الحمد لله رب العالمين,
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا
ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما
علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل
باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه,
وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار
المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
كان شاباً موفور الشباب، بهي الرونق، رائع المجتلى، كان ذا نعمة، وحسبٍ، ونسبٍ، وكان فارساً، فيه كل خصائص الأنفة، والكبرياء، وكل مثال المروءة والوفاء .
هذا الرجل قبل الإسلام كان مولعاً بالتجارة، فقد أحبها حباً جما، وكان صاحب رحلتين إلى الشام، رحلة الشتاء، ورحلة الصيف، وكانت قافلته تضم مئة من الإبل، ومئتين من الرجال، من أضخم القوافل، وكل رحلة فيها مئة بعير عليها الأحمال، مع مئتي رجل يرعون هذه الأحمال ، هذا حجم تجارته, فأناس كثيرون بمكة كانوا يدفعون إليه بأموالهم ليتجر بها، وهذه شركة القراض أو المضاربة .
خديجة بنت خويلد زوج النبي عليه الصلاة والسلام هي خالته، وله في نفسها منزلة رفيعة جداً، تحبه وتعطف عليه، وترعاه، وكان موفور الشباب، كان ملء السمع والبصر .
لا بد من هذه المقدمة قبل أن نبدأ بالموضوع، والأعوام مرت سراعاً على بيت محمد بن عبد الله فشبت زينب كبرى بناته عليه الصلاة والسلام من السيدة خديجة، وتفتحت كما تتفتح الزهرة فواحة الشذا بهية الرواء، طمحت إليها نفوس أبناء السادة من أشراف مكة، فهي من أعرق بنات قريش حسباً ونسباً، ومن أكرمهن أماً وأباً، ومن أزكاهن خلقاً وأدباً، لكن أنَّى لهم يظفروا بها وقد حال دونهم ودونها ابن خالتها، أبو العاص بن الربيع فتى الفتيان .
النبي عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله عز وجل، وأنذر عشيرته الأقربين، فكان أول من آمن به من النساء خديجة، وأول من آمن به من بناته زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، لكن كنَّ صغيرات السن، وهنا دخلنا في القصة، ثم إن صهره أبا العاص كره أن يفارق دين آبائه وأجداده، هنا بدأت العقبة، صهره زوج ابنته لم يؤمن به، والإنسان كما يقال: عدو ما يجهل، ومن علائم ذكاء الإنسان أن يتحرر من كل شيءٍ ألفه ولو كان باطلاً، ويبحث عن الحق ولو لم يألفه.
ولما اشتد نزاع النبي عليه الصلاة والسلام مع قريش، فكَّروا في إشغال النبي عن دعوته بشيء، فأراد كفارُ مكة أن يغيظوا النبي، وأن ينالوا منه، وأن يحمِّلوه فوق طاقته، فقالوا: ويحكم إنكم قد حملتم عن محمد همومه بتزويج فتيانكم من بناته، فلو رددتموهن إليه لانشغل بهن عنكم، طلقوا بناته، حينما كنت أقول: إن النبي ذاق كل مرارةَ، واللهِ لقد غاب عن ذهني أن بناته قد طُلِّقن، فالأب إذا كان طلقت ابنته كان مصابُه عظيمًا، فهاجر من مكة إلى المدينة، وذاق اليتم، وذاق الفقر، وذاق موت الولد، وذاق تطليق بناته من أصهاره، قالوا: واللهِ نِعْمَ الرأي ما رأيتم، والكافر حيثما قدَرَ على الأذى يتهلل وجهه، حيثما قدَر على إيقاع الضرر بالآخرين تجده نشيطًا، أمّا إذا دعوته إلى عمل صالح تراه كسولا، ومَشَوْا إلى أبي العاص، وقالوا له: فارقْ صاحبتك يا أبا العاص، وردَّها إلى بيت أبيها، ونحن نزوجك أي امرأة تشاء من كرائم عقيلات قريش، هناك أشخاص حتى الآن إذا تزوج ابنه من مؤمنة، يقول له أبوه: فارقها ونحن نزوجك غيرها، لا لشيء إلا لأنها مؤمنة، وهذا الموقف الأخلاقي الذي وقفه، فقال: لا والله إني لا أفارق صاحبتي .
يا أيها الإخوة الأكارم, أي إنسان يضايق زوجته بخصومة بينه وبين أهلها، فهذا إنسان دون الخط الأحمر، أشخاص كثيرون، لهم زوجات صالحات، زوجات مخلصات، زوجات طائعات، لأن خلافًا نشأ بينه وبين أخيها، أو بينه وبين أبيها، يهددها بالطلاق, أهذه هي المروءة؟ ماذا فعلت معك؟ قال تعالى:
(ولا تزر وازرة وزر أخــــرى), لكن العوام والجهلاء حينما يقعون في خصومة مع أهل زوجاتهن، لا يجدون متنفساً لهم إلا بإيقاع الأذى بزوجاتهم، كيداً لأهلهن .
هذا الموقف الأخلاقي من أبي العاص هو الذي رده إلى هذا الدين، هو الذي جعله يسلم، وهو السبب الذي أكرمه الله بالإسلام بعد إذْ لم يكن مسلماً، أما ابنتاه رقية وأم كلثوم فقد طُلِّقتا، وحُمِلتا إلى بيته الشريف، لكن النبي عليه الصلاة والسلام سُرَّ بردِّهما إليه، وتمنى أن لو فعل أبو العاص كما فعل صاحباه، لأنه خلصهما من بيت فيه شرك وكفر، غير أنه ما كان يملك من القوة ما يرغمه على ذلك, لأنه لم ينزل التشريع بعد بحكم زواج المؤمنة من المشرك؟ .
ولما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة, واشتد أمره فيها, وخرجت قريش لقتاله في بدر، الآن برَز على السطح موقف حرج جداً، قريش كلها خرجت لقتال النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو العاص صهره لا بد من أن يخرج مع من خرج، وابنته لا زالت عنده، ولم يكن التشريع قد أنزل بعد، لكنَّ أبا العاص لم تكن له رغبة في قتال المسلمين، ولا أرب له في النيل منهم، إلاّ أنّ منزلته من قومه حملته على أن يسايرهم، وقد انجلت بدر عن هزيمة منكرة لقريش، أذلت أنوف الشرك، وقصمتْ ظهور طواغيته, ففريق قتل، وفريق أسر، وكان من زمرة الأسرى أبو العاص، زوج زينب بنت محمد صلوات الله عليه .
