0

تَحالف الفرسُ والرومُ ، ولا خالدَ لهم

مازالت أشباح التاريخ تطاردنا وتقض مضاجعنا ، صارخة بأعلى صوت انتبهوا واحذروا : فإن أهم درس من دروس الصراع ؛ أن العداوات لا تتغير ، ما دامت النفوس لم تتغير ، وكل عداوة منشأها الدين والعقيدة لا يمكن أن يمحوها الزمان ، أو تغيرها صروف الدهر، فهي كما قال الشاعر :

كل العداوات قد ترجي مودتها   ******    إلا عداوة من عاداك في الدين

وأن أحداث التاريخ مازالت تتكرر مشاهدها ، وتعاد فصولها ، من عصر لآخر ، بصورة تكاد تكون متطابقة ، لتؤكد على هذه الحقيقة التي هي من أعظم حقائق التاريخ الإنساني .

قديما وقبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان ، وسنة 12ه تحديدا ومع بداية الفتح الإسلامي لبلاد العراق ، كان حلقات الصراع مع فصل جديد من العداوة الدينية ، حيث وجد المسلمون بقيادة خالد بن الوليد أنفسهم في مواجهة حلف عسكري غير مسبوق ، لم يروا مثله من قبل ، فلأول مرة يواجه المسلمون حلفا يضم أطراف متنافرة متعادية فيما بينها ، حلفا ضم الروم الصليبيين والفرس المجوس والعرب المتنصرة . فقد كان فتح منطقة «الرضاب» على الحدود بين الشام والعراق وهي تعتبر من آخر بلاد الشام الشرقية، وتعتبر من ضمن حدود مملكة الروم، بمثابة ناقوس خطر شديد دق فوق رءوس الروم، فأسرعوا فعقدوا تحالفًا ثلاثيًا مع الفرس والقبائل العربية المتنصرة مثل آياد وتغلب والنمر وبكر وتنوخ، متناسين كل الخلافات والعداوات القديمة ،  وذلك لوقف تقدم المسلمين وانهاء وجودهم بأرض العراق والشام .

فرفعت الاستخبارات الإسلامية نبأ هذه الاستعدادات الحربية للقائد خالد بن الوليد، وكان وقتها معسكرًا بجيشه بالفراض على حدود الشام مع العراق وظهره للصحراء ميدان القتال المفضل عند المسلمين والعرب، فقرر انتظار هذا التحالف المجوصليبي والاصطدام معه عند منطقة "الفراض" ، وكان جيش المسلمين يقدر بعشرين ألفًا ، في حين أن التحالف المجوصليبي أعد جيشًا جرارًا يقدر بمائة وخمسين ألفًا، وأرادوا أن يستدرجوا خالد بن الوليد في مكيدة عسكرية فقالوا له: «إما أن تعبر إلينا الفرات أو نعبر لكم نحن»، فقال خالد: «بل اعبروا أنتم» ذلك لو أنه عبر إليهم الفرات سيصبح محاصرًا في مكان ضيق والنهر في ظهره، وبالتالي لن يستطيع المسلمون القيام بهجماتهم الخاطفة التي اشتهروا بها والتي كسبوا بها كل حروبهم ، وفي يوم 15 من ذي القعدة سنة 12هـ تكامل عبور التحالف المجوصليبي، وما إن تكامل عبورهم حتى انقض عليهم المسلمون كالأسود الكاسرة، وقد اغتر العدو بكثرتهم الكبيرة، ولكنهم فوجئوا بشدة الهجوم الإسلامي فاضطربت صفوفهم، خاصة وأنهم خليط من أعداء الأمس «الروم والفرس» ،وانتصر المسلمون انتصارا رائعا أفشل مخططات التحالف المجوصليبي المستقبلية .

