0
ولاية الفقيه . . وبداية الأفول
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
أما بعد:
فمن مسلَّمات عقيدة أهل السنة والجماعة محبة صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وموالاتهم، ومعرفة فضلهم وجهادهم - رضي الله عنهم - وأرضاهم، وأنَّ أفضل هذه الأمة وخيرها بعد نبيِّها - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمرُ، ثُم عُثمان، ثم علي - رضي الله عنهم – أجمعين، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عَمَد الصحابة إلى أفضلهم فنصَّبوه لخلافة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في القيام بأمور المسلمين، وقالوا: رضيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لديننا، أفلا نرضاه نحن لدنيانا!، فاختاروا لدينهم ودنياهم أطوعَهُم وأرضاهم لله.
واخترعت الشيعة مسألة الإمامةِ والنصِّ على علي - رضي الله عنه -، وادَّعوا أمراً لم يعلمْه عليٌ - رضي الله عنه - ولا ادَّعاه، وهو أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نصَّ عليه وعلى الأئمة من بعده، وجعل الأمر فيهم لا يخرج عنهم، وأن الصحابة - رضي الله عنهم - أخذوا الأمر منهم غصباً، وأضاعوا وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وادعوا أن الإمامة من أعظم الأمور التي لا يجوز أن يموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبيِّنها للناس، ولم يعيِّن صاحبها لهم. وهؤلاء الأئمة معصومون، وقد ضلَّت الصحابة وَكَفَرَت بمخالفتِهم للأئِمة -الذين أرادهم الله وأرادهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - واستِبدادِهم بالأمر دونهم، ومع قولهم لما قالوا، وجعلهم (الإمامةَ) و(النصَّ على الأئمة) من أركان الدين إلا أنهم اختلفوا اختلافاتٍ كثيرة في تعيين هؤلاء الأئمة، وتفرَّقوا إلى فرقٍ كثيرة بعد موت كل إمام من أئمتهم بسبب اختلافهم في الإمام الذي بعده، والذي استقرَّ عليه الشيعة الإمامية الاثناعشرية أنهم اثنا عشر إماماً، عليٌ والحسنُ والحسينُ ثم بقيت في ذرية الحسين من بعد. وقد اشترطوا في كل إمام أن يكون من ذرية الإمام الذي قبله، وورد في عددٍ من نصوصهم أنها متوارثةٌ في ذرية الحسين بصورةٍ عموديةٍ إلى يومِ القيامة في الأكبر فالأكبر، مع عدم جواز انتقالها إلى أخٍ أو ابن أخٍ، أو عمٍ أو ابن عم. فكان بعد الحسين - رضي الله عنه -: عليُ بنُ الحُسين (زينُ العابدين)، ثم محمدُ الباقرُ بنُ علي زين العابدين، ثُم جعفرُ الصادقُ بنُ محمد الباقر، ثُم موسى الكاظمُ بنُ جعفر الصادق، ثُم عليُ الرضا بنُ موسى الكاظم، ثُم محمدُ الجوادُ بنُ علي الرضا، ثُم عليُ الهادي بنُ محمد الجواد، ثم الحسنُ العسكري بنُ علي الهادي. وبموت الحسن العسكري إمامهم الحادي عشر في سنة 260 في سامراء وصل الشيعةُ إلى طريقٍ مسدود حيث إنَّ الحسنَ العسكريَّ هذا لم يكن له أولادٌ أو ذريةٌ يرثون منه منصب الإمامة، ولا تصح الإمامة إلا في ذرية الإمام!!. ولأجل ذلك ادَّعوا أن له ابناً اسمُه مُحمَّد (محمد بن الحسن العسكري) وأنه دخل بعد موت والده في سرداب يُعتقد أنه عند دار والده في سامراء، ومع أن بعض كتب الشيعة قالت عن وفاة الحسن العسكري أنه بعد موته (لم يُرَ له خلف، ولم يُعرف له ولدٌ ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأُمَّه) ومع ذلك فقد جعلوا ابنه هذا الذي يدعونه المهدي حجةَ الله على أهل الأرض، ولو بقيت الأرضُ من غيره ساعةً لساخت وماجت بأهلها كما يموج البحرُ بأهله.
