0


استُشهد الحسين، فكان مقتله أكبر حادث في تاريخ الإسلام السياسي والروحي(1)، وتفتق عن تلك المأساة أحداث أخرى يأخذ بعضها بتلابيب الآخر، وصراع هائل استمر يحصد الفترة ممن خرج من أهل البيت في وجه دولة بني أمية وبني العباس، فأخذ يلتف حولهم المخلصون الذين تنتهي بهم عقائدهم إلى الدفاع والاستبسال حتى الاستشهاد، بينما يحوم آخرون حولهم، يبايعونهم ويدعونهم، ثم يفرون وقت الأزمة، ليظهروا نادمين تائبين يتلمسون الأفكار والآراء ليصوروا بها أهل البيت تصويرًا يرتفع بهم عن الطبيعة البشرية أحيانًا، لعلهم بهذا يجدون مستقرًا لضمائرهم التي أقلقها الخذلان والخزي في الساعات الحاسمة. وعلى مدى الأحداث المتكررة والتي تكاد تتشابه على وتيرة واحدة، أخذت الفرق تتشكل وتتضارب في الآراء والمعتقدات. ويصطدم الباحث بالفرق المتباينة الكثيرة العدد، ولكن من العجب أنها كلها تتخذ من التشيع دينًا لها لا ترضى به بديلًا بينما تختلف فيما بينهما اختلافًا رقيقًا حينًا وشديدًا أحيانًا أخرى. وقد جمعهم الشهرستاني في تعريف يضمهم في الخطوط العريضة لمعتقداتهم، فهم الذين شايعوا عليًا في الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصًا ووصاية إما جليًا وإما خفيًا، مع الاعتقاد أيضًا بأنها لا تخرج عن أولاد علي إلا بأحد طريقين: الظلم من مغتصبي الإمامة، أو بواسطة التقية التي يتخذ الإمام منها ستارًا يخفي به نواياه الحقيقية، ولهذا يسلم بالإمامة كارهًا لمن لا يستحقها في نظره. والركن الثاني: أن الإمامة ليحسم قضية تتعلق بصالح المسلمين وتناط بعامتهم يختارون لها ما يرونه صالحًا، وإنما هي ركن الدين المكين، فلا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يفوض فيها عامة المسلمين. ويقسم الشهرستاني فرق الشيعة إلى كيسانية وزيدية وإمامية وغلاة وإسماعيلية(2). أما الملطي فيقسم الفرق إلى اثنى عشر فرقة أهمها من الغلاة السبئية والقرامطة، ثم المختارين أتباع المختار بن أبي عبيد، وينتهي بفرقة الإمامية وبنسبهم إلى هشام بن الحكم ويطلق عليهم أيضًا الرافضة(3). ولكن الكوثري لا يوافق على إطلاق اسم الروافض على الإمامية؛ لأنه في الحقيقة لا يطلق إلا على بعض شذوذ الرافضة، وعلى هذا فإن "جعل العنوان بحيث يشمل جميع الزيدية غير مستقيم"(4). كما يسميهم البغدادي أيضًا بالروافض ويعتبر السبئية منهم، ولكنه يقسم الرافضة بعد زمان علي بن أبي طالب أربعة فرق: الزيدية، والإمامية، والكيسانية، والغلاة. وقد سجل صاحب (الفرق بين الفرق) افتراق الزيدية والإمامية والغلاة إلى عدة فرق يكفر بعضها بعضًا. ويخرج الغلاة عن فرق الإسلام، أما "فرق الزيدية وفرق الإمامية فمعدودون في فرق الأمة"(5). وكذلك يفعل الخياط المعتزلي فإنه يدعو الشيعة بالرافضة ولا يفرق بينهما، وإنما تدخل عنده في دائرة واحدة من زعم أن أبا بكر وعمرًا وعثمان وأبا عبيدة بن الجراح وجلة المهاجرين وخيار الأنصار كانوا منافقين أيام النبي صلى الله عليه وسلم يضمرون العداوة ويظهرون الحب له، وهم الذين قصدتهم الآيات: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: 27-28]، وقول الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الملك: 22]. ولكنه يصور الغلو عندهم كغلو النصارى، في المسيح لزعم بعضهم أنه إله أو أنه الواسطة بين الله والناس