الموقف الصعب, حينما استعرض النبي الأسرى فإذا أبو العاص بينهم، لماذا جاء؟ جاء ليقاتل المؤمنين، جاء لينتصر عليهم، فنظر إلى صهره أبي العاص، وقال كلمة لا تُنسى، قال عليه الصلاة والسلام:
حينما تزوجت زينب أبا العاص قدَّمت لها أمها هدية ثمينة، وهي قلادة السيدة خديجة، حينما زفت إلى زوجها، وزينب الآن لا تملك إلا هذه القلادة ، فبعثت بها إلى أبيها ليأخذ القلادة، فلعله يقبل هذه القلادة فداءً لزوجها أبي العاص الأسير عند أبيها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة غشيت وجهَه الكريم غلالةٌ شفافة من الحزن العميق، ورقَّ لابنته أشد الرقّة، ثم التفت إلى أصحابه, وقال يريد المشورة، ولم يأخذ قرارًا من طرف واحد:
فلقد خرجت بزينب علانية على رؤوس الناس ومرأى مِن عيونهم، وقد عرفت العربُ جميعها أمرَ نكبتها في بدر، وما أصابها على يد أبيها محمد، فإذا خرجت بابنته علانية كما فعلت ، رمتنا القبائل بالجبن، ووصفتنا بالهوان والذل، فارجع بها، واستبقِها في بيت زوجها أياماً، حتى إذا تحدث الناس بأننا رددناها، فسُلَّها من بين أظهرنا سراً، وألحقها بأبيها، فما لنا بحبسها عنه حاجة، لكن ليس على مشهد مِن الناس، فرضي عمرو بذلك، وأعاد زينب إلى مكة، ثم ما لبث أن أخرجها منها ليلاً بعد أيام معدودات، وأسلمها إلى رسل أبيها يداً بيد، كما أوصاه أخوه، وفُرِّق بين زوج وزوجته بحكم الله عز وجل .
ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر، واستوى قائماً في المحراب، وكبّر للإحرام، وكبّر الناس بتكبيره، صرخت زينب، وقالت:
هي القصة تنسحب على آلاف الحالات، كنتَ مع صديقك في نزهة، والمصروف مشترك، يقول أحدكما للآخر: ليس لك ولا عليّ شيء، فالحساب كان مناصفة بيني وبينك، بَيِّنْ له المدفوعات والمقبوضات كلها، لكن من دون بيان، يجري في القلب شيءٌ، فوضِّح الحساب، وإنْ تأخرتَ فَبَيِّن السبب، البيان يطرد الشيطان، في التعامل، في العلاقات الاجتماعية، في الشراكة، في الزواج، بيِّنْ ما الذي دفعك إلى هذا الموقف، فإنْ لم تبيِّن أساء الناسُ الظنَّ بك، فوقعتْ العداوة والبغضاء- .
ثم انصرف إلى بيته، ولم يقل ابنتي أشرفُ بنتٍ على الأرض، بل قال: وإنه يجير من المسلمين أدناهم، -فلم يرفعها إلى أعلى درجة، لأنها ابنته فقط، وعبارتُه تفيد أنّه عدَّها من أدنى المسلمين، وأدنى المسلمين يجير أعلاهم، انتبهوا إلى نصيحة النبي- قال: يا بنيتي، أكرمي مثوى أبي العاص، واعلمي أنك لا تحلِّين له، ثم دعا رجال السرية التي أخذت العير، وأسرت الرجال وقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أخذتم ماله، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له كان ما نحب, -أيْ أنا يسرني أن تعيدوا له البضاعة والأحمال والرجال، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، وأنتم به أحق، هكذا يكون الموقف الصحيح، انظُرْ إلى أسلوبِ التعليم في أحسن صوره .
أحياناً قد تطلب من شخص أنْ يبيع حاجة بلا ثمن لصاحبك، هذا تطاول، ولكن قل له: إذا راعيته أكون لك من الشاكرين، فالنبي عليه الصلاة والسلام خبير بحقائق النفس البشرية، والصحابة طابت نفوسهم بهذا التواضع، وهذه الاستشارة- فقالوا جميعاً: بل نرد عليه ماله يا رسول الله))
كما تريد، وكما تحب، هنا الموقف الأخلاقي, قالوا:
1- لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له، هذا استنباط .
2- المشاورة تجعل قلوب الناس تهفو إليك، أمّا التفرد بالرأي فينفِّر الناس عنك .
3- البيان يبيِّن الملابسات، مرة حدثني أخ يسافر للمحافظات في عمله التجاري، فنسي وثيقة في المحل، تذكرها الساعة الثانية عشرة ليلاً ، فركب مركبته، وانطلق إلى محله التجاري، وكان ضمن سوق مغلق، وله حارس، رأى هذا الحارس رجلاً يأتي في منتصف الليل ليفتح محله التجاري، الذي يشاركه فيه تاجر، قال له: أيها الأخ, أنا نسيت ورقة أساسية، وجئتُ لآخذها، حتى لا يظن شيئًا، بيِّن للحارس، فإذا بينت ينتهي الأمر دون ظنون أو شكوك، فلو لم يبيِّن للحارس فقد يتّهمه شريكه، ويقع في مشاكل، فالبيان يطرد الشيطان .
4- أيضاً السيدة زينب أجارت أبا العاص، لكن النبي بيّن الحكمَ الشرعي، لم يرفض العمل الصالح، لكن نبهَّها إلى أن هذا الرجل لا يحل لك، أكرميه، لكنه لا يحل لك .
أنا أعرف أناسًا كثيرين قاربوا أن يطلقوا زوجاتهم لخصومة وقعت بينه وبين أهل زوجته، هذا عمل غير أخلاقي، القاعدة الأساسية: ولا تزر وازرة وزر أخرى، نشأت خصومة مع والدها، مع أمها، مع أخيها، من أجل هذه الخصومة تطلقها أو تسيء إليها .
