قواعد رد الشبهات حول تاريخ الصحابة وآل البيت
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد بن عبدالله وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:
نَستطيعُ أنْ نُلَخِّصَ الاتهاماتِ والشُّبهاتِ الموجهة إلى تاريخِ آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم إلى أربعة أقسامٍ:
القسم الأول:
رواياتٌ وأخبارٌ ضَعيفةٌ بَاطلةٌ سَندًا، ومُنكرةٌ مَتْنًا، وهذه تُوجدُ بكثرةٍ في بعضِ الكُتُبِ التي يَجبُ الحذرُ عندَ قراءَتها، لِمَا فيها منَ مرويات تنسبُ إلى آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بما لا يتناسبُ مع مَقَامِهِمُ الرَّفيعِ ودرجتِهم العَاليةِ، فهذه الكُتُبُ قد حَوتْ بين دفَّتَيْها كَثيرًا مِنَ الأخبارِ والآثارِ الضعيفةِ والباطلةِ والموضوعةِ على آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، والقاعدةُ في هذا النَّوعِ مِنَ الشُّبهاتِ هي (رَدُّها وضربها بعرضِ الحائطِ)، لأنَّ هذه المكذوباتِ لا يَصحُّ أن يَعتمدَ عليها المسلمُ في عَقيدتهِ ودينهِ، ولأنَّ آلَ البَيْتِ والصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عنهم جُزءٌ مِنْ عَقيدةِ المسلمِ.
فكيف يُسَوِّغُ المسلِمُ لنفسهِ أن يجعلَ عُمْدَتَهُ في تعاليم دينهِ أحاديثَ مُصطنعةً مكذوبةً لا أصلَ لها، ويَدَعَ النُّصوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّريحةَ التي لا يَتطرَّقُ إليهَا شَكٌّ أو ريبةٌ مِنْ كتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم الثابتةِ الصَّحِيحَةِ؟!
وها هو القُرْآنُ الكَرِيمُ قد طَهَّرَ آلَ البَيْتِ وزَكَّى الصَّحَابَةَ ومدحَهم في أكثرِ مِنْ آيةٍ مُباركةٍ، فقال سُبْحَانَهُ وتعالَى عن آلِ البَيْتِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب 33]. وهذه الآيةُ هي مَنبعُ فَضائلِ أَهلِ البَيْتِ النَّبَوِيِّ، حيثُ شرَّفَهُمُ اللهُ تعالى بِها وطَهَّرَهُم، وأَذْهَبَ عنهمُ الرِّجْسَ مِنَ الأفعالِ الخبيثةِ والأخلاقِ الذَّمِيمَةِ.
ومَدَحَ الصَّحَابَةَ وأثَنَى عليهم في آياتٍ كثيرةٍ مباركةٍ، فقال سُبْحَانَهُ وتعالَى واصِفًا لهم {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح 29]
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وتعالَى في هذه الآيةِ الجامعةِ حالَ الصَّحَابَةِ بأنهم مِنْ أهلِ الرُّكُوعِ والسُّجودِ والصَّلاةِ والخشوعِ، ثم بَيَّنَ ما في قُلوبِهم مِنْ إخلاصٍ وصِدْقٍ فقال تعالى {يَبْتَغُونَ}. وهذا عملٌ قَلبيٌّ لا يَطَّلِعُ عليه إلا اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، وهو مَعنَى الإخلاصِ والصِّدْقِ في طَلَبِ رضوانِ الله وفضلِهِ.
وبَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالَى كذلك حَالَ الصَّحَابَةِ فيما بينَهم فقال مخاطبًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وآله وسلم {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال 62-63]
فقلوبُ آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ مجتمعةٌ على كَلِمَةٍ سواءٍ، وهي التّوحيدُ والإسلامُ والمحبةُ، فهذه الآياتُ وغيرُها؛ هي الأصلُ الذي ينبغي الرجوعُ إليه، وتركُ ما يُنقَلُ ويُكتبُ مِنْ أحاديثَ وأخبارٍ باطلةٍ في حَقِّ آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم.