أو أنه رسول أو الزعم بأنه نبي وليس رسولًا، ويخبرنا عن المقتصدين منهم بأنهم من نسبوا إليه العلم بجميع الناس والأحوال فإنه "أعلم الناس بالتدبير وأزهدهم في الدنيا وأشدهم بأسًا، وإن الله هو المتولي لنصبه وإقامته وأن الأمة أزالته ودفعته عن موضعه وأقامت غيره وأن من أنكره وخالفه وجحد إمامته فكافر مشرك ولد لغير رشده"(6). وانفرد النوبختي بإطلاق الرافضة على أتباع جعفر الصادق (أبي عبد الله جعفر بن محمد) لأن الشيعة أصحاب الصادق تبرءوا من الغيرة بن سعيد ورفضوه بسبب آرائه الغالبة فسماهم بهذا الاسم(7). وظلت هذه التسمية تطلق على الشيعة جميعًا منذ ذلك الوقت ما عدا بعض فرق الزيدية التي رضيت بخلافة أبي بكر وعمر وأقرت بشرعيتها(8). والحق أن إطلاق اسم الرافضة على كافة فرق الشيعة لا يتفق مع الدقة اللازمة للتفرقة بين مذاهبها وعقائدها، فهو يمكن قصره فقط على بعض أتباع زيد بن علي حين خرج على هشام بن عبد الملك ودارت المناقشة بينه وبينهم عن خلافة الصحابيين فلما "عرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين رفضوه حتى أتى قدره عليه فسميت رافضة"(9). وقد اعتاد أهل السنة والجماعة إطلاق هذه التسمية على الشيعة جميعًا دون تفرقة، ونلاحظ هذا بصفة خاصة عند ابن تيمية في رده على ابن المطهر الحلي فلا يذكر الشيعة قط إلا بهذا الاسم، وكأنه يغلف به ما يبطنه لهم من ازدراء. وقد نسب إلى الإمام الشافعي شعرًا يستنكر إطلاق هذه التسمية، قال: إن كان رفضًا حب آل محمد *** فليشهد الثقلان أني رافضي(10) ولكنا سنحاول في سياق هذا الفصل أن نعرض لأهم الفرق الشيعية، وهي التي ما زالت قائمة حتى عصرنا هذا، مع عدم الخوض في التفرقة الدقيقة التي ذهبت إليها كتب الفرق حيث قسمت كل منها إلى عدة فرق، فليس من موضوع بحثنا أن نتقصاها. وسنقتصر في دراستنا على الفرق الكبرى وهي: الإثني عشرية والزيدية والإسماعيلية. ونود أن ننوه قبل الخوض فيها بأن معظم الباحثين قد كفوا أنفسهم مشقة الخوض في أعماق هذه الفرق العديدة واكتفوا بعرض الخطوط العريضة لأكبر فرقها. ولكن أستاذنا الدكتور النشار في بحثه الكبير عن (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام) قد ركب الصعب وتجشم العناء الشديد لتتبعها على مر العصور منذ نشأتها وحتى عصرنا الحاضر، فعرض على بساط البحث للفرق الشيعية جميعًا على اختلاف عقائدها وتعدد نظرياتها في نسق فلسفي متكامل. فالشيعة الإمامية في رأيه لا يعدون فرقة واحدة بل فرقتان؛ لأن الشيعة الفاطمية الحسينية قد اختلفت بعد جعفر الصادق، فمنهم من نقل الإمامة إلى ابنه موسى ليصبح الإمام السابع في سلسلة الأئمة الاثني عشر فأصبح يطلق على هذه الفرقة الاثني عشرية حيث تنتقل الإمامة بعد موسى إلى علي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري ثم الإمام المنتظر. أما الفريق الشيعي الآخر فنقل الإمامة إلى ابن جعفر الصادق إسماعيل فسميت الثانية إسماعيلية نسبة إليه(11). أما الأئمة الستة الباقين في سلسلة الأئمة الاثني عشرية فلم يكن لهم أي دور إيجابي مهم في تصوير العقيدة الشيعية ووضعها في صورتها النهائية(12) فلسنا إذًا في حاجة إلى دراستهم على انفراد واحدًا فواحد، كما سنفعل بالنسبة للأزمة الستة الأول بعد قليل. ونظر الشهرستاني إلى الإمامية بصفة عامة من زاوية ما يجمعهم