5- وهذه فقرة فيها إيضاح لغوي لا بد منه, كلمة (قُمّة) صوابها (قِمّة)، القُمة هي القُمامة، والفرق كبير جداً بين القُمة وبين القِمة، فإياك أن تغلط هذه الغلطة، الأخ الكريم, يقول: إن قِمة العفو مع قِمة القوة .
6- أمّا موقفه الأخلاقي لأبا العاص، حينما ردّ الأموال عُرف أنّ المسلم إنسان صادق، وكذلك أنه رَفَض أنْ يطلق زوجته، فأحبَّه النبي، وكان موقف النبي متعاطفًا معه, فما السبب؟ لأنه وقف موقفًا أخلاقيًّا يُسجَّل له، لا عليه .
أنت قد تتعامل مع ناس ليس فيهم دين فكُنْ ذكيًّا، إذا وقفت موقفًا أخلاقيًّا منهم، هو لا يصلي، هو لا يصوم، وربما يشرب الخمر، لكنّه يبقى إنسانًا، فإذا أخذت موقفًا أخلاقيًّا فقد تكسبه.
إليكم هذه القصص عن رجال ونساء اعتنقوا الإسلام من خلال حسن سلوك أبنائه :
حدثني أخ كان في بلد عربي، وفيه حركة هداية للإسلام، منها توبة بعض الفنانات، وقد وجدتُ في معرَض مكتبة الأسد كتيبًا عن الفنانات المحجَّبات، امرأة كانت راقصة، ثم تتوب، وتتحجب حتى الوجه، فقرأت الكتاب، لفت نظري أن واحدة سئلت, ما الذي دفعك إلى أن تتوبي؟ فقالت: أنا حينما زرت صديقاتي اللواتي سبقنني إلى التوبة، وجدت مجتمعهن مجتمعاً مثاليًّا، فيه الصدق، وفيه الحب، وفيه التناصح، وفيه السعادة، وبينما أعيش في مجتمعٍ يسوده الكذب، والطعن ، والريبة، والشقاء، وفي بالقصة مغزى عميق فمَن يكشفه لنا؟ لماذا أسلمت؟ لأنها وجدت مجتمع زميلاتِها التائباتِ أرقى بكثير من مجتمعها هي، ومغزى آخر لم أُشِرْ إليه، فلو أن هؤلاء المسلمات التائبات رفضنها وطردنها لما عرفت الحقيقة، ولمَا تمادتْ في الضلال .
فأنت كمسلم، لا تعادِ شخصًا بلا دين، ادعُ الله أن يعافيه، وخاصّة إذا لم يكن معاديًا لك ، فكنْ أخلاقيًّا أمامه، ليرى مَن هو المسلم؟ الإنسان الصادق، الأمين، الأخلاقي، المتواضع، الذكي، المتفوق بعمله، فلعل هذا يبصِّره بحقيقة الإسلام .
يقولون: إن روجي جارودي، هذا زعيم الحزب الشيوعي بفرنسا، أسلم ، فهل تصدقون أن سبب إسلامه يعود إلى أربعين سنة سابقة؟ هذا وقع أسيراً في الحرب العالمية الثانية، وجاء أمرٌ بقتله، الأمر جاء لجندي مغربي مسلم، هذا الجندي المغربي المسلم, قال له: أنا مسلم، وديني يمنعني أن أقتل الأسير، فاهرب، ما الذي أنجاه من الموت؟ الذي أنجاه من الموت المحقَّق أنّ هذا الجندي المغربي أبلغه أن الإسلام يمنعنه مِن قتل الأسير، وهذا الموقف الأخلاقي تفاعل مع هذا الإنسان أربعين عاماً، حتى حمله على أن يصبح مسلماً، وجاء إلى الشام، وله كتب كثيرة, وأنت يمكن أن تنقذَ أيَّ إنسان حولك ليس فيه دين إطلاقاً، فكنْ معه صادقًا، وفيًّا، مخلصًا، كن معه متقنًا لعلمك، فبذلك كلِّه يمكنك أنْ تُلفِت نظره .
في أثناء أداء فريضة الحج العام الماضي ذكروا لي أن حاجًّا ألمانيًّا سألوه عن سبب إسلامه, فقال: طالب سوري كان عنده في البيت، ولهذا الرجل الألماني فتاة جميلة، وليس عنده مانع أنْ تكون صديقة لهذا الطالب السوري، والأمور عندهم سهلة جداً، من غير تكلُّف، فلذلك لفت نظره أن هذا الطالب ما نظر إلى ابنته أبداً، تمنَّى أن ينظر إليها فيعنِّفه، وأخيرًا سأله: ألست من بني البشر؟ فقال: ديني يمنعني أن أنظر إليها .
المغزى الأساسي أن النبي الكريم يعرفه أنه مشرك، ويعرف أنّه جاء ليقاتله، رغم ذلك أعلمه أنني لا أنسى موقفك الأخلاقي السابق، قال:
لمحة عن حياة أبي العاص بن الربيع من حيث نسبه وزواجه وتجارته :
أيها الأخوة الأكارم, قصة من قصص أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم
أجمعين، ولكن هذه القصة لها طعم خاص، ذلك أنها تتصل اتصالاً مباشرًا بأهل
بيت النبي عليه الصلاة والسلام، إنه أحد أصهاره، ويمكن أن نستنبط من هذه
القصة موقف النبي عليه الصلاة والسلام من قرابته، وكيف كان مثلاً أعلى
للمؤمنين في علاقاته مع من يلوذ به؟ صهره أبو العاص بن الربيع .كان شاباً موفور الشباب، بهي الرونق، رائع المجتلى، كان ذا نعمة، وحسبٍ، ونسبٍ، وكان فارساً، فيه كل خصائص الأنفة، والكبرياء، وكل مثال المروءة والوفاء .