واليوم وبعد كل هذه القرون، وفي نفس البقاع ، وعلى أرض الشام ، يتكرر المشهد من جديد بحذافيره ، حيث حضر كل أبطال المشهد الأول ، ولم يغب عن المشهد سوى خالد رضي الله عنه . اليوم يحضّر الروس أحفاد الروم ، والإيرانيون أحفاد الفرس وذيولهم من لبنان والعراق واليمن مع جنود الطاغية بشار لحلف مجوسي صليبي مشترك ، وذلك لهجوم جديد على حلب الشهباء بعد أن فشل هجومهم الأول .فقد كشف مراسل وكالة (رويترز) في بيروت، نقلا عن مسؤولين كبيرين يوم الثلاثاء 13 أكتوبر الجاري، أن جيش الأسد وقوات إيرانية ومقاتلين من جماعة حزب الله متحالفين معه يستعدون لهجوم بري على المعارضة الإسلامية في منطقة حلب بدعم من الضربات الجوية الروسية ، وسيوسع الهجوم من نطاق هجوم بري شنه نفس التحالف الأسبوع الماضي، ويستهدف مقاتلين من المعارضة في محافظة حماة إلى الغرب، وذلك لدعم الطاغية بشار الأسد.

فهل مثل هذه التحالفات الهجينة والعجيبة تستطيع أن تنقذ رقبة بشار الأسد ؟ أو أنها سترهب الثوار الأبطال بآلتها العسكرية الضخمة ،وعتادها الحربي الحديث الذي ربما لم يستخدم من قبل إلا في أرض الشام المباركة ؟ أو أنها ستقضي على النهضة الإسلامية المباركة على أرض الأنبياء والرسالات ؟ أم أن هذا التحالف المجوصليبي سيلقى نفس مصير سلفه الغابر ؟

الأحداث والوقائع المتتالية تثبت كل يوم أن ما يظنه الروس المتغطرسين بقوتهم وسلاحهم الحديث نزهة عابرة ربما يتحول لكابوس جديد يعيد لهم ذكريات الكابوس الأفغاني القديم . فقد كشف تقرير نشره معهد دراسات الحرب أن نظام الأسد لم يحقق الكثير ميدانيا في الأسبوع الأول من الهجوم البري واسع النطاق ضد قوات الثوار، وهذا رغم الدعم الهائل من الغارات الجوية ومئات من التعزيزات الإيرانية الروسية المكثفة . ووفقا لتقديراته، فإنه من المحتمل أن تكون العمليات ضد الثوار أصعب وأبطأ مما كان متوقعا من قبل إيران أو روسيا، مما ينذر بإطالة أمد الصراع وتفاقم التطرف، وفقا لتقرير المعهد .

الثوار استطاعوا بنجاح كبير من إفشال الهجوم المشترك الأول للتحالف المجوصليبي على حلب، فعلى الرغم من تلقى القوات الموالية للنظام الأسدي المساعدة المباشرة من روسيا في شكل غارات جوية "متزامنة" مع العمليات البرية، فضلا عن الدعم المدفعي "هاوتزر" وعدة أنظمة إطلاق الصواريخ (آر إل إس) على أرض المعارك، بل واشتراك مقاتلين روس مباشرة في الاشتباكات والإشراف المباشر على العملية من خلال غرفة العمليات الروسية الإيرانية المشتركة ، إلا إن كل ذلك كله لم يفد كثيرا في تغيير الأوضاع على الأرض.

فنظام الأسد وحلفاؤه قد فشلوا حتى الآن في تحقيق مكاسب كبيرة. فهم يحاربون الثوار على طول الجبهات الثلاثة الرئيسة في مقاطعة شمال حماة، وسهل الغاب، ومقاطعة اللاذقية شمال شرق، على خط الجبهة طوله ما يقرب من 120 كيلو مترا ، ومع ذلك تشير تقارير مؤكدة، وفقا لما أوردته وكالات الأنباء ، إلى أن قوات الأسد تمكنت من الاستيلاء على ست قرى فقط من أصل عشرات القرى والمدن ، في حين صدت قوات الثوار هجمات كبيرة ضد العديد من المواقع الرئيسية.