ومع أن الشيعة اختلفوا في أول الأمر بعد انقطاع عقب الحسن العسكري وذهبوا مذاهب شتى من قائلٍ بعدم وفاة الحسن العسكري نفسِه (والد المهدي)، وأنه غائبٌ يجبُ انتظارُه، وقال البعضُ بتكذيب إمامته لأنه مات عقيماً، إلا أن رأي الاثنا عشرية استقر على أنه قد وُلد هذا الولد للحسن العسكري، وأنه غاب بعد موت والده، بالطبع وُجد إنكارٌ لوجود محمد هذا بعد موت والده، وممن أنكر ذلك جعفرُ أخو الحسن العسكري، الذي أنكر أن يكون لأخيه ولدٌ، كما شهد أيضاً بذلك نقيبُ الأشراف، إلا أن القول بولادته وحياته ثم غيبته في سن الثالثة أو الخامسة هو القول الذي استقر عليه المذهب.
ولعلاج هذه الفجوة في المرجعية بعد موته قالوا بوجود بوابين له يُخبرون الناس بأوامره، يقول الطوسي: (ولد الخلف المهدي صلوات الله عليه سنة ست وخمسين ومائتين، ووكيله عثمان بن سعيد، فلما مات عثمان بن سعيد، أوصى إلى أبي جعفر محمد بن عثمان، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمد السَمري.. ) فهؤلاء كانوا في مدة حياتهم لهم النيابة عن المهدي في زمن غيبته الصُغرى، وكان الواحد منهم بمثابة الناطق الإعلامي عن المهدي في غيبته الصُغرى، فإذا اختلف الناس في شيء جاؤوا لهم بالخبر والفتوى من المهدي الغائب عن الأنظار، ومع ذلك فقد نازع هؤلاء البوابين غيرُهم، كما هو الشأن دائماً، وادَّعوا أنهم هم بوابي المهدي، ولمَّا طال الأمدُ، وخشي السَمريُ من افتضاح أمر المهدي المزعوم، خصوصاً لما كثُر الراغبون من الشيعة بهذه البابية والوساطة عن المعصوم ووصل الأمر بهم إلى التلاعن والتكفير، فلما أدركت السمري الوفاة أراد أن يُغلق هذا الباب، وزعم أنَّ المهدي دخل في غيبةٍ كُبرى، وأنه ما عاد له بوابين وما عاد هناك من سبيل ووسيلة للتواصل معه، وهنا انفتح الباب من حيث أرادوا إغلاقه حيث أصبحت النيابة عن الإمام حقاً مُطلقاً للشيوخ، وقد وضع شيوخ الشيعة من الروايات ما يناسب هذا الأمر غير المتوقَّع، وهكذا يلعب المتنفِّعون بالدين دوماً، فرووا عن الصادق أنه قال: (للقائم غيبتان أحدُهما قصيرة والأخرى طويلة، الأولى لا يعلم بمكانه إلا خاصةُ شيعته، والأخرى لا يعلم إلا خاصةُ مواليه في دينه).
وفي هذه الغيبة لم يُحلهم المهدي المزعوم إلى الكتاب والسنة، ولكنه أحالهم إلى شيوخهم؛ ولذلك يطلقون على شيوخهم الذين وصلوا إلى منصب (النيابة عن الإمام( اسم )المراجع وآيات الله" فهم مظاهر للإمام المعصوم، ولذلك يقرر أحد شيوخهم المعاصرين بأن الراد على النائب كالراد على الله - تعالى -وهو على حد الشرك بالله وذلك بمقتضى عقيدة النيابة، فكانت النتيجةُ أن تخلى شيوخ الشيعة عن آل البيت رأسًا، وتعلقوا بهذا المعدوم، ثُم وَضَعُوا أنفسهم مكان الإمام من أهل البيت باسم هذا المعدوم، وهذه غنيمةٌ كبيرة، فَتَحَت الباب على مصراعيه للتحريف والكذب باسم الأئمة، مع تعليق الناس بهذا المعدوم الذي لم تلده أُمُّه، ولم يعرف الدنيا لا في ضوئها وسَعتِها، ولا في ظلامها وسراديبها، لأنه لم يخلقه الله أصلاً، وهذا المهدي "ليس له عين ولا أثر، ولا يُعرف له حسٌ ولا خبر، لم ينتفع به أحد لا في الدنيا ولا في الدين، بل حصل باعتقاد وجوده من الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد) (منهاج السنة: 4/213).