هذا الرجل قبل الإسلام كان مولعاً بالتجارة، فقد أحبها حباً جما، وكان صاحب رحلتين إلى الشام، رحلة الشتاء، ورحلة الصيف، وكانت قافلته تضم مئة من الإبل، ومئتين من الرجال، من أضخم القوافل، وكل رحلة فيها مئة بعير عليها الأحمال، مع مئتي رجل يرعون هذه الأحمال ، هذا حجم تجارته, فأناس كثيرون بمكة كانوا يدفعون إليه بأموالهم ليتجر بها، وهذه شركة القراض أو المضاربة .
خديجة بنت خويلد زوج النبي عليه الصلاة والسلام هي خالته، وله في نفسها منزلة رفيعة جداً، تحبه وتعطف عليه، وترعاه، وكان موفور الشباب، كان ملء السمع والبصر .
لا بد من هذه المقدمة قبل أن نبدأ بالموضوع، والأعوام مرت سراعاً على بيت محمد بن عبد الله فشبت زينب كبرى بناته عليه الصلاة والسلام من السيدة خديجة، وتفتحت كما تتفتح الزهرة فواحة الشذا بهية الرواء، طمحت إليها نفوس أبناء السادة من أشراف مكة، فهي من أعرق بنات قريش حسباً ونسباً، ومن أكرمهن أماً وأباً، ومن أزكاهن خلقاً وأدباً، لكن أنَّى لهم يظفروا بها وقد حال دونهم ودونها ابن خالتها، أبو العاص بن الربيع فتى الفتيان .
هل استجاب أبو العاص لدعوة النبي وما هو موقفه حينما طلبت قريش منه تطليق زوجه لتنال من النبي؟
أيها الأخوة, لم يمض على اقتران زينب بنت محمد بأبي العاص إلا سنوات
محدودات حتى أشرقت بطاح مكة بنور البعثة المحمدية، ونزل الوحي، وبعث النبي
عليه الصلاة والسلام نبياً ورسولاً إلى العرب، وإلى الأمم جميعاً، وأمر
الله نبيه أن ينذر عشيرته الأقربين, قال تعالى:
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾
النبي عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله عز وجل، وأنذر عشيرته الأقربين، فكان أول من آمن به من النساء خديجة، وأول من آمن به من بناته زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، لكن كنَّ صغيرات السن، وهنا دخلنا في القصة، ثم إن صهره أبا العاص كره أن يفارق دين آبائه وأجداده، هنا بدأت العقبة، صهره زوج ابنته لم يؤمن به، والإنسان كما يقال: عدو ما يجهل، ومن علائم ذكاء الإنسان أن يتحرر من كل شيءٍ ألفه ولو كان باطلاً، ويبحث عن الحق ولو لم يألفه.
ولما اشتد نزاع النبي عليه الصلاة والسلام مع قريش، فكَّروا في إشغال النبي عن دعوته بشيء، فأراد كفارُ مكة أن يغيظوا النبي، وأن ينالوا منه، وأن يحمِّلوه فوق طاقته، فقالوا: ويحكم إنكم قد حملتم عن محمد همومه بتزويج فتيانكم من بناته، فلو رددتموهن إليه لانشغل بهن عنكم، طلقوا بناته، حينما كنت أقول: إن النبي ذاق كل مرارةَ، واللهِ لقد غاب عن ذهني أن بناته قد طُلِّقن، فالأب إذا كان طلقت ابنته كان مصابُه عظيمًا، فهاجر من مكة إلى المدينة، وذاق اليتم، وذاق الفقر، وذاق موت الولد، وذاق تطليق بناته من أصهاره، قالوا: واللهِ نِعْمَ الرأي ما رأيتم، والكافر حيثما قدَرَ على الأذى يتهلل وجهه، حيثما قدَر على إيقاع الضرر بالآخرين تجده نشيطًا، أمّا إذا دعوته إلى عمل صالح تراه كسولا، ومَشَوْا إلى أبي العاص، وقالوا له: فارقْ صاحبتك يا أبا العاص، وردَّها إلى بيت أبيها، ونحن نزوجك أي امرأة تشاء من كرائم عقيلات قريش، هناك أشخاص حتى الآن إذا تزوج ابنه من مؤمنة، يقول له أبوه: فارقها ونحن نزوجك غيرها، لا لشيء إلا لأنها مؤمنة، وهذا الموقف الأخلاقي الذي وقفه، فقال: لا والله إني لا أفارق صاحبتي .
يا أيها الإخوة الأكارم, أي إنسان يضايق زوجته بخصومة بينه وبين أهلها، فهذا إنسان دون الخط الأحمر، أشخاص كثيرون، لهم زوجات صالحات، زوجات مخلصات، زوجات طائعات، لأن خلافًا نشأ بينه وبين أخيها، أو بينه وبين أبيها، يهددها بالطلاق, أهذه هي المروءة؟ ماذا فعلت معك؟ قال تعالى:
﴿وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى
حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا
تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾
(ولا تزر وازرة وزر أخــــرى), لكن العوام والجهلاء حينما يقعون في خصومة مع أهل زوجاتهن، لا يجدون متنفساً لهم إلا بإيقاع الأذى بزوجاتهم، كيداً لأهلهن .
هذا الموقف الأخلاقي من أبي العاص هو الذي رده إلى هذا الدين، هو الذي جعله يسلم، وهو السبب الذي أكرمه الله بالإسلام بعد إذْ لم يكن مسلماً، أما ابنتاه رقية وأم كلثوم فقد طُلِّقتا، وحُمِلتا إلى بيته الشريف، لكن النبي عليه الصلاة والسلام سُرَّ بردِّهما إليه، وتمنى أن لو فعل أبو العاص كما فعل صاحباه، لأنه خلصهما من بيت فيه شرك وكفر، غير أنه ما كان يملك من القوة ما يرغمه على ذلك, لأنه لم ينزل التشريع بعد بحكم زواج المؤمنة من المشرك؟ .