حب الصحابة والقرابة سنة *** ألقى بها ربي إذا أحياني
فئتان عقدهما شريعة أحمد *** بأبي وأمي ذانك الفئتانَ
فئتان سالكتان في سبل الهدى*** وهما بدين الله قائمتانِ
فكأنما آل النبي وصحبه *** روحٌ يضم جميعها جسدانِ
ويجبُ أن نعلمَ جيدًا؛ أنَّ آلَ البَيْتِ والصَّحَابَةَ رضوانُ الله عليهم ليسوا بحاجةٍ إلى أَيَّةِ أحاديث مُخترعةٍ ومكذوبة تُبَيِّنُ فضائلَهم؛ ففضلُهم لا يُنْكِرُهُ إلاَّ مُكَابِرٌ أو جَاحدٌ.
شبـــه تهافــت كالزجــاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
القسم الثاني أحاديثٌ وأخبارٌ في فضائلِ آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ ومَحاسنهِم، حَوَّلَتْها وقَلَبتْها أيدي الكَذِبِ والتَّزويرِ إلى مساوئَ ومَثَالِبَ، والعجيب في أصحاب هذه الشبهات هو غفلتهم عن معارضة هذه الأباطيل التي يأتون بها بروايات وأخبار صحيحة تنسف ما يدعون وفيه يصولون ويجولون فمثال على هذه الشبهات والأخبار التي لها ينتصرون
- قِتَالُ أبي بكرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه لأهلِ الرِّدَّةِ بعدَ وفاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كان طاعةً لرسولِ الله في أمرهِ بقتلِ مَنْ بَدَّلَ دينَهُ مِنَ المُرتدّينَ، وذَوْدًا عن حَظيرةِ الإسلامِ والمسلمينَ، فجاء (البعضُ) وجعلَ هذه الفضيلةَ والمنقبةَ مِنْ مساوئِ الصّدّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه والعياذُ بالله، عن طريقِ بَثِّ الشُّبهاتِ حولَ هذا الفعلِ المباركِ مِنْ خَليفةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فزعموا - كذبًا - أنّه قاتلَ المسلمينَ، أو قاتلَ الذين أَبَوْا أنْ يُبايعوه!
وقد غفل هؤلاء عن تأييد كبار الصحابة لهذا الفعل المبارك بل وإجماع الأمة على استحسانه وكذلك غفلوا عن تأييد ومباركة إمام أهل البيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في حروبه ضد أهل الردة، فقد استشار أبو بكر رضي الله عنه عليا في شأن قتال من ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنع الزكاة فقال أبو بكر لعلي رضي الله عنهما (ما تقول يا أبا الحسن؟ قال أقول إنك إن تركت شيئا مما كان أخذه منهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأنت على خلاف سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أما لئن قلت قلت ذاك لأقاتلنهم وإن منعوني عقالا). (1) ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه رضي الله عنه لأبي بكر ونصحه للإسلام والمسلمين وحرصه على بقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين ما جاء من موقفه من توجه أبي بكر الصديق رضي الله عنه بنفسه إلى ذي القصة وعزمه على محاربة المرتدين. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال «لما برز أبو بكر إلى ذي القصة واستوى على راحلته أخذه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد «لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظاما أبدا»(2) فرجع الصديق رضي الله عنه أخذا بنصح الأمين المخلص علي رضي الله عنه.
وبعد هذا كله يأتينا من يكرر عبارات الظلم والجور فيقول (انهم كانوا يسمون القبائل التي رفضت خلافة أبي بكر بأسم المرتدين ظلماً وعدواناً)
(كامل النجار وجريمة الارتداد لنبيـل الكرخي)
فمن هم الذين كانوا يطلقون هذه التسمية صفهم لنا لماذا لم تسميهم وعلى أي برهان ودليل يتمسكون، أم ليس لديهم إلا الكذب والظلم والجور في إطلاق الأحاكم ومحاكمة التاريخ بهذه الطريقة الضعيفة التي لا تمت للبحث العلمي بصلة.
