حصل في هذه
المسألة اختلاف بين العلماء، فمنهم من قال: لا توبة للمبتدع مطلقاً، ومنهم
من قال: بل توبته مقبولة إذا وقعت بشروطها الصحيحة، وقال آخرون: بل التوبة
مقبولة في بعض البدع وبعض الأحوال دون بعض، وقد اعتمد أصحاب كل قول من
هؤلاء على أدلة من النقل والنظر.
ومن أجل بيان القول الصحيح في هذه المسألة لا بد من إيضاحها ضمن المطالب التالية:
المطلب الأول:
الأحاديث والآثار
التي يحتج بها على امتناع التوبة عن صاحب البدعة، منها ما هو صحيح ومنها
ما هو ضعيف، وسوف نناقش هنا الأحاديث الصحيحة، وهي:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة»(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه ...».
وسبب الاقتصار
على الأحاديث الصحيحة أن الضعيف والموضوع لا حجة فيهما، وأما الآثار ففي
الكلام على الأحاديث الصحيحة ما يجعلها داخلة ضمن المعنى المراد.
فأما الحديث الأول فالجواب عنه بهذه الأجوبة أو ببعضها:
الجواب الأول: أن
هذا الحديث من نصوص الوعيد التي لا تفسر عند أهل السنة لتبقى هيبة الزجر
عن الابتداع، ومذهب أهل السنة أن كل ما توعد الله به العبد من العقاب فهو
بشرط أن لا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه.
الجواب الثاني: أن هذا الحديث من باب الأخبار الواردة في الشرع، ومن جنس قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 8-10].
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5]
فيكون معناه: أن المبتدع الذي ترك هدى الله، وتنكب سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وسلك الطريق الجائر، يستحق ألا يهديه الله هداية التوفيق
والتمكين التي من أجلّ أنواعها التوفيق للتوبة، فتحجر عنه التوبة من هذا
الباب؛ لأن الله قد وعد من قبل هداية إرشاده ودلالته بهداية توفيقه
وتمكينه، فقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمد:17].
وحقيقة حال
المبتدع التقدم بين يدي الله ورسوله، والافتئات على الشرع، وعدم الوقوف عند
ما حده الله له، فكأنه لم يقبل هداية الدلالة والإرشاد التي من أعظم
أركانها الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، ولذلك لم يستحق وعد الله بهداية
التوفيق والتمكين، فيكون ذلك سبباً في هلاكه وامتناع التوبة عنه، ومع ذك
فإن لله عز وجل أن يتكرم فيقبل توبة من يشاء من أهل الابتداع، بعد أن يوفقه
الله لها تكرماً منه، فإنه سبحانه لا يخلف الوعد، وله أن يتجاوز عن توعدهم
تكرماً، وقد ذكر هذا المعنى محمد السفاريني في "غذاء الألباب لشرح منظومة
الآداب" ونسبه إلى الإمام أحمد أنه (سئل عن ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم: «إن الله احتجر التوبة عن صاحب كل بدعة» وحجر التوبة أيش معناه؟ قال أحمد: (لا يوفق ولا ييسر صاحب بدعة)(2).
الجواب الثالث: يمكن أن يقال إن المبتدعة في هذه الأمة من حيث تعلقهم بالبدعة على قسمين:
قسم أُشرب قلبه
البدعة ومازج الهوى قلبه، لا يمكن في العادة انفصاله عن البدعة أو توبته
منها، مثل ما يدخل داء الكَلَب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من
أجزائه إلا دخله ذلك الداء بحيث لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء، وكذلك
صاحب الهوى إذا دخل قلبه وأشرب حبه ففي الغالب لا تعمل فيه الموعظة، ولا
يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه لاستحكام البدعة فيه، وتغلغل الهوى في
قلبه، فلذلك يندر أن يرجع عن هواه أو يتوب من بدعته.
وقد أشار إلى هذا
المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (قال طائفة من السلف منهم الثوري:
(البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب
منها). وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: (إن الله حجر التوبة على كل
صاحب بدعة) بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب
عليه، كما يتوب على الكافر. ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقاً فقد
غلط غلطاً منكراً، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة. فمعناه: ما
دام مبتدعاً يراها حسنة لا يتوب منها، كما يرى الكافر أنه على ضلال، وإلا
فمعلوم أن كثيراً ممن كان على بدعة تبين له ضلالها وتاب الله عليه منها،
وهؤلاء لا يحصيهم الله)(3).