هل كان أبو العاص من جملة الأسرى الذين ظفر بهم المسلمون وماذا فعلت زوجه حتى تفك أسره ؟
ولما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة, واشتد أمره فيها, وخرجت قريش لقتاله في بدر، الآن برَز على السطح موقف حرج جداً، قريش كلها خرجت لقتال النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو العاص صهره لا بد من أن يخرج مع من خرج، وابنته لا زالت عنده، ولم يكن التشريع قد أنزل بعد، لكنَّ أبا العاص لم تكن له رغبة في قتال المسلمين، ولا أرب له في النيل منهم، إلاّ أنّ منزلته من قومه حملته على أن يسايرهم، وقد انجلت بدر عن هزيمة منكرة لقريش، أذلت أنوف الشرك، وقصمتْ ظهور طواغيته, ففريق قتل، وفريق أسر، وكان من زمرة الأسرى أبو العاص، زوج زينب بنت محمد صلوات الله عليه .
الموقف الصعب, حينما استعرض النبي الأسرى فإذا أبو العاص بينهم، لماذا جاء؟ جاء ليقاتل المؤمنين، جاء لينتصر عليهم، فنظر إلى صهره أبي العاص، وقال كلمة لا تُنسى، قال عليه الصلاة والسلام:
((والله ما ذممناه صهراً))
فهل رأيت حُكماً موضوعياً أشدَّ من هذا الحكم؟ أنصفه، والإنسان إن لم ينصف
فليس مؤمناً، من صفات المؤمن إنصاف الناس من نفسه، وأن يقف عند العدل، وها
قد وقع أسيرًا، وأضحى أهلُ الأسرى يرسلون فدية ليفتدوا بها أسراهم من
النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه زينب وزوجها أسير عند أبيها، وينبغي أن
تفتديه من أبيها، هذه قضية خاصة جداً، فبعثت زينب رسولها إلى المدينة، يحمل
فدية زوجها أبي العاص، لكن ما هي هذه الفدية؟ .حينما تزوجت زينب أبا العاص قدَّمت لها أمها هدية ثمينة، وهي قلادة السيدة خديجة، حينما زفت إلى زوجها، وزينب الآن لا تملك إلا هذه القلادة ، فبعثت بها إلى أبيها ليأخذ القلادة، فلعله يقبل هذه القلادة فداءً لزوجها أبي العاص الأسير عند أبيها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة غشيت وجهَه الكريم غلالةٌ شفافة من الحزن العميق، ورقَّ لابنته أشد الرقّة، ثم التفت إلى أصحابه, وقال يريد المشورة، ولم يأخذ قرارًا من طرف واحد:
((إن
زينب بعثت بهذا المال لافتداء أبي العاص، فإن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها،
وتردّوا عليها مالها فافعلوا، -يستشيرهم في شأن ابنته، وفي شأن صهره، وشأن
هذه القلادة، فهل هي مقبولة عندكم؟ هل تكفي؟ هل بعد هذا التواضع من
تواضع؟ وأصحابُ النبي يفدونه بأرواحهم- قالوا: نعم، ونعمت عين يا رسول
الله))
أيْ حباً وكرامة, لكن النبي عليه الصلاة والسلام اشترط على أبي
العاص قبل إطلاق سراحه أن يسيِّر إليه ابنته زينب من غير إبطاء، بناءً على
حكم شرعيٍّ، خلاصته ألاّ تبقى امرأةٌ مؤمنةٌ عند زوج كافر، فقد يحملها هذا
الزوج على معصية الله، وقد يأمرها بما يغضب الله ، فالحكم الشرعي ألا تبقى
امرأةٌ مؤمنةٌ تحت زوج مشرك أو كافر .
هل وفى أبو العاص بالشرط الذي اشترطه عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟
كان أبو العاص صادقاً، وفياً، فما كاد أبو العاص يبلغ مكة بعد فكِّ
أسْره حتى بادر إلى الوفاء بعهده ، فأمر زوجته بالاستعداد للرحيل، وأخبرها
بأن رسل أبيها ينتظرونها غير بعيد عن مكة، وأعد لها زادها وراحلتها، وندب
أخاه عمرو بن الربيع لمصاحبتها وتسليمها لمرافقيها يداً بيد ، تنكب عمرو بن
الربيع قوسه وحمل كنانته, الكنانة جعبة السهام، وجعل زينب في هودجها، وخرج
بها من مكة جهاراً نهاراً على مرأى من قريش، فهاج القوم وماجوا، ولحقوا
بهما حتى أدركوهما غير بعيد، وروَّعوا زينب، وأفزعوها، عند ذلك هيَّأ عمرو
قوسه، ونبل نبله، ونشر كنانته بين يده، وقال: واللهِ لا يدنو رجلٌ منها إلا
وضعت سهماً في نحره، وكان رامياً لا يخطئ له سهمٌ، فأقبل عليه أبو سفيان
بن حرب، وكان قد لحق بالقوم، وقال له: يا ابن أخي, كفَّ عنا نبلك حتى
نكلمك، فكفّ عنهم، فقال له: إنك لم تصب فيما صنعت, أي لم تكن على صواب، كنت
مخطئاً، لماذا؟ لأنك حملت زينب في هودجها جهاراً نهاراً على مرأى من قريش,
وهذا بعد موقعة بدر حيث سالتْ دماء صناديدهم، وبرَزتْ حساسيات بالغة .فلقد خرجت بزينب علانية على رؤوس الناس ومرأى مِن عيونهم، وقد عرفت العربُ جميعها أمرَ نكبتها في بدر، وما أصابها على يد أبيها محمد، فإذا خرجت بابنته علانية كما فعلت ، رمتنا القبائل بالجبن، ووصفتنا بالهوان والذل، فارجع بها، واستبقِها في بيت زوجها أياماً، حتى إذا تحدث الناس بأننا رددناها، فسُلَّها من بين أظهرنا سراً، وألحقها بأبيها، فما لنا بحبسها عنه حاجة، لكن ليس على مشهد مِن الناس، فرضي عمرو بذلك، وأعاد زينب إلى مكة، ثم ما لبث أن أخرجها منها ليلاً بعد أيام معدودات، وأسلمها إلى رسل أبيها يداً بيد، كما أوصاه أخوه، وفُرِّق بين زوج وزوجته بحكم الله عز وجل .
