انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها
(تقديس القبور والأضرحة)
مفهوم لم يعرفه الإسلام ولو في إشارة يسيرة، بل جاءت نصوصه الثابتة بالنهي
الصريح عن كل ذريعة تفضي إلى ذلك المفهوم الذي يمثل خطوة أولى على طريق
الانحراف نحو الشرك؛ فمن الأقوال القاطعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
بما لا يدع مجالاً لتوهم نسخ أو تخصيص أو تقييد ما جاء عنه: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»(1)، وعنه: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(2)، هذا في قبره الشريف وفي كل قبر.
وعن علي رضي الله
عنه أنه قال لأبي الهياج: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله: أن لا
تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته"(3)، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: «يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه»، وفي زيادة صحيحة لأبي داود: «أو أن يكتب عليه»(4)، ولعن «المتخذين عليها (أي القبور) المساجد والسُرج»(5).
من النور إلى الظلمات:
وعلى ذلك سار
سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان
"ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام،
لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا
المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد، لا على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل
البيت، ولا صالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدَثة بعد ذلك، وكان ظهورها
وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة
الملبّسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر
في أواخر المائة الثالثة؛ فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القدّاحية في
أرض المغرب، ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر"(6).
"ولم يكن في
العصور المفضلة (مشاهد) على القبور، وإنما كثر بعد ذلك في دولة بني بويه
لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم
تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك. ومن بدع
الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا المشاهد
المكذوبة كمشهد علي -رضي الله عنه- وأمثاله ..."(7).
"... وفي دولتهم
أُظهر المشهد المنسوب إلى علي رضي الله عنه بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم
يكن أحد يقول: إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي - رضي الله عنه- بقصر
الإمارة بالكوفة"(8).
فعندما بدأت
المحدَثات تدب في حياة المسلمين، كان منها ذلك الأمر الجلل "فظهرت بدعة
التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء
المشاهد وتعطيل المساجد... ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها
من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف
كبيرهم (ابن النعمان) كتاباً في (مناسك حج المشاهد) وكذبوا فيه على النبي
صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته،
وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب"(9).
الرواد الأوائل:
وعلى ذلك يتضح أن
الذين بذروا بذورَ شرك القبور كانوا رافضة، وهذا ما تؤكده لنا عالمة
الآثار الدكتورة سعاد ماهر فهمي عندما تسرد أوائل الأضرحة ذات القباب،
فتقول: ".. ويليها من حيث التاريخ: ضريح إسماعيل الساماني(10)
المبني سنة 296هـ في مدينة بخارى، ثم ضريح الإمام علي رضي الله عنه في
النجف الذي بناه الحمدانيون سنة 317هـ، ثم ضريح محمد بن موسى في مدينة قم
بإيران سنة 366هـ، ثم ضريح (السبع بنات) في الفسطاط سنة 400هـ، وقد احتفظت
لنا جبّانة أسوان بمجموعة كبيرة من الأضرحة ذات القباب التي يرجع تاريخ
معظمها إلى العصر الفاطمي في القرن الخامس الهجري"(11).
فبدايات تعظيم
القبور واتخاذها مشاهد وأضرحة ارتبطت تاريخياً بأسماء: القرامطة، وبني
بويه، والفاطميين (العبيديين)، والسامانيين، والحمدانيين... وجميعهم روافض
وإن تفاوتوا في درجة الغلو(12).
على أن الدكتورة
سعاد ماهر تذكر لنا "أن أقدم ضريح في الإسلام أقيمت عليه قبة يرجع إلى
القرن الثالث الهجري، وقد عُرف هذا الضريح باسم (قبة الصليبية)، ويوجد في
مدينة سامرّا بالعراق على الضفة الغربية لنهر دجلة إلى الجنوب من قصر
العاشق ...، ويقول الطبري: إن أم الخليفة العباسي استأذنت في بناء ضريح
منفصل لولدها فأذن لها؛ إذ كانت العادة قبل ذلك أن يدفن الخليفة في قصره،
فأقامت قبة الصليبية في شهر ربيع الثاني سنة 284هـ، وقد ضم الضريح إلى جانب
المنتصر الخليفة المعتز والمهتدي، وتعتبر قبة الصليبية(13) أول قبة في الإسلام"(14).
ولكن الدكتورة سعاد تذكر لنا الأضرحة (ذات القباب) فقط، ولا ندري هل كانت قبل قبة الصليبية أضرحة أخرى ليست ذات قباب أم لا؟
عانق الجبت مع الطاغوت:
على أن الذي
يعنينا في هذا المقام هو أن (تقديس القبور والأضرحة) أمر حادث في الإسلام،
وإحداثه لم يرتبط بأهل التقوى والعلم، بل ارتبط بأصحاب الدعوات الهدامة
وأهل السلطان، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل ذلك في قوله تعالى عن أصحاب
الكهف: ﴿قَالَ الَذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً﴾ [الكهف: 21]، فالذين أرادوا اتخاذ مسجد على قبور الفتية هم أهل الغلبة.
ولعلنا نلمح أن
في ذلك جنساً من اتباع سَنَن من كانوا قبلنا في تعانق الجبت مع الطاغوت عند
حدوث الانحراف العقدي، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ..﴾ [النساء: 51]؛
حيث يتآزر دعاة الأوهام والخرافة مع أصحاب الطاعة والتشريع من دون الله،
ويتبادلون الأدوار أحياناً، فتجد الكهان والمنجمين والسحرة يطلبون الطاعة
ممن يؤمن بخرافاتهم ويحلون له الحرام، ويُحرمون عليه الحلال، كما أنهم
يمدون أصحاب السلطان والطاعة بالشرعية التي هم في حاجة إليها، وتجد أصحاب
السلطان ممن يُطاعون في معصية الله يستشيرون الخرافيين ويقربونهم ويفسحون
المجال للترويج لبدعهم بين الناس.. ولا شك أن لكل ذلك أثراً في الواقع.