وقسم لم يشرب قلبه البدعة ولم يتعلق بها كتعلق صاحب القسم الأول، وهذا يمكنه الرجوع إلى الحق والتوبة من الباطل.
الجواب الرابع: إن
المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله، ويتقرب بما أملاه عليه هواه، قد
زين له سوء عمله فرآه حسناً، ففي الغالب لا تقع التوبة منه ما دام يرى فعله
المبتدع حسناً، بل يراه هو الدين الصحيح كما شبه له، ويرى غيره هو الباطل
والضلال فيبقى ملازماً لهواه مصراً على بدعته فلا يتوب.
أما الحديث الثاني وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه ...»؛
فإنه خاص بالخوارج كلاب النار، ومع ذلك فلا يلزم منه أن التوبة منهم غير
ممكنة كما لا يلزم منه أنهم كفار خارجون من الدين على أصح قولي العلماء،
ومما يدل على أن توبتهم ممكنة واقعة ما رواه الحاكم في مستدركه وأحمد في
المسند عن عبد الله بن شداد (أن عليا رضي الله عنه لما اعتزله الحرورية بعث
إليهم عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة
آلاف).
والحديث الذي جاء بهذه الصيغة للتنفير من حالهم والتحذير من مصير المصرين منهم ومآلهم.
ولو قيل: إن
المراد به أن توبتهم غير حاصلة ولا ممكنة؛ لأن عودتهم إلى الإسلام منفية
بنص الحديث لأصبح هناك تعارض بين الخير وواقع توبة من تاب منهم بعد مناظرة
أبي عباس لهم، ولا يمكن أن يقع التعارض بين الخبر الشرعي والقدر الشرعي
الكوني، وهذا ما يوجب جعل هذا الحديث من ضمن نصوص الوعيد المحذرة من الوقوع
في الآثام كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ [النساء:10].
ونصوص الوعيد معلقة فيما عدا الشرك بمشيئة الله، ومشروطة بعدم التوبة، فمن تاب تاب الله عليه.
المطلب الثاني:
هذه الأحاديث
والآثار التي قد يفهم منها أن المبتدع لا توبة له مطلقاً لا بد من النظر
فيها ضمن نصوص الوعد والوعيد، وقاعدة أهل السنة والجماعة فيها، وضمن نصوص
التوبة التوبة والغفران الكثيرة.
فأما نصوص الوعيد
الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (فإنه قد علم يقيناً
أن كل ذنب فيه وعيد فإن لحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة، إذ نصوص الوعيد
مبينة لتلك النصوص كالوعيد في الشرك وأكل الربا وأكل مال اليتيم والسحر،
وغير ذلك من الذنوب)(4).
فإن لم تحصل
التوبة فإن المعاصي لله بالابتداع غير الكفري أو المخالفة التي لا تخرج من
الملة هو في مشيئة الله سبحانه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له..
وبهذا فارق أهل السنة والجماعة الوعيدية من الخوارج والمعتزلة.
وأما نصوص التوبة
والغفران فهي كثيرة جداً، وهي تفيد في مجموعها أن المغفرة تحصل لكل تائب
إذا استكمل شروط التوبة مهما كان الذنب وكيفما كان الجرم من هذه النصوص:
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:39].
ولا شك أن البدعة من الظلم للنفس والمجتمع، ومن العدوان على حقوق الله سبحانه وتعالى، فمن تاب منها فإن الله يتوب عليه.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه:82].
وقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ
لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً
صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ
يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً﴾ [الفرقان:68-71].
فإذا كانت التوبة مقبولة لمن أشرك في الدعاء، وارتكب كبائر الذنوب العملية فإنها تقبل ممن ابتدع حتى ولو خرج ببدعته عن الإسلام.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ
يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر:53].
وتدل الآية على
أنه لا ييأس المذنب من مغفرة الله سبحانه وتعالى، ولو كانت ذنوبه ما كانت،
فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب، ويدخل في ذلك كل
الذنوب: الشرك والبدعة والكبائر وغيرها من الذنوب.
ولا شك أن الشرك
أعظم الذنوب وأكبر الآثام، وهو الذي لا يغفر لصاحبه إذا مات عليه مطلقاً..