إليكم قصة إسلام أبا العاص :
أقام أبو العاص بمكة بعد فراق زوجته زمناً حتى إذا كان قبيل الفتح بقليل
خرج إلى الشام في تجارة له، فلما قفل راجعاً إلى مكة ومعه عيره التي بلغت
مئة، ورجاله الذين نيفوا على مئة وسبعين بزرت له سرية من سرايا الرسول عليه
الصلاة والسلام قريباً من المدينة، فأخذت العير، وأسرت الرجال، لكن أبا
العاص أفلَتَ منها فلم تظفر به، وأُلقِي القبض على مئة وسبعين رجلاً من
أتباع أبي العاص أسرى في يد السرية، وصودرت القوافل، وأصبحت غنائم في أيدي
المسلمين، لكن أبا العاص نجا من الأسر، فلما أرخى الليل سدوله، استتر أبو
العاص بجنح الظلام ، ودخل المدينة خائفاً يترقب، ومضى حتى وصل إلى زينب،
زوجته، واستجار بها، فأجارته . ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر، واستوى قائماً في المحراب، وكبّر للإحرام، وكبّر الناس بتكبيره، صرخت زينب، وقالت:
((أيها
الناس, أنا زينب بنت محمد، وقد أجرتُ أبا العاص، فأجيروه، فلما سلم النبي
عليه الصلاة والسلام من الصلاة التفت إلى الناس وقال: هل سمعتم ما سمعت؟
قالوا: نعم يا رسول الله, قال: والذي نفسي بيده ما علمتُ بشيء من ذلك حتى
سمعت ما سمعتموه, -البيان يطرد الشيطان، هكذا علّمنا النبي، قد يظنون أن
ثمة اتفاق بين سيدنا رسول الله وزينب، أنه لما أصلي فقولي: قد أجرته،
فبيَّن النبي وأزال الشبهة، فقد بيَّن الحقيقة من غير لبس .
فإذا كان الإنسان في موقف حرِج يستدعي سؤالاً وجوابًا، فعليه أنْ يبيِّن، ويوضِّح، هذه قاعدة أساسية، البيان يطرد الشيطان .
ذات مرة زار رجلٌ صاحبًا له في العيد، وضع له طبقًا من الحلويات مليئًا فأكل قطعة واحدة، وجاء شخص آخر، وكان صاحب البيت مشغولاً، فهذا الثاني بدأ يأكل ويأكل ويأكل حتى لم يبقِ من الطبق إلا القليل، فوقع الأول في الحرج، وقد أكل قطعة واحدة، فلما دخل صاحب البيت, قال الأول: واللهِ إني أشهدُ الله أنه يحبك أضعاف ما أحبك، لأنه أكل من هذا الطبق أضعاف ما أكلت، فبيَّن، فالمرءُ يضطر أحيانًا للبيان والتوضيح، وبخاصّة في المواقف التي فيها تهمة، فإن وضعتَ نفسك موضع التهمة ولامك الناس فهم مُحِقُّون، فلا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك، فكم كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصًا على سمعته؟ فعَنْ صَفِيَّةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فإذا كان الإنسان في موقف حرِج يستدعي سؤالاً وجوابًا، فعليه أنْ يبيِّن، ويوضِّح، هذه قاعدة أساسية، البيان يطرد الشيطان .
ذات مرة زار رجلٌ صاحبًا له في العيد، وضع له طبقًا من الحلويات مليئًا فأكل قطعة واحدة، وجاء شخص آخر، وكان صاحب البيت مشغولاً، فهذا الثاني بدأ يأكل ويأكل ويأكل حتى لم يبقِ من الطبق إلا القليل، فوقع الأول في الحرج، وقد أكل قطعة واحدة، فلما دخل صاحب البيت, قال الأول: واللهِ إني أشهدُ الله أنه يحبك أضعاف ما أحبك، لأنه أكل من هذا الطبق أضعاف ما أكلت، فبيَّن، فالمرءُ يضطر أحيانًا للبيان والتوضيح، وبخاصّة في المواقف التي فيها تهمة، فإن وضعتَ نفسك موضع التهمة ولامك الناس فهم مُحِقُّون، فلا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك، فكم كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصًا على سمعته؟ فعَنْ صَفِيَّةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أَنَّهَـا جَـاءَتْ
إِلَى رَسُولِ اللـَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي
اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً, ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا, حَتَّى
إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ
رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلـَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ
حُيَيٍّ, فَقَالَا: سُبْحــَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَكَبُرَ
عَلَيْهِمَا, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ, وَإِنِّي
خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا))
هي القصة تنسحب على آلاف الحالات، كنتَ مع صديقك في نزهة، والمصروف مشترك، يقول أحدكما للآخر: ليس لك ولا عليّ شيء، فالحساب كان مناصفة بيني وبينك، بَيِّنْ له المدفوعات والمقبوضات كلها، لكن من دون بيان، يجري في القلب شيءٌ، فوضِّح الحساب، وإنْ تأخرتَ فَبَيِّن السبب، البيان يطرد الشيطان، في التعامل، في العلاقات الاجتماعية، في الشراكة، في الزواج، بيِّنْ ما الذي دفعك إلى هذا الموقف، فإنْ لم تبيِّن أساء الناسُ الظنَّ بك، فوقعتْ العداوة والبغضاء- .
ثم انصرف إلى بيته، ولم يقل ابنتي أشرفُ بنتٍ على الأرض، بل قال: وإنه يجير من المسلمين أدناهم، -فلم يرفعها إلى أعلى درجة، لأنها ابنته فقط، وعبارتُه تفيد أنّه عدَّها من أدنى المسلمين، وأدنى المسلمين يجير أعلاهم، انتبهوا إلى نصيحة النبي- قال: يا بنيتي، أكرمي مثوى أبي العاص، واعلمي أنك لا تحلِّين له، ثم دعا رجال السرية التي أخذت العير، وأسرت الرجال وقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أخذتم ماله، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له كان ما نحب, -أيْ أنا يسرني أن تعيدوا له البضاعة والأحمال والرجال، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، وأنتم به أحق، هكذا يكون الموقف الصحيح، انظُرْ إلى أسلوبِ التعليم في أحسن صوره .