وفي الوقت نفسه تعرضت قوات الأسد لخسائر فادحة في العتاد والأرواح في مواجهة مقاومة الثوار الباسلة ، وكان من أبرز الخسائر مقتل قائدين من أكبر قادة حزب اللات اللبناني ، ومقتل اثنين من أبرز قادة الحرس الثوري الإيراني في يومين متتاليين. وذكرت التقارير إن استمرار الخسائر الفادحة قد تعرض القوات الموالية للنظام لهجمة مرتدة من قبل الثوار السوريين، حيث أصدرت غرفة عمليات "جيش الفتح" في إدلب جيش الفاتح عمليات الإفراج بيانا في 13 أكتوبر، تدعو فيه إلى التعبئة والحشد لشن هجوم مضاد لتحرير مدينة حماة .

غير أنه من المحزن حقا والذي ربما سيفشل جهود الثوار في تصديهم لهذا التحالف ، هي حالة الفرقة المقيتة التي عليها الصف الثوري المعارض لبشار الأسد ، خاصة في هذا الظرف الدقيق ، وبعد نزول كل القوى العالمية مجتمعة ضد الإسلام والمسلمين في أرض الشام . فما زال القتال بين تنظيم الدولة " داعش " وباقي فصائل الثورة ، خاصة جبهة النصرة وجيش الفتح ــ المكون من فصائل إسلامية مجاهدة ــ يلقي بظلال من الشك والريب على تحقيق الانتصار على هذا الحلف المجوصليبي .

فداعش تتصرف بانتهازية وبرجماتية لا تخدم إلا التحالف المجوصليبي، بإصرارها على الهجوم على مناطق نفوذ جيش الفتح في حلب بغية السيطرة عليها ،مستغلين حالة التركيز الجوي من قبل الروس على مناطق جيش الفتح والجيش الحر. فابتداءً من أواخر الأسبوع الماضي، بدأت قوات تنظيم الدولة "داعش" بشن هجوم كبير شمالي حلب واجتاحت عدة قرى كانت قد حررها جيش الفتح منذ عدة أشهر ، وهو قتال لن يخدم سوى بشار وحلفائه ، والهدف الرئيسي لتنظيم الدولة هو السيطرة الكاملة على حلب ثاني أكبر وأهم مدن سوريا ، ليصبح التنظيم سيد المنطقة الشمالية كلها.

ولكن مع استمرار هذا الزخم الحربي في الأسابيع والأشهر المقبلة، فسوف يحاول الأسد وحلفاؤه على الأرجح تأمين المساعدة من الأكراد أو حزب الاتحاد الديمقراطي لإغلاق الحدود التركية بين إعزاز وجرابلس وقطع شريان الحياة الرئيس للثوار ، وإذا نجحت هذه الاستراتيجية المشتركة بين الأسد والروس و"حزب الاتحاد الديمقراطي"، فسيتم أيضاً حرمان التنظيم وغيره من فصائل الثوار من الحصول على المساعدات القادمة من ناحية تركيا ، لذلك فاتحاد التنظيم مع باقي فصائل المعارضة وخاصة جيش الفتح واشتراك الجميع يدا واحدة في محاربة التحالف المجوصليبي أفضل مئات المرات من هذا النهج المعيب الغالي الذي يتبعه قادة التنظيم اليوم من استهداف مناطق نفوذ وسيطرة باقي فصائل المعارضة .

و قد يرى الكثيرون أن حالة داعش هي حالة ميؤوس منها بسبب الغلو والبرجماتية التي عليها قادة التنظيم والذين ينظرون إلى الجميع على أنهم صحوات وعملاء للشرق والغرب ، يجب قتالهم قبل غيرهم ، لذلك فإن التحالف المجوصليبي ربما ينجح في تحقيق العديد من أهدافه ، ولكن نحن ننصح ونذكر من وقائع التاريخ وأحداثه ، قواعد الانتصار ، وأسس ومبادئ مواجهة مثل هذا النوع من الأحلاف ، فدون وحدة الصف والتحلي بالصبر والايمان والاخلاص والتجرد ، لن ينتصر المسلمون ، ولن يبرز من بينهم خالد جديد يجدد أمجاد وبطولات خالد القديم .

المصدر: مفكرة الإسلام

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top