ولكن الله بسط غفرانه وقدم رحمته فقبل توبة المشرك إذا تاب كما قال سبحانه
وتعالى: ﴿فَإِذَا
انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:5].
وكما قال جل وعلا: ﴿لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ
إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا
يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:73-74].
فإذا كانت التوبة مفتوحة للكافر والمشرك، ومقبولة منهما فكيف بالمسلم المبتدع؟
والمبتدع الذي
تخرجه بدعته عن الإسلام ليس كالكافر الأصلي، فإذا قبلت توبة الكافر الجاحد
فتوبة المبتدع أولى، ولا فرق بين الداعية وغيره كما سيأتي.
أما الأحاديث الدالة على هذا المعنى فهي كثيرة أيضاً ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه»(5).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»(6).
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً ...»(7).
فمجموع هذه
الأدلة وغيرها مما يشبهها تدل دلالة قطعية على أن التوبة غير محجورة على
أحد ولا ممنوعة من أحد مهما كان ذنبه، وأن التائب الصادق مغفور له ومعفي
عنه مهما عمل إذا استكمل شروط التوبة، سواء كان مشركاً ثم تاب أو مبتدعاً
أو صاحب كبيرة.
المطلب الثالث: في دلالة الواقع على أن المبتدع يمكن أن يتوب:
فقد ورد في تاريخ الإسلام وتراجم الأعلام وغيرها ما يدل على وقوع التوبة من المبتدع، فمن ذلك:
1) توبة أربعة آلاف من الخوارج
بعد أن ناظرهم ابن عباس رضي الله عنه، مع أن الخوارج من أصحاب البدع
الغليظة، وقد ورد فيهم من الأحاديث ما لم يرد في غيرهم من الفرق، فهم كلاب
النار، وهم الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وهم الذين أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وبشر من قاتلهم أو قتلوه بالجنة. ومع كل
هذا فقد تاب منهم هذا الجم الغفير، وكانوا قبل ذلك على ضلالة يقاتلون
عنها، ولم يقل أحد من الصحابة أن توبتهم غير مقبولة أو أن التوبة محجورة
عنهم.
2) توبة يزيد بن صهيب الفقير،
ورجوعه عن رأي الخوارج هو ومن معه: روى ذلك مسلم في صحيحه في حديث طويل
قال فيه يزيد الفقير: (كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة
ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة فإذا
جابر بن عبد الله يحدث القوم جالس إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم -قال- فإذا هو قد ذكر الجهنميين. قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله: ما
هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران:192] و: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ [السجدة:20]
فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت
بمقام محمد عليه السلام - يعني الذي يبعثه الله فيه -؟ قلت: نعم، فإنه مقام
محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج - ثم ذكر
حديثاً طويلاً - ثم قال يزيد: فرجعنا، قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد)(8).
3) توبة صبيغ بن عسل العراقي:
فيما رواه الدارمي وابن وضاح أن صبيغ جعل يسأل عمر أشياء من القرآن في
أجناد المسلمين حتى قدم مصر فبعث ابن عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب،
فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال: أين الرجل؟ فقال: في الرحل. قال عمر
أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الموجعة. فأتاه به، فقال عمر: تسأل
محدثة، فأرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره وبرة، ثم تركه
حتى برئ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برئ، فدعا به ليعود له، قال: فقال صبيغ:
إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد تداويني فقد والله
برئت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من
المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت توبته،
فكتب عمر أن يأذن للناس لمجالسته)(9).
4) توبة نعيم بن حماد:
فيما رواه الذهبي في سير النبلاء أن نعيماً كان يقول: (أنا كنت جهمياً
فلذلك عرفت كلامهم، فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل)(10)، ولهذا وُصف بأنه من أشد الناس على الجهمية، ووضع في الرد عليهم ثلاثة عشر كتاباً.
5) توبة عون بن عبد الله: وقع في الإرجاء بعد أن ناظره ناس منهم، ثم رجع عن الإرجاء.
6) توبة محرز بن عبد الله أبو رجاء الجزري: قال
في فتح المغيث: (... وقيل إنه لا يروى لمبتدع مطلقاً بل إذا استحل الكذب
في الرواية والشهادة نصرةً، أي: لنصرة مذهب له أو لغيره ممن هو متابع له،
كما كان محرز أبو رجاء يفعل حسبما حكاه عن نفسه بعد أن تاب من بدعته، فإنه
كان يضع الأحاديث يدل بها الناس في القدر)(11).