أحياناً قد تطلب من شخص أنْ يبيع حاجة بلا ثمن لصاحبك، هذا تطاول، ولكن قل له: إذا راعيته أكون لك من الشاكرين، فالنبي عليه الصلاة والسلام خبير بحقائق النفس البشرية، والصحابة طابت نفوسهم بهذا التواضع، وهذه الاستشارة- فقالوا جميعاً: بل نرد عليه ماله يا رسول الله))
كما تريد، وكما تحب، هنا الموقف الأخلاقي, قالوا:
((يا
أبا العاص, إنك في شرف من قريش، وأنت ابن عم رسول الله وصهره، فهل لك أن
تُسْلِم، ونحن ننزل لك عن هذا المال كله، فتنعم به، وبما معك من أموال أهل
مكة، وتبقى معنا في المدينة؟ -وهذا حكمٌ شرعي، إليكم بيانُه.
فالحكم الشرعي أنّ هذا الرجلَ إذا أسلم ومعه أموال الكفار، انقلبت هذه الأموالُ فجأة إلى غنائم، ونحن نسامحك في نصيبنا، خذها كلها، وانْعَمْ بها، وعش في بحبوحة-، فقال: بئسما دعوتموني إليه، أنْ أبدأ إسلامي الجديد بغدرٍ، -معاذ الله أنْ أبدا الإسلام بهذا الغدر- ومضى أبو العاص بالعير وما عليها إلى مكة .
-يا أخي هذا شيء عجيب! هؤلاء مشركون، ولديهم هذه الأخلاق والقيم، وفي أيامنا والمجتمع مسلم يبيع أباه بمئة ليرة، واللهِ حدثني ضابط بالجمارك، قال: واللهِ جاءتني تقارير مِن آباء على أولادهم، ومِن أبناء على آبائهم، شيء عجيب- .
مضى أبو العاص بالعير وما عليها إلى مكة، فلما بلغها أدَّى لكل ذي حقٍ حقَّه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، وجزاك الله عنا خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: أما وإني قد وفّيتُ لكم حقوقكم، فأنا الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله .
-هذا إسلام في الوقت المناسب، بعدما أدى ما عليه، فالإنسان لا يستغل الدين لمصالحه الشخصية، فلو أسلم لانطبق عليه الحكم الشرعي، أسلم ومعه أموال الكفار، إذاً: هي غنائم يأخذها ، لكن يا ترى لو فعل هذا لعَدُّوا هذا غدراً، ومؤامرة، وشوَّه بذلك سمعة المسلمين بين القبائل-, ثم قال: واللهِ ما منعي من الإسلام عند محمد صلى الله عليه وسلم إلا خوفي أن تظنوا أني إنما أردتُ أن آكل أموالكم, ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرم وفادته ورد إليه زوجته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم, يقول عنه: أبو العاص حدثني فصدقني، ووعدني فوفَّاني))
فالحكم الشرعي أنّ هذا الرجلَ إذا أسلم ومعه أموال الكفار، انقلبت هذه الأموالُ فجأة إلى غنائم، ونحن نسامحك في نصيبنا، خذها كلها، وانْعَمْ بها، وعش في بحبوحة-، فقال: بئسما دعوتموني إليه، أنْ أبدأ إسلامي الجديد بغدرٍ، -معاذ الله أنْ أبدا الإسلام بهذا الغدر- ومضى أبو العاص بالعير وما عليها إلى مكة .
-يا أخي هذا شيء عجيب! هؤلاء مشركون، ولديهم هذه الأخلاق والقيم، وفي أيامنا والمجتمع مسلم يبيع أباه بمئة ليرة، واللهِ حدثني ضابط بالجمارك، قال: واللهِ جاءتني تقارير مِن آباء على أولادهم، ومِن أبناء على آبائهم، شيء عجيب- .
مضى أبو العاص بالعير وما عليها إلى مكة، فلما بلغها أدَّى لكل ذي حقٍ حقَّه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، وجزاك الله عنا خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: أما وإني قد وفّيتُ لكم حقوقكم، فأنا الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله .
-هذا إسلام في الوقت المناسب، بعدما أدى ما عليه، فالإنسان لا يستغل الدين لمصالحه الشخصية، فلو أسلم لانطبق عليه الحكم الشرعي، أسلم ومعه أموال الكفار، إذاً: هي غنائم يأخذها ، لكن يا ترى لو فعل هذا لعَدُّوا هذا غدراً، ومؤامرة، وشوَّه بذلك سمعة المسلمين بين القبائل-, ثم قال: واللهِ ما منعي من الإسلام عند محمد صلى الله عليه وسلم إلا خوفي أن تظنوا أني إنما أردتُ أن آكل أموالكم, ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرم وفادته ورد إليه زوجته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم, يقول عنه: أبو العاص حدثني فصدقني، ووعدني فوفَّاني))
الاستنباطات التي يمكن أن نستفيدها من قصة أبي العاص :
قبل أن ينتهي الدرس هناك سؤال، ما هي الاستنباطات التي يمكن أن تفيدنا في حياتنا اليوم من هذه القصة: 1- لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له، هذا استنباط .
2- المشاورة تجعل قلوب الناس تهفو إليك، أمّا التفرد بالرأي فينفِّر الناس عنك .
3- البيان يبيِّن الملابسات، مرة حدثني أخ يسافر للمحافظات في عمله التجاري، فنسي وثيقة في المحل، تذكرها الساعة الثانية عشرة ليلاً ، فركب مركبته، وانطلق إلى محله التجاري، وكان ضمن سوق مغلق، وله حارس، رأى هذا الحارس رجلاً يأتي في منتصف الليل ليفتح محله التجاري، الذي يشاركه فيه تاجر، قال له: أيها الأخ, أنا نسيت ورقة أساسية، وجئتُ لآخذها، حتى لا يظن شيئًا، بيِّن للحارس، فإذا بينت ينتهي الأمر دون ظنون أو شكوك، فلو لم يبيِّن للحارس فقد يتّهمه شريكه، ويقع في مشاكل، فالبيان يطرد الشيطان .
4- أيضاً السيدة زينب أجارت أبا العاص، لكن النبي بيّن الحكمَ الشرعي، لم يرفض العمل الصالح، لكن نبهَّها إلى أن هذا الرجل لا يحل لك، أكرميه، لكنه لا يحل لك .