دينهم وديدنهم:
كما أن مكانة
القبور والأضرحة (المقدسة)! غير قابلة للمساومة في دين الرافضة؛ فطائفة
البهرة الإسماعيلية (من غلاة الرافضة) ذات نشاط واسع في عمارة وتجديد
المساجد ذات الأضرحة بحجة الاهتمام بالعمارة الإسلامية، وبخاصة في مصر...
والقبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير في دمشق وهو القبر المنسوب إلى السيدة
زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ما زال مكتوباً عليه إلى الآن:
قام بعمارة البناية الضخمة عليه والمسجد حولها والقبة المزخرفة: محمد بن
حسين نظام وأولاده من طائفة الشيعة(15).
وأيضاً
فإن أصحاب الأضرحة الكبرى ممن ينسب إلى التصوف هم في الحقيقة من غلاة
الشيعة الباطنية؛ حيث "من العراق انطلق أحد أتباع الرفاعي إلى مصر، وهو
(أبو الفتح الواسطي) (جد إبراهيم الدسوقي) لنشر دعوتهم الباطنية بها، وقد
كان ذلك في العهد الأيوبي، وبعد موت الواسطي جاء (البدوي) ليخلفه في دعوته
تلك، وقد توزع هؤلاء الدعاة في مصر، فكان (الدسوقي) بدسوق و (أبو الحسن
الشاذلي) بالإسكندرية، و (أبو الفتح الواسطي) ما بين القاهرة وطنطا
والإسكندرية، ولما مات الواسطي حل محله البدوي بطنطا، وجميعهم من فلول
العبيديين الذين طردهم صلاح الدين الأيوبي من مصر، ثم حاولوا العودة تحت
ستار التصوف والزهد ... كما أن كلاًّ من ابن بشيش وابن عربي قد تتلمذا على
يد (أبي مدين) بالمغرب"(16).
"وفي أواخر عهدهم
أنشأ الفاطميون المشهد الحسيني عام 550هـ عندما شعروا بأن سلطتهم قد ضعفت
ليجذبوا إليهم المصريين، وعهدوا إلى ابن مرزوق القرشي (564هـ ) تربية مريدي
الصوفية، فانتظم أتباعه في طوائف وطرق لنشر الدعوة الشيعية؛ إلا أن هذه
التنظيمات انهارت بانهيار الدولة الفاطمية وتحول المشهد الحسيني إلى ضريح
صوفي"(17).
والحاصل:
أن تقديس القبور
وزيارة المشاهد تقليد شيعي في نشأته، فالشيعة هم أول من بنى المشاهد على
القبور؛ حيث تتبعوا أو زعموا قبور من مات قديماً ممن يعظمونهم من آل البيت،
وراحوا يبنون على قبورهم ويجعلونها مشاهد ومزارات، ثم جاء الصوفية فنسجوا
على هذا المنوال، فجعلوا أهم مشاعرهم هو زيارة القبور وبناء الأضرحة
والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة بالأموات(18).
الحاجة أمّ الاختراع:
وأصبح تقديس
القبور والأضرحة لازماً من لوازم الطرق الصوفية؛ بحيث لا يتصور أحد وجود
طريقة صوفية من غير ضريح أو أكثر تقدسه .. ومع تمكن الداء من جسد الأمة
ظهرت (الحاجة) إلى تعدد الأضرحة والمزارات لتلبي رغبات من صرعتهم الأوهام،
وضاق بالقبوريين أن يتحروا ثبوت قبور الأولياء المشهورين لدى جمهورهم، ولأن
الحاجة أُمّ الاختراع - كما يقال - فقد وجدوا لهذه الأزمة بعض المخارج
والحيل:
- فظهر ما يسمى بأضرحة الرؤيا، تقول الدكتورة سعاد ماهر: "ظهر
في العصور الوسطى وخاصة في أوقات المحن والحروب التي لا تجد فيها الشعوب
من تلوذ به غير الواحد القهار أن يتلمسوا أضرحة آل البيت والأولياء للزيارة
والبركة والدعاء ليكشف الله عنهم السوء ويرفع البلاء، ومن ثم: ظهر ما يعرف
بأضرحة الرؤيا، فإذا رأى ولي من أولياء الله الصالحين في منامه رؤيا
مؤداها أن يقيم مسجداً أو ضريحاً لأحد من أهل البيت أو الولي المسمى في
الرؤيا فكان عليه أن يقيم الضريح أو المسجد باسمه"(19).
وتلك كانت الدعوى
نفسها التي أقيمت عليها (مزارات الشهداء) عند النصارى "وكان ذلك إبان
القرن الخامس الميلادي؛ حيث أصبح لكل قرية مزار لشهيد يحوي عظاماً لبعض
الموتى المجهولين، أخرجت من القبور، ومنحت كل التبجيل والاحترام، دون أدنى
دليل يثبت أنها على الأقل بقايا مسيحيين، ويُخلع على هذه الرفات أسماء
وألقاب لائقة، وفي حالات كثيرة كان المرجع الوحيد في هذا الشأن (حلم) أو
(رؤيا) لكاهن أو راهب"(20).
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).