخ بني إسرائيل، وما أصابوا من نعم حين كانوا يرعون شريعة الله، وما عانوا من نقمة حين كانوا يعصونها: إنها تمثل قصة النفس مع الله، تدنو النفس من الله بقدر ابتعادها عن الشهوة فتصيب رضاه وتبتعد منه بقدر انصياعها للشهوة، فينزل بها سخطه.
وكانوا يؤولون الفصل الأول من "سفر التكوين" مثلا بأن الله خلق عقلاً خالصاً في عالم المثل هو الإنسان المعقول ثم صنع على مثال هذا العقل عقلا أقرب إلى الأرض (هو آدم) وأعطاه الحس (وهو حواء) معونة ضرورية له فطاوع العقل الحس وانقاد للذة الممثلة بالحية التي وسوست لحواء، فولدت النفس في ذاتها الكبرياء (وهو قابيل) وجمع الشرور وانتفى منها الخير (وهو هابيل) وماتت موتاً خلقياً.
وأولوا عبور البحر الأحمر بأنه رمز لخروج النفس من الحياة الحسية، وسبعة أغصان الشمعدان بأنها رمز للسيارات السبع، وأولوا الحجرين الكريمين اللذين يحملهما الكائن الأكبر بأنهما رمز للشمس والقمر أو لنصفي الكرة الأرضية، والآباء الذين يعود إليهم إبراهيم بأنهم رمز للكواكب .
وأولوا إبراهيم بأنه (التنور) و(العقل)، وزوجته سارة بأنها الفضيلة، والفصح بأنه إما تطهير الروح أو خلق العالم .
أما فيلون فقد اصطنع هذا الضرب من التأويل، غير أنه يقف به عند حد، وإن كان يتابع الفلاسفة أحياناً على خلاف قصد الشريعة ، وقد دفعه إلى اتخاذ هذا المذهب (التأويل الرمزي) الحملة التي قام بها المفكرون اليونانيون على ما في التوراة (العهد القديم) من قصص وأساطير ساذجة أو غير معقولة: مثل برج بابل، والحية التي أغرت حواء في الجنة وغيرها، فاضطر فيلون إلى الدفاع عن "التوراة" بتأويل هذه المواضيع الأسطورية وغير المعقولة الواردة في التوراة تأويلا بالباطن، ورأى أن التأويل بالباطن هو روح النص المقدس، وأن التفسير بالمعنى الحرفي هو مجرد جسم هذا النص المقدس للنص سيؤدي حتماً إلى الفكر والإحالة .
ويذكر أميل ابريهيه أن التأويلات التي ذكرها فيلون باعتبارها مأثورة تتناول تقريبا كل الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس، أي التوراة، وأنه بلا ريب مجرد حالة عرضية أن نجد الأكبر عدداً من هذه التآويل يتصل بحياة إبراهيم، ولكن توجد أخرى عن آدم والجنة, وعن يوسف وعن الخروج وعن المعجزات, وعن صلاة موسى وغير ذلك .
والغرض الأساسي عند فيلون من استعمال التأويل الرمزي ومحاولة تطبيقه على نصوص التوراة هو تحويل أشخاص قصص التوراة إلى رموز يعبر بها عن جوانب الخير والشر في النفس الإنسانية ونزعاتها المختلفة، فقصة بدء الخليقة تمثل عند فيلون رموزاً إيحائية تفسر حالات النفس الإنسانية تفسيراً داخلياً، كما أنها تمثل عنده تقلبات النفس البشرية بين حالات الخير والشر والرذيلة والفضيلة:
فآدم مثال للنفس العارية عن الفضيلة والرذيلة نراه يخرج من هذه الحالة بالإحساس المرموز له (حواء) التي تغريها اللذة والسرور المرموز لهما بالحية، وبهذا تلد النفس العجب المرموز له بـ(قابيل) مع كل ما يتبع ذلك من سوء، ومن ثم نجد الخير المرموز له بـ(هابيل) يخرج من النفس ويبتعد عنها، وأخيراً تفنى النفس الإنسانية في الحياة الأخلاقية ولكن تنمو بذور الخير التي في النفس بسبب الأمل والرجاء المرموز له بـ(أنيوس) والندم المرموز له بـ(إدريس)، ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى العدالة المرموز له بـ(نوح)، ثم بالجزاء على ذلك وهو التطهير التام المرموز له بـ(الطوفان) .
هذا نموذج لشرحه وتفسيره لأشخاص التوراة تفسيراً رمزيّاً، ومن خلال ذلك التأويل نستطيع أن ندرك كيف تحولت الشخصيات الدينية عنده إلى رموز لحالات نفسية معينة .
ويحتمل أيضاً أن يكون التأويل الرمزي قد انتقل أولاً إلى السبئية عن طريق عبد الله بن سبأ فهو يهودي بل من علماء اليهود، ولا يستبعد اطلاعه على حركة التأويل عند اليهود قبل فيلون وبعده. ويؤيد هذا الاحتمال ما قام به ابن سبأ من عرض لأفكار يهودية كالرجعة والوصية واستناده فيهما على التأويل، وجاء من بعده تلميذه ابن حرب ونقل عقيدة الأسباط من الفكر اليهودي وقام بتأويل آيات من القرآن تؤيد دعواه.
وبيان بن سمعان صاحب (البيانية) كان ذا أصل يهودي وقال هو الآخر بالتأويل، وخاصة عند تفسيره لقول الله تعالى:( هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ[آل عمران:138]
واتصل اليهود بالكيسانية اتصالاً وثيقاً، وكان التأويل من الأسس الهامة لدى الكيسانية، والمغيرة بن سعيد العجلي كان على صلة باليهود، وقد قال بالتأويل الذي يسب فيه الصحابة ويلعنهم، وهو ما يبغيه اليهود ويهدفون إليه، ثم ما فعله فيما بعد ...
وقد قال عن هذا المؤسس الحمادي: إنه جعل لكل آية في كتاب الله تفسيرا،ً ولكل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلاً وزخرف الأقوال وضرب الأمثال وجعل لآي القرآن شكلاً يوازيه ومثلاً يضاهيه) .
وقد استخدم عبد الله بن ميمون التأويل فأدخله إلى الباطنية وتوسع فيه، وكان أبوه ميمون من قبل قد وضع كتابا في التأويل الباطني وأخذ يؤول الآيات القرآنية بما يتفق مع عقيدته في إمامة إسماعيل وابنه محمد وأسبغ عليهما قداسة كبرى وأضاف ابن ميمون إلى ما فعله أبوه فتطورت العقيدة تطوراً ملحوظاً وأخذ هو يجمع ويلفق بين مختلف الآراء مستعيناً بالتأويل .

الدرر السنية

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top