ثم إنهم يقولون: إن المهدي دخل السرداب بعد موت أبيه، وعمره سنتان أو ثلاث أو خمس على اختلاف رواياتهم، وأصبح من ذلك الوقت هو الإمام على المسلمين رغم طفولته واختفائه، مع أن الواجب في حكم الله الثابت بنص القرآن والسنة والإجماع أن يكون هذا اليتيم -على فرض وجوده- يُوصَّى عليه لا أن يكون هو وصياً على المسلمين، وأن يكون ماله عند من يحفظه حتى يُؤنَس منه الرشد، فكيف يكون من يستحق الحَجرَ عليه في بدنه وماله إمامًا لجميع المسلمين معصومًا لا يكون أحد مؤمنًا إلا بالإيمان به؟! (منهاج السنة: 2/164). (فكيف إذا كان معدومًا أو مفقودًا مع طول هذه الغيبة؟! والمرأة إذا غاب وليُّها، زوَّجها الحاكمُ أو الوليُ الحاضر لئلا تضيع مصلحة المرأة بغيبة الولي الموجود، فكيف تضيع مصلحة الأمة مع هذا الإمام المفقود على طول الدهور) (منهاج السنة: 1/30، المنتقى: ص31، رسالة رأس الحسين: ص6).
وبغض النظر عن موقف أهل السنة من مهدي الاثني عشرية وغيبته.. فإن المتأمل لنصوص المهدية والغيبة في كتب الاثني عشرية المعتمدة، يلاحظ ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أن هذه الدعوى لم تلق قبولاً لدى الشيعة أنفسهم إلا في العصور المتأخرة نسبيًا، وذلك حين جدت الدعاية الشيعية في ترويج هذه العقدية، وألغت فكرة البابية التي انكشف بواسطتها أمر الغيبة، ولذلك فإن شيخهم النعماني وهو من معاصري الغيبة الصغرى يقرر أن جميع الشيعة في شك من أمر الغيبة إلا قليلاً منهم.
أيها المسلمون: وقع الشيعةُ في حرجٍ بموت الحسن العسكري، جعلهم يدَّعون غيبة مَن زعموه ابناً له، وكان هذا الابن الإمام الثاني عشر يُنفِذُ إليهم في غيبته الصغرى بعض ما يحتاجونه من أمور دينهم، أما وقد غاب بالكلية فإنَّ هذا تسبب لهم في الدخول في مرحلةٍ سموها (مرحلة الانتظار)، وهي مرحلة تتسم بالسلبية السياسية المطلقة، حيث حرَّموا الثورةَ وإقامةَ الدولة إلا بعد ظهور الإمام المعصوم المنصوص عليه من الله، وعطَّلوا كُلَّ ما يتعلق بالدولة من أمور، كجباية الخُمُس والزكاة، وإقامة الحدود، وصلاة الجُمُعة. ومع أن التاريخ الإسلامي وُجد فيه دولٌ كانت تأخذ بالمذهب الشيعي الاثني عشري إلا أن شيوخهم أصرُّوا على تكريس مبدأ الانتظار السلبي في كُتبهم، وحتى عندما قامت الدولة الصفوية التي أرادت أنْ تتمسَّح بالدين والتشيُّع فإنَّ قسماً من الشيعة ظلَّ يُقاوم هذا الاتجاه، ويؤكِّدُ على نظرية الانتظار القهري هذه، والصفويون كانوا في مبدأ أمرهم قليلي علمٍ بمبادئ التشيع، وغلبت عليهم مسألة الملك، ورأوا أن نظرية الانتظار لا معقولةٌ ولا واقعية، فأجازوا لزعمائهم وهم غيرُ معصومين، ولا منصوصٌ عليهم من الله - تعالى -أن يستولوا على المُلك، وفي مرحلةٍ لاحقة، ومن أجل تثبيت دعائم الملك وبينما كان الشاه إسماعيل الصفوي مع مجموعةٍ من رفقائه في رحلةٍ للصيد في منطقة تبريز- مرَّوا بنهر؛ فطالبهم بالتوقُّف عنده، وعبر هو النهر بمفرده، ثم دخل كهفاً هناك، ثم رجع إليهم متقلِّداً سيفاً، وأخبرهم أنه لقي صاحب الزمان يعني المهدي- وأنه قال له: (لقد حان وقت الخروج، وأنه أمسك ظهره، ورفعه ثلاث مرات، ووضعه على الأرض، وشدَّ حزامه بيده، ووضع خنجراً في حزامه، ورخَّصه فقال له: اذهب فقد رخَّصتُك). ثم ادَّعى إسماعيل بعد ذلك أنه شاهد علياً - رضي الله عنه - في المنام، وأنه حثه على القيام وإعلان دولة الشيعة.