7) توبة موسى بن حزام: قال
ابن حجر في التهذيب: (... وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان في أول أمره
ينتحل الإرجاء، ثم أعانه الله تعالى بأحمد بن حنبل فانتحل السنة وذب عنها،
وقمع من خالفها، مع لزوم الدين حتى مات)(12).
8) توبة أبي الحسن الأشعري: قال
الذهبي: (وكان عجباً في الذكاء وقوة الفهم، ولما برع في معرفة الاعتزال
كرهه وتبرأ منه، وصعد للناس فتاب إلى الله منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة
ويهتك عوراتهم)(13).
9) وقد حكى شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله عن نفسه أنه كان يقول ببعض الأقوال المبتدعة ثم رجع عنها،
قال رحمه الله عند كلامه على مسألة الزيارة الشرعية والبدعية: (وأنا وغيري
كنا على مذهب الآباء في ذلك ونقول في الأصليين بقول أهل البدع، فلما تبين
لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله أو نتبع ما وجدنا
عليه آباءنا، فكان الواجب هذا اتباع الرسول ...)(14).
وقال عند حديثه
عن الزيارات غير المشروعة أثناء الحج: (وقد ذكر طائفة من المصنفين في
المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته
قبل أن أحج في أول عمري لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا
أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين
الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئاً من ذلك، وأن أئمة العلم
والهدى ينهون عن ذلك ...)(15).
وهذا الذي ذكرته
هنا عن بعض من رجع عن بدعته وتاب منها قليل من كثير يوجد في تراجم أعلام
الإسلام، وفيها إثبات وقوع التوبة وحصولها ممن انتحل قولاً مبتدعاً أو عمل
بما فيه ابتداع، وأن من تاب من اعتقاد فاسد أو عمل بدعي قبت توبته مهما
كانت بدعته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
هذا الحديث مروي بإسنادين: أحدهما صحيح والآخر ضعيف، فأما الصحيح فقد ذكره
الهيثمي في مجمع الزوائد (10/189) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله
رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة.
وذكره
الألباني في السلسلة الصحيحة (4/154) وقال: أخرجه أبو الشيخ في تاريخ
أصبهان (ص:259) والطبراني في الأوسط رقم (4360) وأبو بكر الملحمي في مجلسين
من الأمالي (ق 148/ 1-2) والهروي في ذم الكلام (6/101/1) والدساكر على ابن
عساكر (ق 33/1) من طرق عن هارون بن موسى: حدثنا أبو ضمرة عن حميد عن أنس
مرفوعاً ثم قال بعد ذلك: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير
هارون بن موسى وهو الفروي قال النسائي وتبعه الحافظ في التقريب: لا بأس به،
وأما الضعيف فقد أخرجه ابن عدي في الكامل (6/2261) في ترجمة محمد بن عبد
الرحمن القشيري حيث ذكر أنه منكر الحديث ومجهول. وأخرجه ابن أبي عاصم في
السنة (1/21) عن طريق القشيري هذا وهو علته. اهـ.
(2) غذاء الألباب (2/483).
(3) مجموع الفتاوى (11/684-685).
(4) مجموع الفتاوى (18/187).
(5) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء باب استحباب الاستغفار (3/3075) وأحمد (2/275، 395، 427، 495، 506، 507).
(6) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب التوبة مفتوحة قبل الغرغرة (5/547) وأحمد في المسند (2/132، 153)(3/425)(5/174).
(7) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والأدب باب تحريم الظلم (3/1994).
(8) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة فيها (1/179-180).
(9)
رواه الدارمي واللفظ له في المقدمة باب من هاب الفتيا وكره التنطع والبدع
(ص:55) ورواه بسند آخر مختصرا (54) ورواه ابن وضاح في البدع بثلاثة أسانيد
(56-57).
(10) سير أعلام النبلاء (10/597).
(11) فتح المغيث (1/328).
(12) تهذيب التهذيب (10/341).
(13) سير أعلام النبلاء (15/86).
(14) مجموع الفتاوى (6/258).
(15) اقتضاء الصراط المستقيم (2/102).
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).