أنا أعرف أناسًا كثيرين قاربوا أن يطلقوا زوجاتهم لخصومة وقعت بينه وبين أهل زوجته، هذا عمل غير أخلاقي، القاعدة الأساسية: ولا تزر وازرة وزر أخرى، نشأت خصومة مع والدها، مع أمها، مع أخيها، من أجل هذه الخصومة تطلقها أو تسيء إليها .
5- وهذه فقرة فيها إيضاح لغوي لا بد منه, كلمة (قُمّة) صوابها (قِمّة)، القُمة هي القُمامة، والفرق كبير جداً بين القُمة وبين القِمة، فإياك أن تغلط هذه الغلطة، الأخ الكريم, يقول: إن قِمة العفو مع قِمة القوة .
6- أمّا موقفه الأخلاقي لأبا العاص، حينما ردّ الأموال عُرف أنّ المسلم إنسان صادق، وكذلك أنه رَفَض أنْ يطلق زوجته، فأحبَّه النبي، وكان موقف النبي متعاطفًا معه, فما السبب؟ لأنه وقف موقفًا أخلاقيًّا يُسجَّل له، لا عليه .
أنت قد تتعامل مع ناس ليس فيهم دين فكُنْ ذكيًّا، إذا وقفت موقفًا أخلاقيًّا منهم، هو لا يصلي، هو لا يصوم، وربما يشرب الخمر، لكنّه يبقى إنسانًا، فإذا أخذت موقفًا أخلاقيًّا فقد تكسبه.
إليكم هذه القصص عن رجال ونساء اعتنقوا الإسلام من خلال حسن سلوك أبنائه :
حدثني أخ كان في بلد عربي، وفيه حركة هداية للإسلام، منها توبة بعض الفنانات، وقد وجدتُ في معرَض مكتبة الأسد كتيبًا عن الفنانات المحجَّبات، امرأة كانت راقصة، ثم تتوب، وتتحجب حتى الوجه، فقرأت الكتاب، لفت نظري أن واحدة سئلت, ما الذي دفعك إلى أن تتوبي؟ فقالت: أنا حينما زرت صديقاتي اللواتي سبقنني إلى التوبة، وجدت مجتمعهن مجتمعاً مثاليًّا، فيه الصدق، وفيه الحب، وفيه التناصح، وفيه السعادة، وبينما أعيش في مجتمعٍ يسوده الكذب، والطعن ، والريبة، والشقاء، وفي بالقصة مغزى عميق فمَن يكشفه لنا؟ لماذا أسلمت؟ لأنها وجدت مجتمع زميلاتِها التائباتِ أرقى بكثير من مجتمعها هي، ومغزى آخر لم أُشِرْ إليه، فلو أن هؤلاء المسلمات التائبات رفضنها وطردنها لما عرفت الحقيقة، ولمَا تمادتْ في الضلال .
فأنت كمسلم، لا تعادِ شخصًا بلا دين، ادعُ الله أن يعافيه، وخاصّة إذا لم يكن معاديًا لك ، فكنْ أخلاقيًّا أمامه، ليرى مَن هو المسلم؟ الإنسان الصادق، الأمين، الأخلاقي، المتواضع، الذكي، المتفوق بعمله، فلعل هذا يبصِّره بحقيقة الإسلام .
يقولون: إن روجي جارودي، هذا زعيم الحزب الشيوعي بفرنسا، أسلم ، فهل تصدقون أن سبب إسلامه يعود إلى أربعين سنة سابقة؟ هذا وقع أسيراً في الحرب العالمية الثانية، وجاء أمرٌ بقتله، الأمر جاء لجندي مغربي مسلم، هذا الجندي المغربي المسلم, قال له: أنا مسلم، وديني يمنعني أن أقتل الأسير، فاهرب، ما الذي أنجاه من الموت؟ الذي أنجاه من الموت المحقَّق أنّ هذا الجندي المغربي أبلغه أن الإسلام يمنعنه مِن قتل الأسير، وهذا الموقف الأخلاقي تفاعل مع هذا الإنسان أربعين عاماً، حتى حمله على أن يصبح مسلماً، وجاء إلى الشام، وله كتب كثيرة, وأنت يمكن أن تنقذَ أيَّ إنسان حولك ليس فيه دين إطلاقاً، فكنْ معه صادقًا، وفيًّا، مخلصًا، كن معه متقنًا لعلمك، فبذلك كلِّه يمكنك أنْ تُلفِت نظره .
في أثناء أداء فريضة الحج العام الماضي ذكروا لي أن حاجًّا ألمانيًّا سألوه عن سبب إسلامه, فقال: طالب سوري كان عنده في البيت، ولهذا الرجل الألماني فتاة جميلة، وليس عنده مانع أنْ تكون صديقة لهذا الطالب السوري، والأمور عندهم سهلة جداً، من غير تكلُّف، فلذلك لفت نظره أن هذا الطالب ما نظر إلى ابنته أبداً، تمنَّى أن ينظر إليها فيعنِّفه، وأخيرًا سأله: ألست من بني البشر؟ فقال: ديني يمنعني أن أنظر إليها .
المغزى الأساسي أن النبي الكريم يعرفه أنه مشرك، ويعرف أنّه جاء ليقاتله، رغم ذلك أعلمه أنني لا أنسى موقفك الأخلاقي السابق، قال:
((واللهِ ما ذممناه صهراً))
فلما وقع أسيراً أحسن إليه، فَمَلَكَه بهذا الإحسان، إن رأيتم أن تردوا له
ماله فافعلوا، هذا مما أحبَّ أنْ يفعله أصحابه، المواقف الأخلاقية تفاعلت
إلى أن حملته على الإسلام، الآن بالعكس، تتعامل مع مسلم فيسبِّب لك مشكلة،
ويكذب عليك، ويغشك، فيبدو من خلال أفعالِه هذه أنّ الدين باطل، وأن الدين
كله خلط، فأنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك، أنت سفير تمثل
المسلمين، فكن ملتزمًا بدينك تكنْ داعيةً للإسلام، وأنت ساكت .
والحمد لله رب العالمين
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).