المقصود أن الشيعة قبل الدولة الصفوية على مدار مئاتٍ من السنين من بعد عام 260 للهجرة النبوية مَنَعوا من القيام بواجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانوا شيوخهم يعزفون عن خوض العمل السياسي أو التصدي للظلمة والطواغيت، وانعكست قضية الانتظار أيضاً على الحدود الشرعية، حيث اشترطوا لإقامة الحدود كعقوبة السارق والزاني ظهور الإمام المهدي الغائب، وكاد إجماع الشيعة ينعقد عبر التاريخ على حرمة الجهاد في غير الدفاع. وشملت هذه السلبية قضية الزكاة والخُمُس حيث عطَّلوا بعض موارد الزكاة المتعلقة بشؤون الدولة ولكنهم هنا أيضاً فعلوا فعلاً عجيباً؛ حيث إنهم أوجبوا الزكاة من ناحية، ثم إنهم أمروا المكلَّفين بإخراجها وتوزيعها بأنفسهم لعدم وجود الإمام الشرعي، ثم أسقطوا بعض الحصص المتعلقة بالدولة. وأمَّا الخُمُس الذي لا يحق لغير الإمام استلامه وتوزيعه فقد قال عنه شيخهم المفيد: قد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك، وذهب كل فريق منهم إلى مقال: فمنهم من يُسقط فرض إخراجه لغيبة الإمام وما تقدَّم في الرُّخَص فيه في الأخبار، وبعضهم يُوجبُ كنزه ويتأوَّل خبراً ورد (أن الأرض تُظهرُ كنوزها عند خروج الإمام المهدي وأنه إذا قام دلَّه الله على الكنوز فيأخُذَها من كل مكان)، وبعضُهم يرى عزلها لصاحب الأمر، فإن خشي الموتَ دفعها إلى من يثق به في عقله ودينه حتى تُسلَّم إلى الإمام... ثُم إنْ أدرك هذا قيامَ الإمام وإلا وَصَّى بها إلى من يَثِقُ في عقله وديانته وهكذا إلى أن يظهر إمامُ الزمان. اهـ كلام المفيد.
ومما بطل أيضاً بعد غياب الإمام صلاةُ الجُمُعة حيث أفتى فقهاؤهم بتحريم أو عدم وجوب صلاة الجمعة كون الإمامِ ووجودِه شرطٌ في صحة صلاة الجُمُعة.
كلُّ هذا وغيرُه أدَّى إلى غياب الشيعة عن ساحة التأثير، وهو الأمر الذي دفع بعض علمائهم إلى إحداث بعض التغييرات لما يرون من مفاسد هذا الرأي الذي فرضه عليهم التنطُّع، ومفاجأة غياب الإمام الثاني عشر، ومن هنا قال بعضُ علماء الشيعة بجواز القياس والاجتهاد، وهما محرَّمان عندهم من جهة الأصل، وهو تيارٌ بدأ ضعيفاً في وقتٍ مبكِّر، ثُم لم يلبث أنْ قوي مع الزمن فكان الشيخ المفيد وتلميذاه المرتضى والطوسي ممن أخذوا بذلك منذ القرن الخامس. ثم حدث بعد ذلك إعادة النَّظر في ورطتهم فيما يتعلَّق بالتقيَّة وتعطيلِ الشرائع الدينية انتظاراً لخروج المهدي؛ وطُوِّرَت قضيةٌ كان لها دورٌ كبير في مستقبل الشيعة السياسي حيث ظهرت نظريةُ النيابة الواقعة للفقهاء عن الإمام الغائب، وأخذ بهذه المبادئ غيرُ واحدٍ من علمائهم ومراجِعِهم كان منهم الشيخُ المُفيد والأردبيلي، وجعفر آل كاشف الغطاء، ومحمد حسين النجفي.