في ظل عقيدتهم بإمامة علي بن أبي طالب بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالنص الظاهر أو الخفي؛ لأن تعيين من يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم هو أهم مسائل الدين وحجتهم في هذا الاعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لكي يقرر الوفاق ويستتب الوئام بين الناس فلا يجوز أن يتركهم مختلفين متباعدين بسبب عدم اتفاقهم على من يخلفه. مما يستند إليه الشيعة على سبيل النص الخفي، فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ليقرأ سورة البراءة ثم بعث بعده عليًا ليكون هو القارئ لها. كما كان صلى الله عليه وسلم يؤمر على أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة كعمرو بن العاص وأسامة بن يزيد بينما لم يؤمر على علي أحدًا قط(13). والدلائل التي يوردها الشيعة كما يوردها الشهرستاني لإثبات ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم نصًا صريحًا تساؤله: من الذي يبايعني على ماله؟ فبايعته جماعة فلما سأل عمن يبايعه على روحه فيصبح وصيًا بعده حينئذ تقدم علي وحده دون الباقين حتى أصبحت قريش تعير أبا طالب لأنه أمر عليه ابنه؟(14). وتفسير بعض الآيات القرآنية يما يتفق ومذهبهم في الإمامة كتفسيرهم للآية: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: 67]، حيث ادعى الشيعة أنه نص صريح في الإمامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غدير خم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا هل بلغت قالها ثلاثًا». كما ادعى الشيعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أقضاكم علي» نص في الإمامة لمعنى قول الله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، ففسروه بأن أولي الأمر هم القضاة والحكام وذهبوا إلى أن الحكم في النزاع بين المهاجرين والأنصار في اجتماع السقيفة هو علي نفسه(15). ومن الآراء التي غرسها هشام بن الحكم في تربة العقيدة الشيعية أن الطبقة الأولى من الأمة الذين بايعوا أبا بكر نافقوا وداهنوا لأحقاد كانت فيهم لعلي بن أبي طالب، كما يمضي في سبيل اتهاماته للصفوف الأولى من هذه الأمة فيكفر أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة لأنهم عنده "من شر الأمة وأكفرها يلعنونهم ويتبرؤون منهم، ما عدا سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد بن الأسود"(16).


(1) نشأة الفكر، ج 2، ص 38.

(2) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 195.

(3) الملطي، التنبيه، ص 25- 31.

(4) من مقدمة الكوثري لكتاب التنبيه، ص 4، 5.

(5) البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 16.

(6) الخياط، الانتصار، ص 163.

(7) النوبختي، فرق الشيعة، ص 62، 63.

(8) نشأة الفكر، ج 2، ص 155.

(9) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 201.

(10) هاشم الدفتردار ومحمد علي الزغبي، الإسلام بين السنة والشيعة، ص 123.

(11) نشأة الفكر، ج 2، ص 205.

(12) المصدر السابق، ص 287.

(13) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 219.

(14) الشهرستاني، الملل والنحل، ص 220.

(15) العدد السابق، ص 221.

(16) التنبيه، الملطي، ص 37.

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top