- وكذا قِتَالُ أميرِ المؤمنينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه للخوارجِ؛ تحقيقًا لنبوءةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، وطاعةً لأمرهِ بقتالِهم، فحوّلوا تلكَ المناقبَ العظيمةَ لعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وحِنْكَتَهُ في الحُكْمِ والإدارة إلى سَيِّئَاتٍ، وقِصَّةُ عبدِ الله بنِ عَبَّاسٍ الذي بَعَثَهُ الإمامُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهما للخوارجِ مِنْ أوضحِ الدلائلِ على ما ذكرنا (3).
- وأيضا تَنازُلُ الإمامِ الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عنه عنِ الخِلاَفَةِ لمعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنه؛ تحقيقًا لنبوءةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإصلاحِ، وحَفظًا لدماءِ المُسلمينَ، وجمعًا لشملِهم؛ فقُلبتْ هذه المآثرُ والفضائلُ إلى سيئاتٍ، حَتَّى قدحَ (بعضُهم) في سَيِّدِ شَبَابِ أهلِ الجنَّةِ الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عنه وأطلقوا عليه لَقَبَ (مُذِلُّ المؤمنينَ) (4)، تَعييرًا وتَهَكُّمًا عياذًا بالله مِنَ الخُذلانِ والحرمانِ، وتَجاهلَ هذا الخاسرُ مَدْحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لِفْعْلِ الحَسَنِ، بقولهِ «إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، ولعَلَّ اللهَ أنْ يُصْلِحَ به بين فئتينِ عظيمتينِ مِنَ المسلمينَ» (5) وقد كان هذا.
- وكذلك جَمْعُ الخليفةِ الثالثِ عُثْمَانَ الشَّهيدِ الصَّابرِ رَضِيَ اللهُ عنه للقرآنِ الكريمِ؛ هذه المنقبةُ العظيمةُ حُوِّلَتْ وقُلِبَتْ - أيضًا - إلى مَثلبةٍ وطَعنٍ فيه، مع أنَّ الأُمَّةَ إلى يومنا هذا يذكرون هذا الفعلَ المباركَ المُوَفَّقَ كفضيلةٍ كُبَرى ومِنَّةٍ عُظَمى على الإسلامِ والمُسلمينَ لا يعلمُ قدرَ عِظَمِها إلاَّ اللهُ تعالى والعالمونَ.
ولذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينهي من يعيب على عثمان رضي الله عنه ويقول (يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيرا، فوالله ما فعل الذي فعل - أي في المصاحف - إلا عن ملأ منا جميعا ـ أي الصحابة ـ والله لو وليت لفعلت مثل ما فعل)(6)
وغير ذلك كثيرٌ مما يطولُ ذكرُهُ مِنَ الطَّعنِ وقلبِ الحقائقِ في حَقِّ آلِ البَيْتِ والصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم. وإنما ضربنَا بعضَ الأمثلةِ للتوضيحِ والبيانِ، وليحذرَ القارئُ للتاريخِ مِنْ هذه الطرقِ والمناهجِ المتبعةِ مِنْ قبل البعضِ، هداهمُ اللهُ للحقِّ.
القسم الثالث أن يكونَ أصلُ القصةِ والحديثِ صحيحًا، لكن (البعضَ) يزيدُ عليها الشيءَ الكثيرَ، حتى تتحولَ مِنْ بضعِ كلماتٍ لا تتعدَّى الصفحةَ الواحدة إلى كِتَابٍ كاملٍ فيه مِنَ الأباطيلِ والأكاذيبِ الشيءُ الكثيرُ، مثلَ
(أ) - حادثة السَّقِيفَةِ، فهو حديثٌ لا يتجاوزُ الصفحةَ، ورواها بعضُهم فزادَ فيها نصوصًا موضوعةً تُخالفُ الروايةَ الصحيحةَ، ثُمَّ تلَقَّفها البعضُ الآخرُ وألَّفَ فيها كِتَابًا كَاملًا، بقصدِ الطَّعْنِ في الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم كما فعل الجوهري في كتابه(السقيفة) وغيره ممن ألف الكتب في شأن السقيفة وأدخل فيها الأكاذيب.