وبناءً على ذلك رجعت إلى الحياة الشيعية مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكنهم شرطوها بإذن الفقيهِ الوليِّ نائبِ الإمام، وتطوَّر حُكمُ الخُمُس من جواز تركه أو القول بحبسه أو دفنه إلى الوجوب على أن يتم تسليمه إلى الفقهاء للاحتفاظ به حتى ظهورِ صاحب الزمان، أو لتوزيعه على المحتاجين، وبمثل ذلك وقعت تطوُّرات في حُكم صلاة الجمعة وغيرها من الأمور التي تحوَّلت من الموقف السلبي الذي ينتظر صاحب الزمان إلى الحراك والفعل الذي يُسهم في التغيير والإمساك بزمام الأمور.
وقد كان من أسباب هذا التطور وجودُ الدولة الصفوية، التي خاضت في ذلك من غير فتوى، ثُم لم تعدم بعد ذلك من يُفتيها، ولكنها بعد سقوطها تركت مجالاً رحباً للفقهاء الشيعة في سد هذه الفجوات، وهو الأمر الذي دفع بالشيخ أحمد النراقي (1245) إلى طرح نظرية النيابة عن الإمام الغائب في شكلٍ أكثر شمولية وتطوُّراً تحت مُسمى "ولاية الفقيه"، وكانت نظرية النراقي تتألَّف من قسمين أولُهما: ضرورة الإمامة في عصر الغيبة، وثانيهما: حصرُ الإمامة في الفقهاء، فشرَّع لأول مرةٍ في تاريخ الشيعة لفقهائهم أن يفعلوا الفعل الذي كفَّروا لأجله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -!!. أليس تكفير الشيعة للصحابة مبناه على اغتصاب الصحابة - رضي الله عنهم - للخلافة من علي -كما يزعمون- فهاهم الآن يغتصبون الخلافة من ولد علي (صاحب الزمان)، وتابعه على ذلك جمعٌ من علماء الشيعة، حتى جاء آيةُ الله روح الله الموسوي الخميني لِيُخرج هذا الكلام من النظرية إلى التطبيق قبل نحو ثلاثين عاماً من الآن، حيث انتقد نظرية الانتظار، وتوصَّل من ذلك إلى ضرورة إقامة الدولة بقيادة من تتوافر فيه خصائص الإمامة من العلم بالقانون والشريعة والعدالة، وطرح الخميني بعد نحو عشر سنوات من الثورة وإقامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية نظرية (ولاية الفقيه المُطلقة) التي لا تحدها حدود، فانتقلوا من ضدٍ إلى ضدِّه، قال الله - تعالى -: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}، واعتبر الخميني الفقهاء أكثَرَ من (نوابٍ للإمام المهدي الغائب) وأنهم أيضا هم أوصياء للرسول - صلى الله عليه وسلم - من بعد الأئمة وفي حال غيابهم، وقد كُلِّفوا بجميع ما كُلِّف الأئمة بالقيام به، واعتبر بناء على ذلك ولاية الفقهاء مجعولةً من قِبَل الله كولاية الرسول والأئمة من أهل البيت، وأنها ولايةٌ دينية إلهية.
وفي ضوء هذا كُلِّه تفهم سر إعظامهم للخميني، الذي كان نائباً عن الإمام المعصوم وتقديسهم لقبره بفعل التُرَّهات والشركيات عنده، كما يفعلون بقبور أئمتهم.