(ب) - وكذلك حديث (رزية الخميس)، وينظر في بيان مفهوم حديث رزية الخميس وجمع طرقه والرد على الشبهات المثارة حوله كتاب (العقد النفيس بدراسة حديث الخميس) وغيرها الكثير.
فعلى القارئ للتاريخ أن يكون على حذرٍ مِنْ هذا، وأن يميِّزَ بين أصلِ القصةِ وبين ما زِيدَ عليها.
وغالبًا ما تجدُ أنَّ أصلَ القصة موجودٌ في مصادرَ موثَّقةٍ وبأسانيدَ صحيحةٍ، والزيادات مأخوذةٌ مِنْ مصادرَ مشكوكٍ فيها وفي صحةِ إسنادها.
ولا شك أنَّ هذه الزيادات الشَّاذة الباطلةَ لَعِبَتْ وما زالت تَلعبُ دورًا مُهمًا في ضياعِ الحقائقِ واختلاطِها على كثيرٍ مِنَ الناسِ، مما جعلَ بعضَهُم يَرسمُ صورةً مشوَّهةً للتاريخ، ويصدرُ أحكامًا ظالمةً على رموزِ الأُمَّةِ الإسلاميةِ بسببِ هذا التّزويرِ.
القسم الرابع أن يكونَ الخبرُ أوِ الحديثُ سَنَدَهُ صحيحًا، ولم يَعْتَرِهِ زِيَادةٌ أو نقصانٌ، ويكونَ في الخَبَرِ شَيْءٌ مِنَ الأخطاءِ التي تقعُ مِنْ صَحَابيٍّ كونه غيرَ معصومٍ كبقيَّةِ النَّاسِ في كُلِّ زَمانٍ ومكانٍ. فنقول مَنْ ذَا الذي مَا سَاءَ قَط؟ ومَنْ لَهُ الْحُسْنَى فَقَطْ؟
إنَّ الاعتقادَ الصّحيحَ في الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ أنهم بشرٌ يُصيبونَ ويُخطئونَ، وتعتريهم الغفلةُ والنسيان كسائرِ بني الإنسانِ، لا ندَّعي لهمُ العصمةَ مِنَ الذنوبِ(7)، فالواجبُ ذِكْرُ مَحاسنِهم والتجاوزُ عن مساوئِهم، فو الله! لو قَارَنَّا هذا الخطأَ بما لديهم مِنْ حسناتٍ وأعمالٍ صَالحاتٍ من البَذْلِ والجِهادِ في سبيلِ الله تعالى ونُصرةِ دينهِ؛ لكانتْ كَحَبةِ رَملٍ في جِبَالٍ مِنْ رمالٍ، أو كقطرةِ ماءٍ في عبابٍ.
فإذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل، وكان ظاهرها وقوع الخطأ والزلل، فليلتمس المسلم لها أحسن المخارج والمعاذير، قال ابن أبي زيد (والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب)(8) وقال ابن دقيق العيد (وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه، فمنه ما هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحا أولناه تأويلا حسنا، لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك والموهوم لا يبطل المسابق المعلوم)(9).
ومما يدعو للأسف؛ أنّ (البعضَ) يُضَخِّمُ هذه الأخطاءَ، وصار شُغْلُهُ الشاغل البحث والتنقيب عنها بكلِّ سَبيلٍ لغرضٍ في نفسِهِ، وكأنها القضيةُ الفاصلة بين الحقِّ والباطلِ، مَنْ عرفها كان مؤمنًا، ومَنْ أنكرها كان كافرًا أو منافقا!! ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
إنّ غيابَ المعلوماتِ الدقيقة الموثقة عما جرى بين الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ يفرضُ علينا أن نتعاملَ مع تاريخِهم معاملةَ مَنْ زَكَّاهُمُ اللهُ تعالى في كتابهِ الكريمِ، هذا هو الأصلُ الأصيلُ، فإن عجزَ الباحثُ والقارئُ عن أنَ يجدَ سندًا صحيحًا لرواية ما؛ فعنده أصلٌ عامٌ يجبُ أن يتّبعَهُ، وهو ثناءُ الله سُبْحَانَهُ وتعالَى على ذلك الجيلِ الذي صَحِبَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاهد معه لإقامة الدين، وما كان اللهُ ليثني على قومٍ يعلمُ أنهم لن يكونوا أهلًا لهذا الثناءِ مستقبلًا، كيف وهو العليمُ الخبيرُ؟!