فالحمد لله على نعمة الهداية لدينه الحق، والصلاة والسلام على نبيه وآله وأتباعه على الحق إلى يوم الدين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلَّم على نبيه وآله وصحبه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
صخبٌ عارم، وقمعٌ عنيف، نتائج انتخابات طال حولها الجدل، صحبها تضييق وإغلاق لمنافذ الرأي، تحجير على الصحافة، وإغلاق للعديد من الصحف، وطردٌ لبعض القنوات الإخبارية، وحجبٌ لمواقع كثيرة على الانترنت، تُهَمٌ متبادلة، واستعارة لشعارات الثورة ضد الشاه: ليسقط الدكتاتور أو (مرك بر دكتاتور)، تواصلُ الغضب الشعبي، وتواصلُ التنديد بالحكومة، وبالمرشد الأعلى للثورة، اتهاماتٌ بالتزوير، وتعريض بالفساد بشخصيات منزَّهة حتى عن ظنون السوء، ادعاآت للديمقراطية من الجانبين، بل وادعاء مباركة صاحب الزمان لأحد الخصمين، ولذا فقد ختم خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية خطبته في يوم الجمعة الماضية بقوله: (إني ضعيف أمام صاحب الزمان، فماذا أفعل وقد بذلتُ ما أستطيع). فتخلَّى عن ذنب قمع الناس ومصادرة رأيهم وحمَّلَها للإمام المهدي الغائب في السرداب، المهدي الذي بشَّر نجاد قبل عدة أعوام بظهوره عام 2008، والذي تكلَّم معه قبل مدة قليلة في أثناء حملته الانتخابية.
أحبتي في الله، إن من المستقر عندي أنه يجب تنزيه المنابر من الانحياز إلا للحق، ومن الدخول في تخمينات الساسة، وألاعيب السلطويين، ولكني مع ذلك أقول: إنَّ المتحدِّث باسم الدين في الوقت الذي يجب عليه أن يُنزِّه الدين عن قذارة السياسة وألاعيبها، فإن عليه أن يأخذ الدروس والعِبَر بالحق للحق، لست هنا لأناصر الإصلاحيين أو المحافظين، ولكني أريد أن أقف مع هذه الأحداث الوقفات التالية:
أولاً: ما أسرع تهاوي الباطل، وهاهي نظرية ولاية الفقيه التي ابتدعوها فراراً من بدعةٍ أخرى أسوأ منها، هاهي تواجه تحدياً ضخماً، ورفضاً عاماً، وابتذالاً سياسياً للإمام المعصوم بتوظيفه لصالح هذا الطرف أو ذاك. بل إن ذلك أطلق صيحات بعض الناس حول قدسية هؤلاء المعممين، وحول توسُعهم في الأموال وفي زواج المتعة باسم الدين، مع أنهم لا يرضون بزواج المتعة لبناتهم وأخواتهم.
ولمَّا كان عُلماءُ الباطل أسرعَ الناس إلى الباطل، أظهرت هذه الانتخابات من تُهم الرشاوى، والفساد المالي والتعليمي والسلطوي ما يتعجَّبُ منه المراقب من قومٍ يدَّعون الحكم باسم الدين. نعم، إنه لا يخلو مجتمعٌ من فساد، وليس عالمٌ ولا رجل دينٍ بمعصوم، إلا أن انتشار أسباب الفساد، وتمكين العلماء من أموال الناس ومصالحهم وفروج نسائهم بغير حق ولا سلطانٍ من الله، كلُّ هذا يفتح باب الفساد عريضاً، ويدلُّ على فساد الأصل الذي مكَّنهم من ذلك.
وفي ظل الفساد المالي والاستغلال الجنسي للمرأة والتزوير والكذب، وسقوط العصمة والرمزية من المرشد الأعلى للثورة... وفي ظل تفتُّح الشباب على الأفكار الأخرى يُتوقَّع تزايد الاعتراض على قاعدة ولاية الفقيه، وخلخلتها، بل وربما الانقلاب عليها. وإذا مُسَّت كرامة الناس ومعايشهم الأصلية سقطت كُلُّ قداسة، وما حادثة تفجير قبر الخميني إلا دلالةٌ رمزية في هذا الاتجاه.