مع اعتقادنَا أنهم بشرٌ يتطرقُ إليهم الخطأُ والوهمُ والتقصيرُ شأنهم في ذلك شأن بني البشر.
لكن اتهامَهم بالسُّوءِ، والتحاملَ عليهم، ورميَهُم بالنِّفاقِ وحبِّ السُّلْطَةِ وغيرِ ذلك؛ هو مِنَ التَّألّي على الله ومنازعته في صفةٍ مِنْ صفاتهِ تبارك وتعالى، إذ إنَّ الجَزمَ بهذه الاتهامات يتوقفُ على عِلْمِ الغَيْبِ الذي استأثرَ به اللهُ العليمُ الخبيرُ، فَلا يُطْلِعُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا.
فيجبُ علينَا أن نحذرَ مِنَ الانزلاقِ وراءَ هذه الرواياتِ التي روَّجَ لها بعضُ المستشرقينَ (10) وأصحابُ الأهواءِ، الذين صَوَّروا الخلافَ الذي وقعَ بَيْنَ الأَصْحَابِ رَضِيَ اللهُ عنهم - اعتمادًا على رواياتٍ وَاهِيَةٍ ضعيفةٍ أحيانًا، وبسوءِ نِيَّةٍ أحيانًا أخرى - إلى صُورٍ بِشِعَةٍ تجعلُ منهم متصارعينَ، لا يختلفونَ عن طُلاَّبِ الكُراسي وعُشَّاقِ الزَّعامَةِ.
فحَريٌّ بكُلِّ غيورٍ أن يحرصَ على التَّمحيصِ والتثبت مِنَ الأخبار، فو الله! إنه ليكفينا القليلُ مِنَ التَّاريخِ مِمَّا صَحَّتْ أَسانيدُه، وخلا مِنَ التَّنَاقُضِ والتَّضَارُبِ، فهذا خَيْرٌ مِنْ أنْ يبقَى تاريخُنَا مَحشوًّا بالكثيرِ مِنَ الأكاذيبِ والافتراءاتِ، نهبًا لكلِّ مَنْ أَرَادَ أن يشيعَ الفتنة في صفوفِ الذين آمنوا، وأنْ ينالَ مِنْ مَكانةِ ذلك الجيلِ الفَريدِ، الذي شَهِدَ نورَ النُّبُوَّةِ واتصالَ الأرضِ بالسماءِ، وجَاهَدَ بكُلِّ ما يَمْلِكُ لإعلاءِ هذا الدينِ ونشْرِهِ في سائرِ البقاعِ.
ويَجبُ علينا أَلاَّ نقبلَ مِنْ هذا التُّراثِ إِلاَّ ما صَحَّتْ نسبَتُهُ إلى أصحابهِ، مِنْ قولٍ أو فعلٍ، بعيدًا عن هَالَةِ (التّقديسِ) ورُوحِ (التّضخيمِ)، والمغالاةِ في قيمتِها أوِ التَّنقصِ منها.
فأهلًا بالحقائقِ النَّاصِعَةِ ولو كانتْ قليلةً، وبُعْدًا وسُحقًا للأكاذيبِ والخرافاتِ والأساطيرِ وقَواميسِ المنَاقِبِ والمثَالِبِ (11) مهما تَعَدَّدَتْ مصادرُها ومواردُها، لأنها لا تقوى أمامَ موازين التمحيصِ الصارمة، ومطارق الحَقِّ القاهرة(12).
والعجب كل العجب ممن يقدمون منهجية البحث العلمي في أمور وافقت حاجة في نفوسهم وينسفونها في باقي الأمر، كما فعل مرتضى العسكري في كتابه عبدالله بن سبأ فهو ينكر حقيقة ابن سبأ ويتعذر بحقائق التاريخية والأسانيد الضعيفة مع أنها ثابتة لكن إذا جاء الحديث عن الصحابة فكل شيء مقبول طالما أنه يؤدي الغرض الذي يرتضيه وقس على هذا فأين الدقة التي ينادي بها هؤلاء وأين تلك المنهجية العلمية التي يرفعون شعارها لماذا لا تسحب على باقي الأخبار التاريخية والأحداث المهمة في صدر الإسلام!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (الرياض النضرة) لمحب الطبري(ص 670) (أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) للدكتور علي الصلابي حفظه الله (ص144)
(2) انظر(البداية والنهاية) لابن كثير (6314-315)
(3) انظر (تاريخ ابن خلدون) (2176).
(4) راجع السير (3147) والنص في تحف العقول عن آل الرسول (308) لابن شعبة الحراني
(5) أخرجه الإمامُ البُخاريُّ في (صحيحه) (رقم 2704).
(6) (فتح الباري) لابن حجر(918)وقال إسناده صحيح، (أسنى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) للدكتور علي
الصلابي(ص 190)
(7) ولا يتعارض ذلك مع القول بعدالة الصحابة، فيجب التفريق بين العدالة
والعصمة من الخطأ، فالعدالة ليس المقصود بها عدم وقوع الصحابة في الذنوب
والخطايا، هذا لم يقله أحد من العلماء أبدا، وهذا الأمر لا يكون إلا
لمعصوم، إذن العدالة شيء والعصمة شيء آخر، العدالة تعني قبول روايات
الصحابة رضي الله عنهم من غير طلب التزكية، ولا تكلف في البحث عن أسباب
عدالتهم، فالقرآن قد زكاهم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك.
انظر(اعتقاد أهل السنة في الصحابة» للوهيبي (ص93)، و(المنهج في التعامل مع
روايات ما شجر بين الصحابة) للدكتور محمد أبي الخيل(ص 49).
(8) (مقدمة رسالة أبي زيد القيرواني)
(9) (أصحاب رسول الله ومذاهب الناس فيهم) لعبد العزيز العجلان(ص360)
(10)مِنَ المستشرقين الذين صوّبوا سهامهم لتُراثِ المسلمين تاريخًا
وعقيدًة (أ ج أربري - د)، و (د. مرجليوث)، و (ج. فينسنك)، و (ماكدونالد)، و
(زويمر)، و (جولد زيهرغ)، و (فون جرونباوم)، وغيرهم وقد أجاد في كشف
مخططات هؤلاء الكثير من العلماء والكتاب من أمثال الأستاذ يوسف العظم في
كتابه المفيد (تاريخنا بين تزوير الأعداء وغفلة الأبناء) دار القلم، وكذا
مصطفى السباعي في كتابه القيم (الاستشراق والمستشرقون) دار البيان، وأخيراً
الدكتور حامد الخليفة في كتابه (الموقف من التاريخ الإسلامي) دار القلم.
(11)برزت (الشعوبية) بُعَيْدَ عصر الفتوحات، كردةِ فعلٍ عنصرية انتقامية
ضد العربِ حَملةِ الإسلامِ، فتبارى بعض ذوي الأهواء والبِدَعِ وصنفوا كتبًا
في مثالب (العرب)، ورُدَّ عليهم بالتصنيف في مثالب (الفرس والعجم)، وعليه؛
فلا ينبغي الاعتناء بهذا التراث الحاقد أو اعتماده؛ لغيابه عن الموضوعية
وروح البحث العلمي وحقيقته. انظر كتاب (الشعوبية عدو العرب الأول) لخير
الله طلفاح. مطبعة المعارف بغداد.
(12) (أحداث وأحاديث فتنة الهرج) للدكتور عبد العزيز دخان.
المصدر: موقع سلفية آل البيت.
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).