ثانياً: يحاول بعضُ المفلسين من المثقفين العرب أن يتخذ مما يحصل الآن من ظهور لبعض سيئات نظام ولاية الفقيه، وبعض تصرفات هؤلاء المبتدعة أن يتخذ ذلك تُكأةً للطعن في أهل الدين بعامة، بل وتكلَّم الشيطان الذي يسمي نفسه بأدونيس بما مفاده أن هذا هو الأثر السلبي للدين على الناس، ويجب على الناس أن يتحرروا من الدين حتى تصلح لهم دنياهم، والحقيقة أن ما بين نظرية الخلافة والحكم عند أهل السنة، وبين نظرية ولاية الفقيه أبعد مما بين السماء والأرض، فعندنا لا يستمد الحاكم المسلم سلطته من الله، ولكنه يحكم برأيه واجتهاده، وليس هو بمعصوم، ولا له تعلُّقٌ ومرجعيَّةٌ بإمام غائب ولا حاضر، ونحن وإنْ كنا نشترط في ابتداء الولاية وفي حال السعة للحاكم أن يكون مجتهداً إلا أن عدم وجود ذلك لا يطعن في ولايته على أن يتم تسديد هذا النقص بالاستعانة بأهل العلم والخبرة والاجتهاد. ومجتمعات المسلمين مجتمعات متدينة لا يصح أن تُحكم بغير الدين رضي من رضي وسخط من سخط، حتى يكون الدين كلُّه لله، ووجود بعض النماذج المنحرفة التي ادَّعت الحُكم باسم الدين لا يعني عدم صلاحية الدين الذي حكم المسلمين أربعة عشر قرناً للحكم والتحاكم، وربكم الرحمن يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}، ويقول: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
ثالثاً: ما هذه بأول ولا آخر مساوئ الديمقراطية، فتح باب الفتنة والشر على الناس، وعدم انتهاء النزاع إلا باللجوء إلى القوة، وفتح باب الأماني على الناس بين مرشحين لا يمثلون أحلام الناس، بل ربما يُمكن أن يُقال بأن الفروق بينهم ضئيلة بحيث يكون من يزعم بأنه إصلاحيٌ ما هو إلا أقل دكتاتورية من منافسه، وإن كانوا كُلُّهم في الهوا سوا، فما منهم مِن أحدٍ إلا وقد كان من أعمدة النظام، ومن المتنفذين فيه.
رابعاً: ردَّدت الحكومة الإيرانية نصيحتها للعالم الغربي بعدم التدخُّل في شؤونها الداخلية، وهو أمرٌ طيبٌ وصحيحٌ لو كانت إيران تلتزم به وتطبِّقه، أما وإن إيران أكثرُ دولةً في العالم بعد الولايات المتحدة تتدخل في شؤون الآخرين فإن عليها أن تعلم بأن الله يُعاقب الظالم، ولو كان ظلمه باسم الدين. إن العالم العربي والإسلامي لم يشهد توترات طائفية وحرائق مذهبية بمثل تلك التي شهدها في عهد الحكومة الإيرانية في نسختها الأخيرة، فمن تهييج للأقليات الشيعية في الخليج وتحفيزٍ لها على الانفصال، إلى تمويل وتسليح للحوثيين في اليمن، وإثارة للشارع البحريني بتحريك نشطاء الشيعة المرتبطين بإيران، إلى تحويل تنظيم حزب الله الطائفي في لبنان إلى ما يشبه الإمارة المستقلة التي تهدد كل بضعة أشهر باجتياح العاصمة وتدمير الدولة اللبنانية، إلى تدمير العراق والتآمر مع الجيش الأمريكي في تمكينه من احتلاله وتدمير مقدراته وتحويل هذا البلد العريق إلى بلد ينعدم فيه الأمن، ويُقتل فيه الناس على أسمائهم، وأشكالهم وهوياتهم، وهكذا في سوريا ومصر والمغرب واليمن والأردن والسودان، (وما ربك بغافلٍ عما يعملون).
من المراجع التي تم الرجوع إليها أثناء إعداد هذه الخطبة:
- تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه.
- مختصره: الإمام المهدي.. حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية؟
- حوارات أحمد الكاتب.
- المرجعية الدينية الشيعية وآفاق التطور- الإمام الشيرازي نموذجاً.
جميعها للمفكر الشيعي المعتدل: أحمد الكاتب.
- أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، للدكتور ناصر القفاري.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.

إرسال تعليق

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

 
Top